يجد المسيحيّون أنفسهم في الشرق الأوسط محاصرين بالهواجس واختلال الميزان الديموغرافي، ولم يبقوا مؤثّرين إلّا في لبنان، فمسيحيّو لبنان لطلما حافظوا على وجودهم في السلطة، وكذلك كرّسوا بعداً اجتماعيّاً متنوّعاً في المشرق، كما عزّزوا حضوراً ثقافيّاً بالغ التأثير. ووضع لبنان مهم كونه آخر معقلٍ للتعدّديّة في الشرق الأوسط، كما برز كحاضنةٍ للثقافات والتعدّديّة والتنوّع.
إلا ان لبنان في تاريخه الحديث مرّ بحقبات سياسيّة عديدة منها الحقبة المارونيّة (1943 – 1975)، التي كان القرار النهائي فيها للبُنية السياسيّة المارونيّة، أعقبتها فترة احتضارٍ استمرّت أربع عشرة سنةٍ، فقد فتحت الحرب المسيحيّة-المسيحية الباب أمام مرحلةٍ جديدة، آلت اليد العليا فيها للمسلمين وبدأ معها ما سمي بالإحباط المسيحي، وانتهت هذه الحقبة بمؤتمر الطائف 1989 ومقرّراته التي افتتحت ما اصطلحنا على تسميته ب”السنيّة السياسيّة” التي استمرّت حتّى 2005، لتعقبها “الشيعيّة السياسيّة” وهي سمة زمننا الحاضر. وقد خضع لبنان لسُلطَة الوصاية السُّوريّة ما بين العامين 1990 و 2005، حيث أدارتْ شؤونه ومؤسّساته الدُّستوريّة وفرضت عليه نظاماً أمنيّاً – استخبارتيّاً وعلاقاتٍ تعاهديّةً إستثنائيّة (معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق) تصبّ في مصلحتها.
وما يهمّنا في هذه الدراسة هو مرحلة ما بعد الطائف، حيث تميّزت هذه المرحلة بعمليّةُ ضرْب المارونيّة السياسيّة والحالة المسيحيّة عموماً الذي شَمل كُلّ مُستويات الوجود المسيحي في البلاد. سنقوم بعرض الدور السياسي المسيحي في لبنان وتحليله منذ عام 1990 ولغاية العام 2005 (تاريخ انتهاء حقبة الحريرية السياسيّة)، ومحاولة فهم الأسباب السياسيّة التي أدّت إلى تآكل أحد مكوّنات لبنان الأساسيّة والتراجع المتسارع للوجود المسيحي فيه. فما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا التحوّل الكبير؟ وما هي مظاهر الإحباط المسيحي؟ وهل يمكن إيقاف الانحدار؟.