السنة ٩٨

الجزء الأوَّل

السنة الثاّمنة والتسعون | الجزء الأوَّل | كانون الثاني – حزيران ٢٠٢٤

أطلب نسختك الورقيّة

إشترِ نسختك الرقميّة

إفتتـاحيّــة العدد

اقرأ الافتتاحيّة كاملةً

في مسألة الشّرّ المطلق وعذابات الأطفال

ارتبط موضوع عذاب الأطفال ومعاناتهم، أكان ذلك بالمرض أو القتل، بقضيّة الشّرّ المطلق، وإنْ تحدّثنا عنهم في هذه المقالة الافتتاحيّة، فلأنّنا نفتتح نهارنا ونكمل ليلنا، بالقهر الّذي يطال المئات بل الآلاف من كلّ الفئات العمريّة الّتي لا حول ولا قوّة لها أمام الآلات الحربيّة الّتي تعدم الوجود وأوّل من تعدم أولئك الأبرياء المساكين.

يقول القدّيس أغسطين المؤمن ذو الصّوت العالي: «عندما نصل إلى أمر عذابات الأطفال فإنّني أجد نفسي في حرجٍ عميق وليس لديّ من جواب. تقتلهم الأمراض وتمزّقهم العذابات ويعذّبهم الجوع والعطش وتمحوهم الحروب. نعم، اﷲ هو الصّالح والعادل والضّابط الكلّ، ولا مجال للشّكّ في ذلك، إلّا أنّنا نقول لأيّ سبب يحكم الأطفال بالعذاب من جرّاء مختلف الشّرور الّتي تحيط بهم؟

القدّيس أغسطين لم يجد جوابًا عن تساؤلاته هذه. إلّا أنّ مجرّد السّؤال وعرض الفكرة بهذه الطّريقة تجعله يقول إنّ عذاب الأطفال هو شرّ مطلق وهو عيب لا يمحى في خلق اﷲ، بحيث من المنطق أن يتوسّع الحكم ليصل إلى مجمل الخلق. من هنا ميّز بعضُهم بين الشّرّ المطلق والشّرّ النّسبيّ، حيث إنّه لا تُرجى أيّ فائدة من الأوّل ويبقى شرًّا من جميع جوانبه، ومهما تفرّسنا فيه، في حين أنّ النّسبيّ ربّما أتى بفائدة على من يقوم به بحيث يرتدع ويتحوّل، أكان ذلك فردًا أم جماعة، في حين أنّ الشّرّ المطلق هو المرفوض جملة وتفصيلًا من أيّ حكمة بشريّة أو إلهيّة، فهي لا تريده ولا ترغب به ولا تقبل به إلّا لغاية أو مصلحة. وموت الأطفال الأبرياء هو في هذا الباب، وليس شائبة أن نقول إنّه خطيئة الخطايا.

ونزيد على ذلك أنّه في العديد من الأحيان لا مبرّر للشّرّ المطلق المتمثّل هنا في موت الأطفال وفي عذاباتهم. فالطّفل ليس لديه سوى المسؤوليّة النّسبيّة عن نفسه وعن غيره، وهذا ما يتحقّق بقوّة التّربية على كلّ ما هو خير وأمان. فالمسؤوليّة الأهمّ، إن لم نقل الكاملة، هي في يد الإنسان في غالب الأحيان، أي الإنسان العاقل والنّاضج والحكيم والطّيّب الّذي ينقلب إلى وحش يغلّب غرائزه على عقلانيّته، فيضع جانبًا حريّته المسؤولة عن ذاته وعن أخيه الإنسان، وكيف يستقبل اﷲ بذلك؟ أهو خلق وحشًا أم ماذا؟ إنّه في الواقع خلق مشروعًا بشريًّا للحياة وبناء الحياة، وبالتّالي هو وضع المحبّة الفضلى في مواجهة قساوة البشر، وإدانة القساوة المطلقة هي وجه من أوجُه محبّة اﷲ، فكيف لنا ألّا ننادي عاليًا بأنّ يتوقّف الإنسان عن ممارسة أعمال الشّرّ المطلق تجاه قريبه؟!

 

الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة.
[email protected]

إفتتـاحيّــة العدد

اقرأ الافتتاحيّة كاملةً

في مسألة الشّرّ المطلق وعذابات الأطفال

ارتبط موضوع عذاب الأطفال ومعاناتهم، أكان ذلك بالمرض أو القتل، بقضيّة الشّرّ المطلق، وإنْ تحدّثنا عنهم في هذه المقالة الافتتاحيّة، فلأنّنا نفتتح نهارنا ونكمل ليلنا، بالقهر الّذي يطال المئات بل الآلاف من كلّ الفئات العمريّة الّتي لا حول ولا قوّة لها أمام الآلات الحربيّة الّتي تعدم الوجود وأوّل من تعدم أولئك الأبرياء المساكين.

يقول القدّيس أغسطين المؤمن ذو الصّوت العالي: «عندما نصل إلى أمر عذابات الأطفال فإنّني أجد نفسي في حرجٍ عميق وليس لديّ من جواب. تقتلهم الأمراض وتمزّقهم العذابات ويعذّبهم الجوع والعطش وتمحوهم الحروب. نعم، اﷲ هو الصّالح والعادل والضّابط الكلّ، ولا مجال للشّكّ في ذلك، إلّا أنّنا نقول لأيّ سبب يحكم الأطفال بالعذاب من جرّاء مختلف الشّرور الّتي تحيط بهم؟

القدّيس أغسطين لم يجد جوابًا عن تساؤلاته هذه. إلّا أنّ مجرّد السّؤال وعرض الفكرة بهذه الطّريقة تجعله يقول إنّ عذاب الأطفال هو شرّ مطلق وهو عيب لا يمحى في خلق اﷲ، بحيث من المنطق أن يتوسّع الحكم ليصل إلى مجمل الخلق. من هنا ميّز بعضُهم بين الشّرّ المطلق والشّرّ النّسبيّ، حيث إنّه لا تُرجى أيّ فائدة من الأوّل ويبقى شرًّا من جميع جوانبه، ومهما تفرّسنا فيه، في حين أنّ النّسبيّ ربّما أتى بفائدة على من يقوم به بحيث يرتدع ويتحوّل، أكان ذلك فردًا أم جماعة، في حين أنّ الشّرّ المطلق هو المرفوض جملة وتفصيلًا من أيّ حكمة بشريّة أو إلهيّة، فهي لا تريده ولا ترغب به ولا تقبل به إلّا لغاية أو مصلحة. وموت الأطفال الأبرياء هو في هذا الباب، وليس شائبة أن نقول إنّه خطيئة الخطايا.

ونزيد على ذلك أنّه في العديد من الأحيان لا مبرّر للشّرّ المطلق المتمثّل هنا في موت الأطفال وفي عذاباتهم. فالطّفل ليس لديه سوى المسؤوليّة النّسبيّة عن نفسه وعن غيره، وهذا ما يتحقّق بقوّة التّربية على كلّ ما هو خير وأمان. فالمسؤوليّة الأهمّ، إن لم نقل الكاملة، هي في يد الإنسان في غالب الأحيان، أي الإنسان العاقل والنّاضج والحكيم والطّيّب الّذي ينقلب إلى وحش يغلّب غرائزه على عقلانيّته، فيضع جانبًا حريّته المسؤولة عن ذاته وعن أخيه الإنسان، وكيف يستقبل اﷲ بذلك؟ أهو خلق وحشًا أم ماذا؟ إنّه في الواقع خلق مشروعًا بشريًّا للحياة وبناء الحياة، وبالتّالي هو وضع المحبّة الفضلى في مواجهة قساوة البشر، وإدانة القساوة المطلقة هي وجه من أوجُه محبّة اﷲ، فكيف لنا ألّا ننادي عاليًا بأنّ يتوقّف الإنسان عن ممارسة أعمال الشّرّ المطلق تجاه قريبه؟!

 

الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة.
[email protected]

محتويات العدد

i

مقالات هذا العدد

في مسألة الشّرّ المطلق وعذابات الأطفال

ارتبط موضوع عذاب الأطفال ومعاناتهم، أكان ذلك بالمرض أو القتل، بقضيّة الشّرّ المطلق، وإنْ تحدّثنا عنهم في هذه المقالة الافتتاحيّة، فلأنّنا نفتتح نهارنا ونكمل ليلنا، بالقهر الّذي يطال المئات بل الآلاف من كلّ الفئات العمريّة الّتي لا حول ولا قوّة لها أمام الآلات الحربيّة الّتي تعدم الوجود وأوّل من تعدم أولئك الأبرياء المساكين.

يقول القدّيس أغسطين المؤمن ذو الصّوت العالي: «عندما نصل إلى أمر عذابات الأطفال فإنّني أجد نفسي في حرجٍ عميق وليس لديّ من جواب. تقتلهم الأمراض وتمزّقهم العذابات ويعذّبهم الجوع والعطش وتمحوهم الحروب. نعم، اﷲ هو الصّالح والعادل والضّابط الكلّ، ولا مجال للشّكّ في ذلك، إلّا أنّنا نقول لأيّ سبب يحكم الأطفال بالعذاب من جرّاء مختلف الشّرور الّتي تحيط بهم؟

القدّيس أغسطين لم يجد جوابًا عن تساؤلاته هذه. إلّا أنّ مجرّد السّؤال وعرض الفكرة بهذه الطّريقة تجعله يقول إنّ عذاب الأطفال هو شرّ مطلق وهو عيب لا يمحى في خلق اﷲ، بحيث من المنطق أن يتوسّع الحكم ليصل إلى مجمل الخلق. من هنا ميّز بعضُهم بين الشّرّ المطلق والشّرّ النّسبيّ، حيث إنّه لا تُرجى أيّ فائدة من الأوّل ويبقى شرًّا من جميع جوانبه، ومهما تفرّسنا فيه، في حين أنّ النّسبيّ ربّما أتى بفائدة على من يقوم به بحيث يرتدع ويتحوّل، أكان ذلك فردًا أم جماعة، في حين أنّ الشّرّ المطلق هو المرفوض جملة وتفصيلًا من أيّ حكمة بشريّة أو إلهيّة، فهي لا تريده ولا ترغب به ولا تقبل به إلّا لغاية أو مصلحة. وموت الأطفال الأبرياء هو في هذا الباب، وليس شائبة أن نقول إنّه خطيئة الخطايا.

ونزيد على ذلك أنّه في العديد من الأحيان لا مبرّر للشّرّ المطلق المتمثّل هنا في موت الأطفال وفي عذاباتهم. فالطّفل ليس لديه سوى المسؤوليّة النّسبيّة عن نفسه وعن غيره، وهذا ما يتحقّق بقوّة التّربية على كلّ ما هو خير وأمان. فالمسؤوليّة الأهمّ، إن لم نقل الكاملة، هي في يد الإنسان في غالب الأحيان، أي الإنسان العاقل والنّاضج والحكيم والطّيّب الّذي ينقلب إلى وحش يغلّب غرائزه على عقلانيّته، فيضع جانبًا حريّته المسؤولة عن ذاته وعن أخيه الإنسان، وكيف يستقبل اﷲ بذلك؟ أهو خلق وحشًا أم ماذا؟ إنّه في الواقع خلق مشروعًا بشريًّا للحياة وبناء الحياة، وبالتّالي هو وضع المحبّة الفضلى في مواجهة قساوة البشر، وإدانة القساوة المطلقة هي وجه من أوجُه محبّة اﷲ، فكيف لنا ألّا ننادي عاليًا بأنّ يتوقّف الإنسان عن ممارسة أعمال الشّرّ المطلق تجاه قريبه؟!

 

الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة.
[email protected]

أزمة الإنسان المعاصر بين الإيمان والإلحاد

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

تتحدّث المقالة عن التّحوّلات الثّقافيّة والفلسفيّة الّتي يمرّ بها الإنسان المعاصر بشأن مفاهيم الإيمان والإلحاد، ودور التّنوير بوصفه حركةً عقلانيّة فلسفيّة وثقافيّة في أوروبا أنتجت المدارسَ الإلحاديّة، وسلّطت الضّوء على التّطوّرات العلميّة والتّكنولوجيّة والاهتمام المتزايد بالعقلانيّة والفرديّة والنّسبيّة الّتي تشجّع على التّشكيك في الدّين، وتركّز على العقل والمنهج العلميّ في فهم العالم واتّخاذ القرارات وتحديد القيم من دون الله. وتوضّح كيف أنّ العقل أصبح، بعد هذا التّحوُّل المنهجيّ والتّاريخيّ في الحضارة الغربيّة، مصدرًا أساسيًّا من مصادر المعرفة من أجل بلوغ الحقيقة.

تتحدّث المقالة عن ربط بعض الاتّجاهات الإلحاديّة المعاصرة الإيمان بالإحساس بالخوف والشّعور بعدمِ القدرة على التّحكّم بالحياة والمصير، وأنّ الله الّذي يتوجّه إليه الإنسان هو من اختراعه وابتكار مخيّلته، حيث يُسقط الإنسان خارج ذاته كائنًا أسطوريًّا، مجسِّدًا أفضل ما لديه في كائن وهميّ من صنع مخيّلته، ويُسمّيه «الله». وهي تستشهد بآراء هنري دي لوباك وموريس بلوندل وغيرهم من المفكّرين لتؤكّد أنّ الإلحاد يرفض الصّورة الخاطئة لله في المسيحيّة، مركّزة على أهميّة الإيمان والعلاقة الشّخصيّة مع الله الّتي تُبنى على أسس الحقيقة والمحبّة.

 وفي الختام، دعوة إلى فتح باب للحوار، بين الإيمان والفكر المعاصر، عن الحقيقة في عالم اليوم للتّعامل مع التّحدّيات الّتي يطرحها الإلحاد في عالم يتغيّر بسرعة. ويطرح العديد من الأسئلة عن دور كلٍّ من العلم والإيمان وضرورة الاعتراف بأنّ كلًّا منهما لديه حدوده.

الكلمات المفتاحيّة: التّنوير- العقل- العلم- الإيمان- الفكر المعاصر- أوروبا- الدّين- الفلسفة- الحقيقة- الفرديّة- النّسبيّة- الإلحاد المعاصر- الحرّيّة.

La crise de l’homme contemporain entre la foi et l’athéisme

Dr. Suzanne Wakim Wakim

L’article parle du mouvement des Lumières en Europe, qui s’est développé en réaction à l’immobilisme religieux médiéval. Il met en avant la promotion de la raison et de la science comme moyens essentiels pour comprendre le monde, reléguant les idées qui ne respectaient pas ces principes. De plus, il souligne une crise d’athéisme contemporain, où certains mouvements athées modernes insistent sur la liberté individuelle de croyance et l’importance de la raison pour déterminer les valeurs et les significations, sans Dieu. Cette perspective crée un mouvement humaniste qui met en avant la liberté de pensée et l’autonomie individuelle dans l’exploration de la réalité et de la signification.t

L’article met également au sommet la notion que l’homme a créé Dieu pour combler un vide intérieur, attribuant à Dieu ce qu’il a retiré de lui-même. Il plaide pour la destruction des religions conçues pour satisfaire les désirs égoïstes de l’homme, citant des philosophes et écrivains qui ont critiqué les religions pour leur impact négatif sur la vie humaine. En fin de compte, le texte encourage le dialogue entre la foi en Dieu et la pensée contemporaine, soulignant l’importance de la vérité et de l’amour envers les autres, et propose que l’homme peut être son propre créateur de sens, créant sa propre signification dans un monde qui semble dépourvu de divinité. t

Mots clés: Lumières – Europe – Immobilisme religieux – Raison – Science – Athéisme contemporain – Liberté individuelle – Dialogue – Foi – Humanisme – Autonomie – Création de sens – Divinité – Religion – Philosophes – Écrivain – Vérité.t

الدّكتورة سوزان واكيم واكيم: راهبة من جمعيّة الرّاهبات الباسيليّات المخلّصيّات. حائزة دكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللّبنانيّة (٢٠٢٠). محاضِرة في الفلسفة الغربيّة وفلسفة الأخلاق والأنثروبولوجيا والفلسفة المسيحيّة في عدد من الكلّيّات والمعاهد من بينها: معهد الآداب الشّرقيّة في جامعة القدّيس يوسف–بيروت. من مؤلّفاتها: كتاب الأسس الأنثربولوجيّة في فلسفة يوسف راتسنغر «البابا بندكتوس السادس عشر»، وبحثان علميّان “المجتمع العربيّ المعاصر: جدليّة البعد السياسيّ والدّينيّ” و” معرفة الرّوح لذاته في فلسفة هيغل”، ومقالة “الأديان والعنف في الشّرق الأوسط”، ألقيت في جامعة جنوب كاليفورنيا – لوس أنجلس.

[email protected]

البطريرك يوسف إسطفان والعالِم ميخائيل الغزيري في ضوء وثائق تُنشر للمرّة الأولى

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

نعرض في هذه المقالة أربعة مستندات وجدناها في مدينة مدريد الإسبانيّة، وتنشر للمرّة الأولى، متضمّنة ثلاث رسائل صادرة عن البطريرك يوسف إسطفان وموجّهة إلى العالِم ميخائيل الغزيري، وهي تشكّل نظرة جديدة إلى علاقات البطريركيّة المارونيّة بالبلاط الإمبراطوريّ الإسبانيّ، ودور الغزيري في تعزيز هذه العلاقات، من خلال مركزه العلميّ في المجتمع الإسبانيّ، وطلب المساندة منه لتذليل المشاكل والهموم الدّينيّة والعامّة للبطريرك إسطفان. بالإضافة إلى نصّ يحتوي شرحَ نقش فينيقيّ وجد في مالطا، ولم يأت أحد من مؤرّخي الغزيري على ذكره.

كلمات مفتاحيّة: البطريركيّة المارونيّة – البطريرك يوسف إسطفان – العالِم ميخائيل الغزيري – الاستشراق في إسبانيا.

Le Patriarche Youssef Estéphane et l’orientaliste Michel Casiri à la lumière de documents inédits

Dr. Hyam Mallat

Cet article présente quatre documents inédits acquis à Madrid et publiés pour la première fois, qui apportent un nouveau témoignage sur les relations entre le Patriarche Estéphane et Michel Casiri. Outre la publication d’un texte original jamais relevé dans l’œuvre de Casiri concernant une inscription phénicienne découverte à Malte, trois documents du Patriarche Estéphane jettent une nouvelle lueur sur les relations entre le Patriarcat maronite et la Cour d’Espagne, le rôle de Casiri dans le raffermissement de ces relations, sa place scientifique dans cette société et le soutien qui lui est réclamé pour répondre à des préoccupations religieuses et publiques du Patriarche Estéphane.t

Mots clés: Patriarcat maronite – le Patriarche Youssef Estéphane – l’orientaliste Michel Casiri – l’orientalisme en Espagne.t

الدّكتور هيام جورج ملّاط: محامٍ وعالِم اجتماع وأستاذ جامعيّ. رئيس سابق لمجلس إدارة الصّندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ (1993 – 1999)، ومؤسّسة المحفوظات الوطنيّة (1999 – 2002). حائز جائزتين من الأكاديميّة الفرنسيّة في العامين 2002 و2009. أصدر مؤلّفات عدّة باللّغات العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، من بينها لبنان نشأة الحرّيّة والدّيمقراطيّة في الشّرق الأدنى (2020)، والحقوق والمحاماة والقضاء في لبنان قبل تأسيس نقابة المحامين في العام 1919 (2019).

[email protected]

مدارس إهدن – زغرتا في أرشيف البطريركيّة المارونيّة بين العامين 1900 – 1915

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

سلّطت هذه الدّراسة الضّوء، من خلال “الفحص الّذي أجري على قرى الجبّة في العام 1900 والزّيارة الرّعائيّة الّتي قام بها كلّ من الخوري جبرايل مبارك، والخوري جبرايل كيرلّس، في العام 1901 من جهة، وأرشيف البطريركيّة المارونيّة، جارور البطريرك إلياس الحويّك من جهة ثانية، على مرحلة مهمّة من تاريخ إهدن – زغرتا على الصّعيد التّربويّ. واللّافت في مسيرة أهالي القريتين، توجّههم نحو العلم. وقد سعَوا إلى فتح العديد من المدارس بموافقة غبطة البطريك إلياس الحويّك، هذه المدارس كان لها دور فاعل في تنشئة أجيال من القريتين، حيث حظيت إهدن بستّ مدارس ناجحة ومن بينها مدرسة للبنات، وكان في مقدّمة هذه المدارس، مدرسة مار يوسف – زغرتا ومدرسة راهبات المحبّة ومدرسة الفرير. كما سلّطت هذه الدّراسة الضّوء على تعليم الإناث، ووضع المعلّمين والمعلّمات الثّقافيّ، والمادّيّ في مرحلة الدّراسة، وكذلك احتجاجات الأهالي على الوضع الإداريّ والتّعليميّ لبعضها، وتعامل البطريرك مع هذه الاحتجاجات بطريقة أبويّة. إلّا أنّها بالنتيجة تركت الأثر الطّيّب في زمنها، في وقت كان تحصيل العلم في مجتمعات جبل لبنان صعب المنال، في ظلّ أوضاع اجتماعيّة ومادّيّة ضاغطة.

الكلمات المفتاحيّة:  إهدن – زغرتا- جورنال الفحص – المدارس – التّربية.

Les écoles d’Ehden – Zgharta dans l’archive du Patriarcat maronite entre les années 1900 – 1915

Dr. Majdeline Saad El Ters

A travers l’enquête menée sur les villages de Jebbeh en 1900 ainsi que la visite pastorale effectuée par chacun des prêtres Gebrayel Moubarak et Gebrayel Keryllos en 1901 d’une part, et d’après les archives du patriarcat maronite d’autre part, cette étude met en évidence une période cruciale de l’histoire d’Ehden et de Zgharta sur le plan éducatif. En fait, l’importance accordée par les habitants de ces deux villages à l’éducation est vraiment remarquable. Ainsi, ont-ils contribué à ouvrir plusieurs écoles avec l’approbation de sa béatitude le patriarche Elias Hoayek. Ces écoles ont joué un rôle éminent dans la formation des générations des deux villages ; et Ehden, notamment, a fondé six écoles couronnées de succès dont une école pour filles. St Joseph Zgharta, l’école des Sœurs de la Charité et l’école des frères eurent particulièrement une grande distinction. De surcroit, cette étude met l’accent sur la scolarisation des filles ainsi que sur le niveau culturel des professeurs et leur situation économique en période d’études. Les protestations des parents contre la situation administrative et pédagogique, et les tentatives du patriarche à les calmer de façon paternaliste font de même partie intégrante de cette étude.t

Néanmoins, toutes ces institutions ont laissé de bonnes traces à leur époque, là où l’éducation au Mont Liban était un but difficile à atteindre compte tenu des conditions sociales et économiques inquiétantes. t

Mots clés : Ehden – Zgharta – Journal d’examination – École- Éducation. t

الدّكتورة مجدولين سعد التّرس: حائزة شهادة دكتوراه من كلّيّة الآداب والفنون، قسم التّاريخ في جامعة الرّوح القدس – الكسليك. عن أطروحتها: “البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة لزغرتا – إهدن بين عامَي 1900 – 1918 (دراسة موثّقة)”. وحائزة الماستر من الجامعة اللّبنانيّة عن رسالة بعنوان: “تاريخ جبيل السّياحيّ بين عامَي 1998 – 2017″. من منشوراتها مقالة في مجلّة المشرق، العدد 2023، ج.1، بعنوان “دراسة ديموغرافيّة لرعيّة حريقص بين العامَين “1900-1918″من خلال دفتر الخمس”.

[email protected]

منهج ترتيب موادّ المعجم اللّغويّ العربيّ ومشتقّاتها بين الأمس واليوم

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

يعدّ التّرتيب أحد أهمّ شروط الـمعجم، وإلّا لا يكون معجمًا، إذ لولا منهج التّرتيب لأَمضى الباحث ساعاتٍ بل أيّامًا في التَّفتيش عن كلمة ومعناها. وعرف هذا التّرتيب تطوّرات كثيرة عبر التّاريخ التّأليفيّ، وكانت متدرّجة من الصّعب إلى الأسهل فالأسهل، إلى أن استقرّ على ترتيب الزّمخشري القائم على تقسيم الـمعجم وفق التّرتيب الألفبائيّ، ووزّع الكلمات فيه بحسب أوائل جذورها مع مراعاة الحرف الثّاني، فالثّالث، فالرّابع، فالخامس من كلّ منها.

وكذلك فإنّ الـمادّة اللّغويّة تكون كبيرة في كثير من الأحيان، ولذا كان لا بدّ من منهج ترتيبيّ لـمشتقّات الـمادّة. هذا البحث يرصد تطوّر ترتيب موادّ الـمعجم وكذلك ترتيب مشتقّاته.

الكلمات المفتاحيّة: التّرتيب الـمعجميّ – منهج – الـموادّ المعجميّة – التّرتيب الألفبائيّ – التّرتيب النّطقيّ -نظام التّقليبات – مشتقّات الـمادّة.

L’approche de la classification du lexique du dictionnaire linguistique arabe et de ses dérivés entre hier et aujourd’hui

Dr. Marwa Yakhni

L’ordre est l’une des conditions les plus importantes pour un dictionnaire, sinon ce ne serait pas un dictionnaire, car sans l’approche de l’ordre, le chercheur aurait passé des heures, voire des jours, à chercher un mot et sa signification. Cette organisation a connu de nombreuses évolutions tout au long de l’histoire de la lexicographie et a été progressive du plus difficile au plus facile, jusqu’à ce qu’elle se stabilise avec l’ordre d’Al-Zamakhshari basé sur la division du lexique selon l’ordre alphabétique. Il y a classé les mots en fonction des premières lettres de leurs racines, en tenant compte de la deuxième lettre, puis de la troisième, de la quatrième, et de la cinquième de chacune.t

De même, le lexique est souvent très vaste, c’est pourquoi il était nécessaire d’établir une méthode d’organisation pour les dérivés des mots. Cette recherche examine l’évolution de l’organisation des mots du dictionnaire, ainsi que l’organisation de leurs dérivés.t

Mots clés: L’ordre lexicographique – une approche – la lexicographie – l’ordre alphabétique – l’ordre phonétique – Système de déclinaison – les dérivés.t

الدّكتورة مروى يخني: حائزة دكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها من معهد الآداب الشّرقيّة، جامعة القدّيس يوسف عن أطروحتها: المصاحبات اللّفظيّة وأهمّيّتها المعجميّة (معجم أساس البلاغة- ومعجم اللّغة العربيّة المعاصرة- ومعجم المنجد في اللّغة العربيّة المعاصرة- نماذج). تساهم منذ العام 2022 في تحرير مشروع المعجم التّاريخيّ الصّادر عن مجمع اللّغة العربيّة في الشّارقة -الإمارات. وهي أستاذة في معهد حلبا الرّسميّ ومعهد سير الرّسميّ. من منشوراتها مقالة “ابن جنّي في الاشتقاق الكبير بين الوهم والتّعسّف” نشرت في مجلّة المشرق، العدد 96، ج.2، تمّوز-كانون الأوّل 2022.

[email protected]

صوتُ الأنا وصوتُ الآخر- صورة اللّفظ وأصداء المعنى-رواية “سمّ في الهواء” لجبّور الدّويهي أنموذجًا-دراسة لسانيّة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

إنّ المتأمّل في حركة الرّواية المعاصرة يعلم حجم الاستثمار الإنسانيّ الّذي أحاط بها، من حيث استدراج غير طريقة أو منهج سرديّ في سبيل إنتاج المعرفة من الأعمال الرّوائيّة الحديثة. وكانت نظريّة “الأصوات المتنوّعة” لرائدها (باختين) خير دليل على ذلك، وهي قامت على تصنيفات صوتيّة لشخوص الرّواية، ولا سيّما صوت الرّاوي… وفي هذا المجال ينصبّ العمل على رواية “سمّ في الهواء” للرّوائيّ “جبّور الدّويهي”، فتكون مقاربة صوت الأنا وصوت الآخر، بالتّوازي مع صورة اللّفظ وصداه المعنويّ.

الكلمات المفتاحيّة : النظريّة الحواريّة- الأصوات المتعدّدة-صوت الأنا-صوت الآخر-الخطاب الرّوائيّ-سوسيولوجيا الرّواية- المستوى الصّوتيّ-المستوى الدّلاليّ-المستوى البنائيّ.

La voix du Je et la voix de l’Autre, image de la prononciation et écho du sens, roman  “Poison dans l’air”, de Jabbour Al-Douaihy comme modèle- Étude linguistique

Dr. Ali Nassereddine

Qui médite sur le mouvement du roman contemporain comprend l’ampleur de l’investissement humain qui l’entoure, grâce au recours à plus d’une méthode ou approche narrative afin de produire des connaissances à partir des œuvres modernes. La théorie des “Voix diverses” mise au point par Bakhtine en a été la meilleure preuve, théorie qui s’appuie sur des classifications sonores pour les personnages du roman, avec notamment la voix du narrateur… Le travail porte sur le roman « Poison dans l’Air », de l’auteur Jabbour Al – Douaihy, se basant sur une approche entre la voix du Moi et la voix de l’autre, en parallèle avec l’image de l’énoncé et son écho moral.t

Mots clés: La théorie du dialogue-Polyphonie- La voix du Je- La voix de l’Autre- Discours narratif- Sociologie du roman-Niveau de paroles-Niveau sémantique- Niveau structurel.t

الدّكتور عليّ ناصر الدّين: رئيس قسم اللّغة العربيّة في مركز علوم اللّغة والتّواصل في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الجامعة اللّبنانيّة، وأستاذ اللّسانيّات العربيّة فيها، وفي عدد من الجامعات الخاصّة. حائز شهادة الدّكتوراه  في علم فقه اللّغة من جامعة بوخارست-رومانيا (2006) عن أطروحة بعنوان “الصّفات النّموذجيّة (الطّرازيّة) للحيوان في المعاجم الكلاسيكيّة العربيّة والتّراث الشّعبيّ اللّبنانيّ”. من منشوراته: “لسانيّات النّصّ وتجلّياتها في فنّ القصّة القصيرة (مجلّة اتّجاه، العدد 59، حزيران 2023) ، اللّسانيّات الخطابيّة بين مساحة النّصّ وفضاءات التّواصل (مجلّة أوراق ثقافيّة، العدد 25، مايو 2023)، اللّسانيّات النّصّيّة وسؤال المعنى (مجلّة المنافذ الثّقافيّة، العدد 43، حزيران 2023).

[email protected]

مولِد كنيسة أنطاكية في أعمال الرّسل – وديعة المصالحة ومفارقة المضطهِد والمضطهَد

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

يُعدّ اضطهاد اليهود وشاول الطّرسوسيّ لإسطفانُس والجماعة المسيحيّة الأولى، وتأسيس كنيسة أنطاكية على نهر العاصي (أع ٦: ٨-٨: ٤؛ ١١: ١٩-٢٦)، حدَثين رئيسِيّين في انتشار الشّتات اليهوديّ المسيحيّ. فتأسَّست جماعة يهوديّة-مسيحيّة واستقرّت في أنطاكية، وكانت المدينة حينها عاصمة الإقليم الرّومانيّ لسوريا، ومركزًا تجاريًّا واقتصاديًّا مهمًّا ساهم في مزج الثّقافات ولقاء الدّيانات. وفي وسط التّحوّل الهائل لمجموعةٍ يهوديّة تؤمن بيسوع المسيح القائم من بين الأموات، سُمّي أفرادها “مسيحيّون” لأوّل مرّة في تاريخ الكنيسة (أع ١١: ٢٦). 

في هذه المقالة سنسعى للإجابة عن التّساؤل البحثيّ التّالي: أيّ انفتاح رسوليّ عرفته كنيسة أنطاكية، وأيّ عطيّة إلهيّة خاصّة مكّنتها من عيش هذه المصالحة كمثال للكنيسة جسد المسيح؟

تعتمد دراستنا على منهج التّحليل الرّوائيّ لدراسة النّصوص الكتابيّة؛ سنحدّد المقطع الكتابيّ المراد دراسته ونبرّر هذا الاختيار في سياق الرّواية العامّ، ثمّ نعلِّق بحسب أدوات التّفسير الكتابيّ على أهمّ النّقاط، وسنعرِّج في الخطوة الثّانية للإضاءة على بعض الميّزات السّرديّة لهذا المقطع. وسنقوم في القسم الثّاني بتحليلٍ لاهوتيّ يجمّع تحليلاتنا، وسنختم بتساؤلاتٍ جوهريّة عن هوّيّة الكنيسة اليوم. 

سندرس الرواية/المقطع الكتابيّ: (أع ١١: ١٩-٢٦) الّذي يروي لوقا من خلاله ولادة كنيسة أنطاكية، الّتي يضعنا فيها لوقا أمام “مفارقة مستترة” إذ تجمع هذه الكنيسة المضطهِد والمضطهَد في “بيتٍ واحد”، فنعتبرها “حدثًا تأسيسيًّا” لولادة الكنيسة الحقيقيّة، جماعة من “المسيحيّين” على مثال سيّدهم. 

 

الكلمات المفتاحيّة: أنطاكيا – أعمال الرّسل – الكنيسة الأولى – الاضطهاد الدّينيّ – التّحليل الرّوائيّ.

L’Église d’Antioche, le dépôt de la réconciliation et le paradoxe du persécuteur-persécuté. t

P. Tony Homsi

La persécution d’Étienne et de la première communauté chrétienne par les Juifs et par Saul de Tarse, ainsi que la fondation de l’Église d’Antioche sur l’Oronte (Actes 6:8-8:4 ; 11:19-26), sont deux événements majeurs dans l’expansion de la diaspora judéo-chrétienne. Antioche qui était alors la capitale de la province romaine de Syrie et un important centre commercial et économique contribuant au mélange des cultures et à la rencontre des religions, voit apparaître une communauté judéo-chrétienne et sa fondation dans cette région.t

Au milieu de la formidable transformation de ces membres du groupe juif qui croyait en Jésus-Christ ressuscité des morts, le nom “chrétiens” leur fut attribué pour la première fois dans l’histoire de l’Église (Actes 11:26). t

Dans cet article, nous tenterons de répondre à la question suivante : Quelle ouverture apostolique l’Église d’Antioche a-t-elle connue et quel don divin particulier lui a permis de vivre cette réconciliation comme un exemple pour l’Église, le Corps du Christ ? t

Pour cela, dans la première partie, notre étude s’appuiera sur l’approche de l’analyse narrative pour étudier les textes bibliques ; puis dans la deuxième partie, nous procèderons à une analyse théologique pour conclure par des questions fondamentales sur l’identité de l’Église aujourd’hui. t

A cet effet, nous étudierons le récit/passage biblique : (Actes 11,19-26) dans lequel Luc raconte la naissance de l’Église d’Antioche, dans lequel Luc nous place devant un “paradoxe implicite” en réunissant cette église, le persécuteur et le persécuté, dans “une seule maison”, de sorte que nous considérons qu’il s’agit d’un “événement fondateur” pour la naissance de la véritable Église, un groupe de “chrétiens” suivant l’exemple de leur Seigneur. t

Mots clés : Antioche – Actes des Apôtres – l’Église Primitive – Persécution Religieuse – Analyse Narrative. t

الأب طوني حمصي اليسوعيّ: مدير التّواصل الرّقميّ للرّهبانيّة اليسوعيّة في الشّرق الأدنى والمغرب العربيّ. مشرف على النّسخة الرّقميّة للكتاب المقدّس باللّغة العربيّة في ترجمته الكاثوليكيّة. حائز شهادة ماجستير في اللّاهوت الكتابيّ – كلّيّة اللّاهوت اليسوعيّة – باريس، ودبلوم جامعيّ في الصّحافة الرّقميّة، جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له العديد من التّرجمات الصّادرة عن دار المشرق.

[email protected]

مقامتان عربيّتان لحِبرَي الكنيسة السّريانيّة البطريرك يوحنّا بن المعدنيّ والمفريان غريغوريوس بن العبريّ (القرن الثّالث عشر)

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

يشتمل هذا البحث على مقامتين عربيّتين مسيحيّتين تُنشران للمرّة الأولى، دبجهما حِبران من أحبار الكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة في القرن الثّالث عشر. وعلى حدّ ما يعرف الآن، فإنّ النّصَّين لم يحفظا سوى في مخطوطة واحدة لكلّ منهما. وقد كانت مقامة البطريرك يوحنّا بن المعدنيّ محفوظة في مخطوطة ثانية وصلت من ديار بكر إلى الولايات المتّحدة في أوائل القرن العشرين، إلّا أنّ آثارها دثرت بعد العام ١٩٢٨. أمّا مقامة المفريان غريغوريوس بن العبريّ فلم تحفظ سوى في مخطوطة كرشونيّة، أي عربيّة مكتوبة بحروف سريانيّة، سيّئة الحال، إلّا أنّه من الممكن استخراج الكلمات منها، وهو المهمّ.

ومع كون الحِبرين المذكورين سريانيّي اللّغة والتّراث، إلّا أنّهما كانا أيضًا على سعةٍ في الأمر من العربيّة. على أنّ ذلك لم يكن دومًا حال يوحنّا بن المعدنيّ الّذي انصبّ متأخّرًا على دراسة لغة الضّاد في أثناء إقامته سبع سنوات في بغداد بين العامَين ١٢٣٧ و١٢٤٤، يستقبل في قلّايته أحد مثقّفي المسلمين ليدرّبه عليها، ويقال إنّه ما كان يخرج من عتبة تلك القلّاية لتنسّكه. أمّا ابن العبريّ فلا يُذكر عنه شيء من هذا القبيل، بل يشتبه أنّه أجاد العربيّة، فضلًا عن السّريانيّة، منذ حداثته.

في المقامة الأولى، وهي ترجام كُتب ليُقرأ في عيد الميلاد، يأتي ابن المعدنيّ على خلق آدم ثمّ على نكبته وزلّته، فلمّا لمحته الرّحمة الإلهيّة، أرسل الله الأنبياء ليمهّدوا الطّريق الوعرة، ويعدّوا القلوب الكدرة، ويخبروا بالسّرّ العجيب، وينذروا بظهور الابن الحبيب. حتّى إذا ما أتت الأوقات المحدودة، عمّت الفرحة العالم وأشرق نور الخلاص. حينئذٍ صاحت ملائكة العلاء بلغات قائلة: “السّبح لله في العلى”، ونهدَ أملاك الفرس بالنّور الكوكبيّ وتأدّوا إلى المغارة والصّبيّ، تدنو معهم معاشر المؤمنين بالذّلّة والخضوع، مقرّبين لطيف الذّبائح الشّكريّة على المذابح القدسيّة، متنبّهين لنعمه العالية عن الإحصاء، طربين بمولده راغبين بتجسّده.

أمّا المقامة الثّانية لابن العبريّ فهي مرثيّة لا لشخص بالتّحديد، بل نصّ كتب ليقرأ على قبر الميّت فلان أيًّا كان، تظهر بلاغتها في صيحة حادّة الصّرير أمام إدبار الدّنيا فانية اللّذّات، تتلوها دعوة إلى التّوبة. وإذ يرفع الكاتب الإيقاع ويسرّع النّبض، فإنّه يصل إلى علوّ شعريّ عبر استخدام الصّيغ المكرّرة، كقوله يذمّ الدّنيا: “كثيرة المصائب! كثيرة النّوائب! كثيرة الحروب! كثيرة العيوب! كثيرة الذّنوب! كثيرة الأعراض! كثيرة الأغراض! كثيرة الأمراض!” أو عبر استخدام الأفعال المتضادّة كقوله “جمعت ثمّ فرّقت، آنست ثمّ أوحشت، أغنت ثمّ أفقرت، رفعت ثمّ هبطت، أوصلت ثمّ أبعدت، زيّنت ثمّ أزرت، أصلحت ثمّ أفسدت” أو عبر استخدام سؤال أين، كقوله: “أين الّذي كانت تمشي الخلق أمامهم وهم ركّاب؟ أين الّذي كان معهم كلام وخطاب؟ أين الّذي بنوا الدّور وعلّوا القباب؟ أين الّذي لبسوا أفخر الثياب؟” مذكّرًا أنّهم بعد الموت ليسوا سوى رميم وتراب، في البراري والخراب.

الكلمات المفتاحيّة: يسوع المسيح – مقامة – يوحنّا بن المعدنيّ – غريغوريوس بن العبريّ – عيد الميلاد، مرثيّة – مخطوطة – القرن الثّالث عشر – العربيّة – الكرشونيّة – السّريانيّة.

Deux homélies rimées inédites en arabe du patriarche Jean Bar Ma‘danī et du maphrien Grégoire Barhebraeus prélats de l’Église syrienne (XIIIe siècle)

Dr. Jean Fathi

Dans cet article sont éditées pour la première fois deux homélies arabes chrétiennes composées, dans le style de la maqāma arabe rimée, par deux ecclésiastiques de l’Église syrienne-orthodoxe au XIIIe siècle. A la mesure des connaissances actuelles, ces deux textes ne semblent être préservés que dans un seul manuscrit chacun. L’homélie du patriarche Jean Bar Ma‘danī était aussi conservée dans un ancien et précieux second manuscrit, transporté de Diyarbakır aux États-Unis au début du XXe siècle, dont la trace est néanmoins perdue depuis 1928. L’homélie du maphrien Grégoire Barhebraeus n’est quant à elle contenue que dans un unicum recopié en karšūnī, c’est-à-dire, en arabe écrit avec des caractères syriaques. Le manuscrit est en piteux état de conservation, mais il est possible d’en recouvrir les mots, ce qui est l’essentiel.t

Bien que les deux prélats en question aient été de langue et de tradition syriaque, ils étaient tout aussi bien à l’aise en arabe. Pour Jean Bar Ma‘danī, cependant, ceci ne fut pas toujours le cas. En effet, il se mit tard à l’arabe, lors d’un séjour de sept ans à Baġdād, vers 1237-1244, recevant chez lui un professeur musulman pour s’y exercer. Rien de tel n’est indiqué pour Barhebraeus, qui fut probablement bilingue dès son plus jeune âge.t

Dans la première homélie, écrite pour être lue à Noël, Bar Ma‘danī conte la création d’Adam, puis sa chute et ses tribulations. Ayant Adam en miséricorde, Dieu envoie les prophètes afin de préparer le chemin raboteux et les cœurs tourmentés, et pour révéler le secret stupéfiant qui est la théophanie du Fils bien-aimé. Quand le moment arrive, le monde est pris de joie et brille la lumière du salut. Les anges crient à voix haute: Gloria in excelsis Deo. Sur terre, les rois perses parviennent à la caverne en suivant l’étoile, et avec eux, les hommes présentent leurs offrandes en se prosternant et en louant le Sauveur pour ses grâces innombrables reçues à travers l’Incarnation.t

La deuxième homélie, celle de Barhebraeus, est une oraison funèbre, écrite non pour quelqu’un en particulier, mais plutôt en forme de sermon générique qui peut être lu sur la tombe d’une personne décédée, quelle qu’elle soit. La beauté surprenante de ce texte se perçoit à travers un cri grave et strident lancé contre la vanité d’un monde évanescent, suivi d’un appel au repentir. Usant d’un rythme saccadé, l’auteur atteint des hauteurs poétiques à travers de longues séries de répétitions, par exemple en condamnant le monde plein de.. plein de.. guerres.. défauts.. péchés.. maladies.., puis en usant de juxtapositions de verbes contradictoires, décrivant un monde qui réunit puis sépare.. rehausse puis rabaisse… construit puis détruit…, puis en lançant une série de questions demandant où sont?.. où sont?.. afin de dénoter le fait que tous ceux qui portaient les beaux habits ne sont désormais que poussière et vent.t

Mots clés: Jésus-Christ – maqāma – Jean Bar Ma‘danī – Grégoire Barhebraeus – Noël – oraison funèbre – manuscrit – XIIIe siècle – arabe – karšūnī – syriaque.

الدّكتور جان فرج الله فتحي: زميل في مؤسّسة البحث العلميّ – فلاندر (FWO)؛ دكتور في العلوم الدّينيّة، جامعة لوفان (KU Leuven)؛ خرّيج المدرسة التّطبيقيّة للدّراسات العليا (EPHE)، جامعة باريس علوم وآداب (PSL). الدّكتور جان فرج الله فتحي: باحث في التّراث السّريانيّ والعربيّ المسيحيّ. من أعماله نسبة كتاب جديد لابن العبري في القرن الثّالث عشر وهو الورقاء في طريقة الارتقاء، النّسخة العربيّة لكتاب الحمامة السّريانيّ (قيد النّشر)، وكتاب  Le prince déchu عن رسالتَي الهاشميّ والكنديّ في الجدل الإسلاميّ المسيحيّ في القرن التّاسع (روما، ٢٠٢٢)، وبحث Le gambit d’Alep عن لاعب الشّطرنج السّريانيّ العالميّ فيليب ستمّا (واسمه الأصليّ فتح الله سفر اشتمّا) في القرن الثّامن عشر (روما، ٢٠٢٢).

مسالِك الشّوق في منازل الحبّ -جدليّة الاتّحاد عند تريزيا الأفيليّة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

تتناول المقالة المسار الرّوحيّ عند القدّيسة تريزيا الأفيليّة في محطّاته ومقوّماته، مبيّنة، في مرحلة أولى، كيف أنّ الشّوق هو الخيط الرّابط بين المراحل كافّة والمحرّك لديناميّة الارتقاء الرّوحيّ حتّى الاتّحاد بالله. في مقاربة تجمع بين التّحليل والتّأمّل، تعرض المقالة درجات الشّوق ومفاعيله في النّفس ودوره في دفعها إلى التّسامي حتّى الانعتاق من ذاتها وبلوغ مرادها. وفي مرحلة ثانية تتوقّف المقالة عند مركزيّة الشّوق في النّهج التّأمّليّ عند الأفيليّة وتسلّط الضّوء في هذا السّياق على المفهوم التّيريزيانيّ لتلازم الألم والفرح وتلازم الحبّ والمعرفة.

الكلمات المفتاحيّة: الله – حبّ – شوق – اتّحاد – تأمّل – معرفة.

Les métamorphoses du désir dans les Demeures. t
A propos de la dialectique de l’union chez Thérèse d’Avila

Dr Randa Abi Aad

Dans une approche à la fois analytique et méditative, cet article se penche sur la question du désir dans les écrits de Thérèse d’Avila. Dans un premier temps, le désir y est appréhendé dans ses composantes et ses étapes et défini comme fil conducteur et moteur de la dynamique d’ascension spirituelle qui conduit à l’union à Dieu. Dans un deuxième temps, l’article s’intéresse à la centralité du désir dans l’oraison thérésienne et met en lumière, dans ce contexte, d’un côté l’indissociabilité de la souffrance et de la joie et, de l’autre, celle de la connaissance et de l’amour.t

Mots-clés: Dieu-amour-désir-union-oraison-connaissance.t

الدّكتورة رندى أبي عاد: دكتوراه في الفلسفة من جامعة لوفان (بلجيكا). باحثة لبنانيّة وأستاذة الهرمنوطيقا والأنتروبولوجيا الفلسفيّة في جامعة الرّوح القدس الكسليك – لبنان. لها إسهامات في كتب جَماعيّة ومقالات عديدة باللّغتين العربيّة والفرنسيّة وترجمات.

[email protected]

كَفُّ الـمُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

عبد الله بن مصطفى الدّملوجيّ الموصليّ الحنفيّ (ت.1843/1259).

تحقيق ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي

كَفُّ الـمُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض

ط.1، 224 ص.، بيروت: دار المشرق، 2023

ISBN: 978-2-7214-8187-0

يعود بنا المحقّقان ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي إلى موصل القرن الثّالث عشر الهجريّ، المشتعل بالنّشاط الفكريّ والعلميّ، والجامع الفكرَين الصّوفيّ والسّلفيّ، موصل الفكر والذّكر والحلقات العلميّة والشّروحات والتّفاسير. ويقدّمان لنا عملًا من الأعمال الشّاهدة على الثّراء العلميّ آنذاك لشيخ الموصل في زمانه عبد ﷲ بن مصطفى الدّملوجيّ الموصليّ الحنفيّ (ت. 1259/1843) مصحوبًا بدراسة تكشف عن السّياق الفكريّ في الموصل.

تتطرّق دراسة المحقّقين إلى موضوعات شتّى تمسّ الثّقافة الصّوفيّة، ومن أبرزها النّزعات السّلفيّة في الموصل في القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر الهجريّين/الثّامن عشر والتّاسع عشر الميلاديّين. وتكشف الدّراسة عن أعلام كُثُر وجّهوا سهام نقدهم إلى الطّرق الصّوفيّة وأعلام التّصوّف، وأعلنوا عن ضرورة مواجهة الفساد الّذي استشرى في المؤسّسات الصّوفيّة، وفي سبيل ذلك دوّنوا مؤلّفاتهم وردودهم ليتبرّأوا من البدع والمعتقدات الصّوفيّة الزّائفة. وهنا تُظهر الدّراسة أسماء أعلام لم يعرف قارئ اليوم عنهم شيئًا، من أمثال عثمان بك الحيّانيّ (ت.1245هـ./1829) الّذي كتب مقالات وتعليقات كثيرة عن المتصوّفة الّذين سخّروا الطّرق الصّوفيّة لمصالحهم الدّنيويّة، وألّف رسالة ردّ فيها على الشّيخ خالد النّقشبنديّ (ت.1242هـ./1826).

ويلفت المحقّقان أنظار القرّاء إلى الكتابات الّتي توجّهت بالنّقد والإنكار على أعلام التّصوّف من أمثال عبد القادر الكيلانيّ (ت.561هـ./1166) الّذي حظي - ولا يزال - بمنزلة رفيعة في تاريخ التّصوّف الإسلاميّ في بلاد العالم الإسلاميّ على امتدادها شرقًا وغربًا، والصّوفيّ الشّهير ابن عربيّ الّذي ملأ الدّنيا ولا يزال يشغل النّاس حتّى وقتنا الرّاهن.

تقف الدّراسة على أنماط ثلاثة من التّأليف المجسِّد الصّراع السّلفيّ الصّوفيّ (ردود انتقاديّة، وكتابات دفاعيّة، ومحاولات للتّوفيق والموازنة بين الطّرفين). وتقدّم الدّراسة شواهد عديدة للأنماط الثّلاثة، أغلبها لم يُحقّق بعد، لتنبِّه الدّارسين والباحثين في تاريخ التّصوّف إلى أهمّية هذه الأعمال، محيلةً على جريدة واسعة من المخطوطات والمراجع الأعجميّة الّتي تجعل الباحث يرتحل إلى بقاع شتّى من بلاد الأناضول إلى الشّام والموصل ومصر وبلاد الحجاز.

ويلفت نظر القارئ مناقشة الدّراسة مسألة طلب محمّد بن عبد الوهّاب (ت.1206هـ./1792) العلم في الموصل، لِما كان له من أثر وحضور فيما بعد على من وجّهوا سهام النّقد إلى التّصوّف. فهذا محمّد بن الكولة يوصف بأنّه «كان سلفيًّا ثائرًا على الصّوفيّة، وأنّه كان شديد الإنكار على جميع الأولياء. ويذكر سعيد الديوه جي أنّه رحل إلى بغداد في العام 1191/1777 وأنّه كان على اتّصال بالشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب»[1].

كما تُناقش الدّراسة تزايد التّأثير السّلفيّ في بغداد، لتضع كتابات الشّيخ عبد الله الدّملوجيّ في سياقاتها السّياسيّة والفكريّة. وتردف ذلك بحديث موسّع بشأن عائلة الدّملوجيّ الّتي ما زال نشاطها العلميّ مستمرًّا حتّى يومنا هذا من خلال أبناء العائلة من الكُتّاب والأدباء والفنّانين.

ابن عربيّ وابن الفارض موضوعًا للجدل

أُلّفت كتبٌ كثيرة في الرّدّ على ابن عربيّ، وشهد القرن التّاسع الهجريّ فتنة في مصر[2] كانت أشبه بفتنة خلق القرآن، وتزعّم برهان الدّين البقاعيّ (ت.885هـ.) حملة تكفير ابن الفارض وابن عربيّ؛ وتلقّف أبناء مصر في الوقت الرّاهن كتابات ابن عربيّ، فأُعيد نشر ما كتبه البقاعيّ ومَن وافقه باعتبار أنّ ما يقوله هو الحقّ. وعلى أساسه تمّ «فضح الصّوفيّة» و«مصرع التّصوّف»[3]. ومن مصر انتقلت رسائل البقاعيّ إلى بلاد الحجاز وأعيد نشرها من جديد وبحث الطّلّاب عن رسائل أخرى كُتبت زمن تلك الفتنة، فأعيد نشر وتحقيق بعض الرّسائل الّتي أُلّفت في ذمّ ابن عربيّ واعتبار أعماله «قبوحات هلكيّة» لا «فتوحات مكّيّة».

كُتب لرسالَتي البقاعيّ الذّيوع والانتشار بين خصوم التّصوّف، واعتُمدت آراؤه وأفكاره في مخالفة «التّصوّف الوجوديّ» الثّابت من عقائد الإسلام. على أنّه لم يتمّ الالتفات إلى صوفيّة البقاعيّ الّتي يظهرها كتابه عنوان الزّمان في تراجم المشايخ والأقران[4]، وكذلك تفسيره القرآنَ الكريم الّذي اعتمد فيه بشكل أساسيّ على مؤلّفات أبي الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَسَنٍ التُّجِيْبِيُّ الْحَرَالِّي (ت.638هـ.).

ويأتي تحقيق ونشر كتاب كَفّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض في وقت تشهد فيه السّاحة العربيّة استعادة للجدل الدّائر بشأن أفكار ابن عربيّ وابن الفارض. لذا نحاول في هذه السّطور أن نعرض مضامين كتاب كَفّ المُعارِض.

استند المحقّقان في تحقيق نصّ الكتاب إلى نسختين خطّيّتين، النّسخة الأولى والمرموز لها بحرف الدّال هي نسخة تملّكتها عائلة الدّملوجيّ في بيروت. ولم ينس المحقّقان أن يشيرا بعد ذكر أوصاف هذه النّسخة إلى كون الدّكتور إحسان عبّاس، رحمه الله، كان قد بدأ العمل على تحقيق الكتاب اعتمادًا على هذه النّسخة الّتي أهدته العائلة إيّاها، لكن للأسف ضاعت نسخة إحسان عبّاس ولم تصل إلينا. ورغم وثوقيّة المخطوطة الّتي تملّكتها عائلة الدّملوجيّ إلّا أنّ المحقّقَين اعتمدا نسخة أخرى من مجاميع تيمور باشا ليخرج نصّ الكتاب في صورة علميّة تناسب موضوعه. ولا يخفى على القارئ ما للمحقّقَين من تضلّع في العمل على أدبيّات التّصوّف الإسلاميّ، ويظهر ذلك بوضوح من المنهج الّذي رسماه لنشر هذا النّصّ من ترجمة لأعلامه وتخريج لنقوله ومرويّاته وفهرسة كاشفة عن كلّ صغيرة وكبيرة وردت في المتن المحقّق.

حكم إيمان الشّيخين الشّيخ الأكبر ابن العربيّ وسلطان العشّاق ابن الفارض وثناء العلماء عليهما

يبدأ الكتاب بالإجابة عن سؤال وقع عن إيمان الشّيخين، ويصدّر الدّملوجيّ جوابه بذكر إجماع أهل الإسلام على أنّ مذهب الحلول والاتّحاد كُفرٌ في الملّة، ومن اعتقد بهما فهو كافر مرتدّ عن الإسلام. ويلفت المحقّقان إلى أنّ الدّملوجيّ اعتمد في هذا الحكم على برهان الدّين البقاعيّ، وإن اعتبرا أنّ ذلك من غرائب هذا النّصّ إلّا أنّه يشير إلى فضيلة من فضائل الدّملوجيّ الّذي، رغم انتصاره لمذهب الدّفاع عن الشّيخين، لم ينصرف عن الاستفادة من أعمال المذاهب الأخرى، وهو ما انعكس في نقولاته الّتي يدعم بها دفاعه عن الشّيخين بخاصّة والفكر الصّوفيّ بعامّة.

يُتبع الدّملوجيّ اقتباسه عن البقاعيّ بنصوص أخرى تؤكّد ما جرى عليه «اتّفاق أهل الإسلام» بشأن اعتقاد الحلول والاتّحاد والتزام شرائع الله في القول والعمل، ويجري الاستشهاد بابن تيميّة وتقيّ الدّين السّبكيّ والقرطبيّ وغيرهم. ثمّ ينقل جزءًا من الفتوى الشّهيرة المنسوبة إلى ابن كمال باشا (ت.940هـ.) في حقّ الشّيخ الأكبر للاستشهاد على ولايته الكبرى، معضدًا إيّاها بما أورده ابن حجر الهيثميّ في فتاويه الحديثيّة. ولا تتوقّف النّقول والاقتباسات الّتي يوردها الدّملوجيّ والّتي تؤكّد ولاية الشّيخين وتحضّ على حسن الظّنّ بالمسلمين والابتعاد عن التّكفير. وفي غضون ذلك يتناول المؤلّف بالشّرح والإيضاح جملة من المسائل الصّوفيّة كالفناء والذّكر وفضل الصّلاة على النّبيّ ﷺ، مستندًا إلى عدد وفير من أقوال العلماء على اختلاف مشاربهم، ممّا يؤكّد ما أشار إليه المحقّقان في قسم الدّراسة أنّ «قائمة المصادر الّتي عاد إليها المؤلّف تكشف عن معرفة موسوعيّة متنوّعة، يظهر فيها اطّلاعه على جانب كبير من التّراث الإسلاميّ»[5].

من الدّفاع عن الشّيخين إلى نقد سلوك بعض المنتسبين إلى الطّرق الصّوفيّة

يذكّرنا الدّملوجيّ بالنّقد الذاتيّ الّذي قدّمه أعلام التّصوّف منذ وقت مبكّر إزاء بعض المفاهيم والأخطاء الّتي رأوا فيها ما يغبّش الرّؤية ويؤدّي إلى الخلط بين تصوّف صحيح وممارسات مغلوطة. ويسبق إلى الذّهن مباشرة صنيع السّرّاج الطّوسيّ في اللّمع[6] عند قراءة ما قدّمه الدّملوجيّ من نقد لما وصفهم بـ «جهلة المنتسبين» أو ما وصفه بـ «البدع المستحدثة»[7]. ويظهر نقد الدّملوجيّ موضوعيًّا منصفًا مهذّبَ العبارة، مراعيًا آداب الخلاف، حريصًا على هدي الكتاب والسّنّة، من دون ميل إلى الهوى أو العصبيّة.

وينتقل الدّملوجيّ من النّقد إلى إيضاح بعض المفاهيم الّتي تختلط على معارِضي التّصوّف، من ذلك مجاهدات الصّوفيّة وعقائدهم، ويوضّح أنّ كلّ فعل من الأفعال الّتي يرى فيها الآخر شططًا أو مخالفة ككثرة الصّيام أو الذّكر أو التّبتّل لها أصل في الكتاب والسّنّة وهدي سلف الأمّة الصّالح. ويختم عمله بخاتمة تتعلّق بمسألة الكرامات.

ويلفت نظر القارئ أنّ الكتاب، رغم جريدة مراجعه ومصادره الواسعة، يخلو من النّقل عن الشّيخين ابن العربيّ وابن الفارض، رغم كونه دفاعًا عنهما. وكأنّ الدّملوجيّ انطلق من الخاصّ إلى العامّ المؤسّس، فبدل أن يغرق في تفاصيل الخلاف والجدال في بعض الكلمات والمفاهيم، حاول أن يكون عمله مصحّحًا لكلّ ما تعلّق بالتّصوّف وأهله في زمانه، فنبّه على الأغلاط وأصّل للمجاهدات وعزا العقائد إلى مصادرها، مستفيدًا من التّراث الهائل المدوّن في هذه المسائل.


[1]       عبد الله الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، تحقيق ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي (بيروت: دار المشرق، 2023)، 17.

 

[2]       لم تخصّص دراسات عربيّة بعد عن فتنة ابن الفارض. وإن لقيت هذه المسألة اهتمامًا في دوائر البحث الغربيّ، راجع إيليّا باولويج بطروشفسكي، الإسلام في إيران، ص. 492، 493. وقد أشار وليد صالح في دراسته «الاعتراف بالموروث الدّينيّ القديم: أنموذج برهان الدّين البقاعيّ» في مجلّة التّفاهم في عددها التّاسع والأربعين، السّنة الثّالثة عشرة، صيف 2015، 247، إلى دراسة مفصّلة عن فتنة ابن الفارض يمكن الرّجوع إليها: TH. EMIL HOMERIN, From Arab Poet to Muslim Saint: Ibn al-Farid, His Verse, and His Shrine, columbia,1994, 55-75.

[3]       في العام 1952 نشر عبد الرّحمن الوكيل (عضو جماعة أنصار السّنّة المحمّديّة في مصر) رسالتين للبقاعيّ، هما: تنبيه الغبيّ إلى تكفير ابن عربيّ، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتّحاد. وعنون نشرته بـ «مصرع التّصوّف»، جاءت هذه النّشرة إعلانًا عن موقفه إزاء التّصوّف، فبعد أن تلقّى تعليمه في الأزهر، أنعم الله عليه بصبح جديد كما يذكر في مقدّمة كتابه فتعرّف إلى الشّيخ محمّد حامد الفقيّ الّذي أحبّ من خلاله نصوص ابن تيميّة، وتبنّى موقفه العقائديّ من ابن عربيّ، كان عبد الرّحمن الوكيل من خصوم التّصوّف المشاهير في وقته، وتزامن مع نشرته لنصوص البقاعيّ إصدارُه كتيّبًا لنقد أفكار الصّوفيّة وإظهار معايبهم، حمل عنوان صوفيّات وسّعه فيما بعد نظرًا إلى إقبال النّاس عليه في مصر والشّام، وأصدره بعنوان جديد في العام 1955= =لخّص فيه رؤيته للتّصوّف «هذه هي الصّوفيّة»، وسرعان ما انتشر هذا الكتاب في مصر، وأعيد طبعه في سوريا ولبنان وبلاد الحجاز.

[4]       كتب محمّد فوقي حجّاج بحثًا عن تصوّف البقاعيّ بعنوان: «الشّيخ البقاعيّ ومدى خصومته للصّوفيّة ومقدار موالاته لهم»، نُشر في العدد الثّاني من مجلّة كلّيّة أصول الدّين بالقاهرة، ص. 167-180. وخصّص جودة محمّد أبو اليزيد المهدي مبحثًا في كتابه الاتّجاه الصّوفيّ عند أئمّة تفسير القرآن الكريم لمناقشة رؤية البقاعيّ للتّصوّف، استند فيها إلى بعض النّقولات الّتي أوردها البقاعيّ في كتابه مصاعد النّظر للإشراف على مقاصد الآي والسّور، راجع ص. 221-245. وخصّص محمّد عبد المنعم عبد السّلام الماجستير لدراسة الإمام برهان الدّين البقاعيّ وموقفه من التّصوّف. نوقشت رسالته وأجيزت في كلّيّة أصول الدّين بجامعة الأزهر في العام 2000.

[5]       الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، 55.

[6]       خصّصَ الطّوسيّ الكتاب الأخير من اللّمع لهذا الجانب النّقديّ في دراسة التّصوّف، وهو يربو على مائة صفحة، غير أنّه جعله على قسمين كبيرين، أوّلهما عن الشّطح والقسم الثّاني الّذي يختم به الكتاب فقد خصّصه لذكر «من غلّط من المترسّمين بالتّصوّف، ومن أين يقع الغلط، وكيفيّة وجوه ذلك». راجع السّرّاج الطّوسيّ، اللّمع (القاهرة وبغداد: دار الكتب الحديثة، 1960)، 453-515. وقارن الفصل الّذي خصّصه حسن الشّافعيّ في كتابه فصول من التّصوّف، بعنوان النّقد الذّاتيّ (القاهرة: دار البصائر، 2008)، 273-327.

[7]       الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، 136.

 

الدّكتور خالد محمّد عبده: باحثٌ وأكاديميٌّ. حائز شهادة الدّكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة، وهو باحثٌ في جامعة إشبيلية في إسبانيا. نشر مؤلّفات وتحقيقات وأبحاثًا عدّة منها: معنى أن تكون صوفيًّا (القاهرة: دار المحروسة، 2016). حضورُ الرّوميّ وشمس تبريزيّ في الثّقافة العربيّة (القاهرة: دار القدس 2020). الجدل الإسلاميّ المسيحيّ في القرن الثّالث الهجريّ (دار المدار الإسلاميّ: بيروت، 2022). الحكمة الخليقة للزّندويستيّ بالاشتراك مع د. بلال الأرفه لي (دار المشرق: بيروت، 2023).

[email protected]

إيمان في حالة بحث، النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الأب غي سركيس

إيمان في حالة بحث، النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة

ط.1، 196ص. بيروت: دار المشرق، 2023

ISBN: 978-2-7214-5646-5

هذا الكلام لاهوتيّ، فلانٌ يدرّس اللّاهوت، فلانةٌ تدرُس اللّاهوت… عبارات صارت مألوفة لدينا. إنّنا نعرف معناها بوجه عامّ: اللّاهوت شيء يخصّ الدّين، وربّ مطّلعٍ يقول: إنّه يخصّ الدّين المسيحيّ. ولكن ما هو اللّاهوت؟ وكيف نميّز في النّصوص الدّينيّة بين نصٍّ تفسيريّ، ونصٍّ روحيّ، ونصٍّ رعائيّ، ونصٍّ لاهوتيّ…؟

إلى جانب الصّعوبات في التّمييز بين طبيعة محتويات هذه الأنواع من النّصوص الّتي ذكرناها، لأنّ الأنظمة النّمطيّة تتداخل فيها غالبًا، يبقى السّؤال الأساسيّ مطروحًا: ما هو اللّاهوت؟ أو بتعبيرٍ أكثر شعبيّةً: إذا أردتُ أن أكتب في اللّاهوت، ما هو المنهج (أو المناهج) الّذي ينبغي لي أن أتبعه؟ هوذا باختصار مضمون كتاب الأب غي سركيس: إيمان في حالة بحث، مع عنوانٍ فرعيّ: النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة.

الملاحظة الأولى الّتي تشدّ الانتباه، وقد ذكرها الأب سركيس في المقدّمة، وأذكرها هنا بطريقتي: في بلداننا العربيّة عدد لا بأس به من أساتذة اللّاهوت، ولكن قلّما نجد بينهم، أو خارج حلقتهم، لاهوتيًّا. «لقد ولّى الزّمان الّذي تميّز بشخصيّاتٍ لاهوتيّة عربيّة ومشرقيّة» (ص. 9). فلكي لا يكون هذا الغياب مستدامًا، شعر الأب سركيس بضرورة إصدار هذا الكتاب. مَن يدري؟ ربّما يكون حافزًا وفاتحة خيرٍ لعصرٍ يظهر فيه لاهوتيّون عرب.

الكتاب يحوي ستّة فصولٍ وقسمًا أخيرًا طويلًا بمثابة خاتمة تحوي التّأوين والانفتاح. لم يتبع الكاتب في فصوله، كما فعل في بعض كتبه السّابقة، التّسلسل الكرونولوجيّ لظهور الفكر اللّاهوتيّ والمدارس اللّاهوتيّة، بل عكف على تحديد النّقاط الأساسيّة المميّزة الّتي تجعلنا نقول عن نصٍّ أو مؤلَّفٍ: إنّه لاهوتيّ!

وحيث إنّ الكاتب أستاذ جامعيّ، عكف على تقطيع محتويات الفصول بمحطّات تفكيرٍ بعنوان: «نصّ للتّعمّق»، وفي بعض الأحيان ينتهي النّصّ بسؤال للتّفكير. لماذا؟ لأنّ اللّاهوت هو بالضّبط إيمان يُعمِل العقل، أو، كما يقول القدّيس أنسلموس: «آمن وفكّر في ما تؤمن به». فقضيّة إعمال العقل في الإيمان هي أوّل تحدٍّ واجه العمل اللّاهوتيّ، ويذكره الكاتب في الفصل الأوّل.

يبدأ الفصل الثّاني بعرضِ تاريخيّة مصطلح «لاهوت»، فيبيّن أنّ الممارسة سبقت المصطلح، وأنّه مع ظهور المصطلح وشيوعه صار تعريفه ضرورةً، فنجد في الفصل، ضمن إطاراتٍ رماديّة، تعريفاتٍ معاصرة  لهذا المصطلح.

عنوان الفصل الثّالث: «علم اللّاهوت مهمّة كنسيّة»، يمكن أن نستبدل به آخر هو: «شروط العمل اللّاهوتيّ». فاللّاهوت عمل يتمّ داخل الكنيسة وفي الشّراكة معها لا خارجها وبالانقطاع عنها، إنّه عمل يتطلّب التزامًا بالإيمان لا مراقبةً له وتحليله من الخارج، إنّه عمل يتطلّب من اللّاهوتيّ حياةً روحيّة عميقة في علاقته بالله .

الفصل الرّابع يطرح قضيّة مهمّة: لا يدّعي اللّاهوت أنّه سيصل يومًا إلى معرفة جميع أسرار الله. إنّه يسبر غور حقيقة الله، وحقيقة الإنسان، وحقيقة العلاقة بين اﷲ والإنسان، لكنّه لا ينسى أبدًا أنّه يتعامل مع سرٍّ يفوق قدرات الكائن البشريّ.

في الفصل الخامس تحديدٌ لمنابع العمل اللّاهوتيّ. وقد رتّبها الأب سركيس بحسب أولويّتها، فجاء الكتاب المقدّس أوّلًا، والتّقليد الكنسيّ ثانيًا، تلاه الحسّ الإيمانيّ عند شعب الله، فاللّيتورجيا، فآباء الكنيسة، وفي آخر القائمة الفلسفة ثمّ العلوم والخبرات الحياتيّة.

الفصول التّالية مكمّلة للموضوع. عرض لفروع اللّاهوت، المجامع «اللّاهوتيّة» وبعض اللّاهوتيّين: إيريناوس، وتوما الأكوينيّ، ومارتن لوثر، وهنري نيومن، لينتهي الكتاب بفصلٍ هو بمثابة خاتمة طويلة ذكرناها في البداية.

ما يلفت الانتباه هو وجود حركة في صفحات الكتاب: صور، مستطيلات مظلّلة، إلخ، ما يجعل قراءته سهلة، ناهيك عن متعة قراءة فحوى النّصّ في حدّ ذاته، إذ التزم الكاتب بالوضوح والاقتضاب درءًا للملل من التّفاصيل الّتي لا تهمّ، في آخر الأمر، سوى جماعة الاختصاص.

الأب سامي حلّاق اليسوعيّ: راهب يسوعيّ، وأستاذ في جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له مؤلّفات وترجمات عدّة منشورة، بالإضافة إلى مقالاتٍ بحثيّة في مجلّة المشرق.

[email protected]

غَفرْتُ

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

فؤاد حسّون

غَفرْتُ

ط.1، 248 ص. بيروت: دار المشرق، 2023
ISBN: 978-2-7214-5649-6

 

لم تكنْ طفولةُ فؤاد اسكندر حسّون مختلفةً كثيرًا عن طفولةِ أقرانهِ في قرية بريح الشُّوفيّةِ، الواقعةِ في جبلِ لبنانِ الجنوبيِّ. في تلك القريةِ المختلطةِ عاشَ مسيحيّونَ وموحّدونَ دروز «لعدّةِ أجيالٍ في وئامٍ تامٍّ» يقولُ حسّون في كتابه غفرْت (ص. 26) وهو ترجمةٌ لكتابه باللّغةِ الفرنسيَّة، عنونه بـ «J’ai
pardonné» وقد صدر في العام 2020 في باريس، وترجمه الخوري ميخائيل قنبر، فصدرَ عن دارِ المشرقِ في طبعتهِ الأولى في العام 2023.

الكتابُ أشبهُ بسيرَةٍ ذاتيَّةٍ يوثِّقُ فيها الكاتبُ مراحلَ حياتهِ لاسيَّما تلكَ الَّتي تحمِلُ قدرًا كبيرًا مِنَ العذابِ والمُعاناةِ في إثر تعرُّضِ منطَقَةِ فُرنِ الشُبَّاكِ في بيروتَ، إلى انفجارِ سيّارةٍ أمامَ منزلِ جدَّتِهِ حيث يتردّد في بعض الأحيان. حدث ذلكَ في 21 كانون الثّاني من العام 1986. يوثّق الكاتب إصابته نتيجةَ عصفِ الانفجارِ في وجهِهِ «.. كأنَّ سوطًا قد ضربني.. وقوَّةً رهيبَةً قذفتني، عندها لم أعد أرى شيئًا» (ص.12). وبعد عمليَّة جراحيّة في مدينةِ جنيڤ لمْ تتكلَّلْ بالنَّجاحِ، أبلغَهَ جرَّاحُهُ مباشرَةً «.. لقد أصبحتَ أعمًى» (ص. 8) ما أدَّى إلى ضياعٍ كاملٍ ترتَّبَ عليهِ في لحظَتِها حوارٌ مع الله:

– «… لماذا أنا؟ لماذا كلُّ هذا؟.. أخبرني أنَّ هذا ليسَ صحيحًا، ولا عادِلًا، نجِّني يا ربُّ.. خلِّصني… أنا أعمى والرَّبُّ الطِّيّبُ أصمُّ… إنَّها العبثيّة» (ص. 81.)

جثا بين يدي الله مُتضرِّعًا، يسألُه الشّفاء والرَّحمة… وفجأةً سَمِعَ همسًا بعيدًا كأنَّها مكالمةٌ داخليَّةٌ مع الله:

– «.. فؤادٌ هلْ تُحبُّني»؟

– «نعم أيُّها الرَّبُّ.. أعِدْ إليَّ نظري.. عينٌ واحدةٌ.. مِن أجلِ أمِّي»

– «.. إذا كُنتَ تُحِبُّني تقبَّلْ ما جَرَى..»

في هذهِ اللّيلَةِ الحواريَّةِ مع الله شعَرَ الكاتبُ بـ «شعاعٍ وسلامٍ داخليٍّ يسبرُني، سأبدأ مِن جديدٍ.»

من هنا تبدأ الحكاية. في مواجهة مرحلة جديدة من حياته، أخذ «حسّون» يتعلَّمُ القراءة والكِتابة وفقَ طريقَةِ «برايل»، وتمرَّس في كيفيَّةِ استخدامِ عصا المكفوفينَ وسائرِ مُتطلِّباتِ الكفيفِ. وإنجازُها كان يحتاجُ إلى سنةٍ كاملةٍ فأنجزها في ثلاثةِ أشهر. ومتخلّيًا عن فكرةِ دراسةِ الطُّبِّ بسببِ عدمِ الرَّغبةِ في العودةِ إلى بيروتَ اختارَ الحصولَ على دبلومٍ في علومِ الكومبيوتر مِن جامعةِ ليون الفرنسيَّةِ، ولكنّ حياته الجديدة حملت له المعاناة: «كنتُ أشعرُ بالوحدَةِ الرَّهيبةِ والهشاشةِ والهجرِ.. كانَتْ حياتي مُظلِمَة…» (ص.102). هذهِ الحالةُ جعلتْهُ يستذكِرُ في أمسيةِ صلاةٍ مِن أجلِ لبنان في( سان نيزيي – Saint_Nizier) حيث صورةُ السَّيِّدِ المسيحِ الّذي سقطَ ثلاثَ مرَّاتٍ تحتَ ثِقلِ الصَّليبِ، ومِن ثُمَّ قام…

يخبرنا الكاتب في تفاصيل الحكاية المؤلمة عن «التَّعزياتِ الصَّغيرةِ المُفرحَةِ الَّتي بلسَمَتْ جِراحَ تجاربي» وإن كانَ هناك شريكٌ يُعطيهِ الثِّقةَ للاستمرارِ، فهو ملاكُهُ الحارسُ المتمثّلُ بـ (سمعانِ القيروانِ) الّذي حملَ الصَّليبَ وراءَ السِّيدِ المسيحِ والّذي «ساعدَني في فتحِ بابٍ هُنا، وأخرَجَني مِن مأزقٍ هناكَ، وأعادَ تصويبَ مساري» (ص.105) .

كان يؤرِّقُهُ الحنينُ إلى الوطنِ، وكذلك الوحدة. فاستدعى أخاه من لبنانَ ليعيشَ ويتعلَّمَ معهُ. وحصلَ على منحةٍ تعليمِيَّةٍ، ودعمٍ من صندوقِ مساعداتِ الطُّلّابِ اللّبنانيّين في فرنسا. لكِنَّ المِنحةَ ما لبثَتْ أن سُحِبَتْ لأسبابٍ سياسيّةٍ، وتوقَّفَ الدَّعمُ، فوجدَ الكاتبُ نفسهُ وأخاه أمامَ خيارِ الأعمالِ الحرَّةِ…

مرّة أخرى وضعته الحياة أمام الاختبار، حينما تمّ الإعلان عن اكتشاف هويّة مفجّر العبوة، الَّتي تسبَّبَت بفقدانه البصر، واعتقاله في بيروتَ وإحالته إلى المحاكمةِ. تمنّى حينها لو يستطيع إلى الجاني سبيلًا ليقومَ بخنقِهِ، وتمزيقِهِ، واقتلاعِ قلبهِ وعينيهِ… وأمامَ ردَّةِ فعله تلك، استعادَ الكاتبُ مقطعًا مِن الإنجيلِ، يُذكِّرهُ بالتزامهِ الشُّروع بالمغفرةِ… «هل تُحبُّني؟»

عِندها انهارَ وجثا على ركبتيهِ وطلبَ الغفرانَ..

استمرَّ الكاتبُ على هذا المنوالِ إلى أن قرَّر التّواصلَ مع عرَّافِهِ، بهدفِ تقديمِ اعترافٍ شاملٍ دامَ أيّامًا، في دير سيّدة الثّلوج.. قالَ عنهُ: «.. تأثّرتُ جدَّا، فخررتُ ساجدًا عندَ قدمَي أمِّي العُلويّة.. توسّلتُها بلهفةٍ.. أرجوكِ ساعديني أريني الطّريقَ إلى المغفرةِ..» عندها شعر بانفتاحِ طريقٍ أمامَ ناظِريهِ وتوقَّفَ عن الاتّكاءِ قائلًا: «نعم سأنطلقُ في طريقِ المغفرةِ الطَّويلِ والصَّعبِ..» (ص132).

كان عليهِ أن يدركَ أنَّ الطريقَ سيكونُ طويلًا، فيما أوضاعُهُ الحياتيّة ستمنعه مِن الصّمودِ وبناءِ عائلةٍ.. الأمرُ الّذي جعلَ الكاتبَ يدعو السَّيّدةَ العذراءِ إلى مساعدَتِهِ في إيجادِ عملٍ. وما هي إلَّا أيّام قليلةٍ حتّى استُجيبَت دعوته … حملَ هذا الوضعُ الجديدُ، في مجالَي المغفرةِ والعملِ، الكاتبَ على الإحساسِ بأنّ «كلَّ أنواعِ الهمومِ والعقباتِ الَّتي تعثرتُ بها سابقًا وكأنَّها تنهارُ..».

وتتوالى الصّفحات وصولًا إلى ما أسماهُ «المشروعُ المزدوجُ : قبولُ حالتي، وعيشُ نعمةِ الغُفرانِ» (ص.148)، وقد استمرّ عشر سنواتٍ. أدركَ فيها ثمنَ الحياةِ وتعلَّمَ التَّوقّفَ عن إلقاءِ اللّومِ على عماه في كُلِّ مصائبهِ. تغيَّرتْ حياتُهُ بأسرها.. اكتشفَ «أنَّ الشَّرَّ غيرُ موجودٍ بالضّرورةِ، ودرب الاهتداءِ الّذي يُشبهُ النَّهرَ الجارفَ في طريقهِ كلَّ مشاعرِ الاستياءِ والغضبِ وجراحِ الماضي» (ص.159).

هذا التّصالح مع الحياة يسّر له باقي الطّريق. تابعَ عملهُ في برمجةِ الكمبيوتر، لاسيّما ما يتعلّقُ منها بأوضاعِ المكفوفينَ وحياتهم.. تزوَّجَ مِن امرأةٍ فرنسيّةٍ، ولأنَّه كانَ يعتبرُ أنَّ الانجابَ عطيَّةٌ مِن الله، ولنيل نعمةِ الأبوّة والأمومةِ راح يؤمّ الأماكنَ المُقدَّسةَ متوسّلًا، وأثناء زيارتِهِ مقام (سيّدة بشوات) في البقاعِ اللّبنانيِّ، رجا السّيّدةَ أن تحقّقَ رغبته في إقامةِ عائلة حقيقيّةٍ «أغدق عليه من نعمه، فرُزِقَ بثلاثِ بناتٍ وصبيٍّ على التَّوالي». وهكذا، تأكَّدَ أنَّ هناكَ مَنْ يرسمُ طريقَهُ وقد أظهرَ لي (مار شربل) أنّ الله ينظرُ إلينا كما نحن، فعيناهُ المغمّضتانِ في الأيقونةِ الَّتي تمثِّلُهُ تُعبِّرانِ عن ذلكَ.

أمامَ هذا التَّحوّلِ في حياةِ الكاتبِ، طرحَ سؤالَهُ الكبيرَ «ماذا سأفعلُ بكلِّ هذا؟» لقد ألقى الشّبكةَ حيثُ طَلَبَ مِنهُ السَّيّدُ المسيحُ، وقد حصلَ على الصّيد الوفير.. وخرجَ بخُلاصاتٍ، مِنها: أنَّه تعلَّمَ أن يعرِفَ نفسَهُ ويقبلَ بصفاتِهِ من دونِ أن يفتخِرَ بها، ونقائصِهِ من دونِ أن يشعُرَ بالذّنبِ، كما تعلَّمَ أن يجعلَ الله يحوِّل ضَعفَهُ إلى قوَّةٍ.. ويثبِّتُهُ على الإيمانِ والرِّضا.. ها هو يمضي حتَّى السَّاعةِ في الأداء بشهادةِ حياتِهِ وينشرُها في الكنائسِ وبين الشَّبيبةِ، وكِبارِ السِّنِّ، وكلِّ المجموعاتِ الرّسوليّةِ والإعلامِ.. فرسالتُهُ تؤثِّرُ، تغوي وتنتقل.

كانت هذه، إذًا، سيرة الكاتب فيما يتعلّق بظروف حياته في إثر خسارته بصره، وصراعه الرّوحيّ والأخلاقيّ والكيانيّ الّذي جعله يسلك طريق الصّفح والمغفرة لمن أساء إليه، والحبِّ الإِلهيّ لمن حرسَه، وقادَه، وحماه من السّقوطِ في براثنِ الضّغينة. وقد ترافقت هذه السّيرة مع بعض «القراءات السّياسيّة» و«الوقائع المادّيّة» الّتي حبّذا لو أنّ الكاتب دقّق في بعضها، ولاسيّما ما له صلة بالوضع الّذي كان قائمًا في قريته «بريح»، وقد شبَّهها بـ «جنّة عدن» (ص.30)، واصفًا ناسها بالأحرار في كلّ خياراتهم ولاسيّما الدّينيّة منها (ص.34)، ومعتبرًا أنّ العلاقاتِ بين الدُّروز والمسيحيّين جيّدة جدًّا، فهم يتقاسمون كلَّ أشكالِ الحياة من دون أن يعكِّرَ صفوها شائبة. ولكنّ التحوّل يحدث في السّرد عندما يتطرّق الكاتبُ فجأةً إلى مسألة استشهاد كمال جنبلاط، وما تلاه من ردَّات فعل ومواقف شجب وإدانة عامّة. فيختار أن يصف ما جرى في البلدات المحيطة ببلدته، لجهة سقوط الكثير مِنَ الأبرياء الّذين قتلوا بأبشع الطرق والوسائل..مستعيدًا بالذّاكرة حادثة الدّخول إلى كنيسة مار چرجس في «بريح» وقت القدّاس، عازيًا سبب هذه الحادثة إلى أنّ «قلوب المناصرين الدّروز الاشتراكيّين لم تهدأ»، بعد الاغتيال.

إنّ ملاحظاتي على هذه الواقعة المؤلمة في تاريخ حروبنا البغيضة أنّ الكاتب لم يأت من قريبٍ أو بعيد على محاوﻻتٍ بذلها أُناس كانوا يقدِّرون صيغة العيش المشترك في البلدة من الجانبين، وهم كثر وأنا من بينهم، وقد نجحوا في تخليصها مرارًا من تصادمات بين أهلها ومواجهات كان من الممكن أن تقضي نهائيًّا على تلك العلاقة الودّيّة بينهم. أمّا بخصوص الإشارة إلى أنّ تلك الحادثة المؤسفة أتت على خلفيّة تغييب الزّعيم كمال جنبلاط فهذا ليس واقعيًّا ودقيقًا، قد يكون أنّ الكاتب خلط بين أمرين (وللأمانة التّاريخيّة لا بدّ من بعض التّصويب، وأنا أبن بلدة بريح، وشاهد على ما حدث حينها): إنّ حادثة الكنيسة جاءت بعد مرور أربعين يومًا على استشهاد الدّكتور جورج شلهوب من بلدة بريح (وكان من النّخب اللّبنانيّة والعربيّة العاملة في الجزائر ضمن مجموعات عدم الانحياز) وقد اغتيل على يد أحد  الحواجز السّوريّة، في مدينة عاليه. وحينها أدان دروز البلدة الاغتيال، وشاركوا في تشييعه، فحملوه فوق أكتافهم من مدخل البلدة حتّى ساحة منزله، ولكنّ إصرار بعضهم على وجود أكاليل وشعارات لمنظّمات سياسيّة دخيلة على البلدة، دفع بالمشايخ الدّروز إلى الانسحاب.

واستدراكًا لعدم تعميق الخلافات، جرت مفاوضات لتهدئة الأجواء والسّعي إلى مشاركة الدّروز في أربعين «الشّهيد شلهوب»، ولكنَّ تلك المشاركة لم تلق التّرحيب، وقوبلت بالرّفض القاطع.. وحلَّ اليوم المشؤوم يوم الأربعين الّذي أراده بعضُهم مشحونًا بالتَّوتّر الشَّديد، فكان حادث دخول الكنيسة المُدان، ومقتل اثني عشر شخصًا وليس «العشرات» ص.(58)، كما ذُكر في الكتاب. لقد سقطت الضّحايا في تلك الحروب من الجانبين، مسيحيّين وموحّدين دروز، ولم تتمّ الإشارة إلى ذلك أيضًا.

قصدتُ من هذه المصارحة، وذكر بعض الحقائق وظروفها، أن أجعل الحقائق ساطعة، فسطوعها يحثُّنا على تنقية الذّاكرة، ومن ثمّ المسامحة والمغفرة واستكمال طريق المحبّة الّتي اعتمدها الكاتب، فحوّلت حياته ووجدانه، وهو أمر يُبنى عليه للمستقبل بهدف بناء عيش آمن ورغيد.

كتاب غفرْت للكاتب فؤاد حسّون يستحقّ القراءة، والغوص في تفاصيله، وتحليل أحداثه، وأخذ العِبر منه.. كيف لا، وقد طرح منحًى تغييريًّا  قلّما يحدث في حياة الأفراد الّذين عزموا على المسامحة والمضيّ بمحبّة إلى الأمام.

الأستاذ خالد العلي: حائز شهادة الماجستير في علم الاجتماع السّياسيّ – معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللّبنانيّة. مستشار سابق لوزير الثّقافة والإعلام، وكاتب في صحيفتَي السّفير والمستقبل.

[email protected]

ملامح وطن

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الخوري ميلاد عبّود

ملامح وطن

ط.1، 220 ص.بيروت: دار المشرق، 2023
ISBN: 978-2-7214-5650-2

كلّ مبتدَأ الرّوايات اليوم يأتي من خارج حدود الوطن ليكون خبره في الدّاخل. فالمكان الأوّل في الكتاب هو «مقعد خشبيّ جلس عليه «راجي» في حديقةٍ بمدينة مونستر الإلمانيّة» (ص. 9). يصير المكان في الغربة محطّة انتظار للعودة إلى الوطن، بعد أربع عشرة سنة (ص. 9). يبدو مسقط رأس راجي في الشّمال مجهولًا إذ لم يسمّه الكاتب، بل ركّز على أنّ البطل «استوطن» بيروت (ص. 10). كأنّ بيروت تختصر للنّازل فيها الجهويّات والمسافات، فهي مدينة «انفتحت على الثّقافة الغربيّة، وبقيت حاملة راية العروبة واللّغة العربيّة، بيروت الّتي استقبلت كلّ من تشرّد من بلده لأسباب متعدّدة» (ص. 1). هي المدينة الّتي أطلقت شرارة حراك 17 تشرين، برؤيتها المجدّدة، ولكن أيضًا ببعض ممارساتها الميدانيّة المسيئة «والشّعارات والألفاظ المنافية للأخلاق». (ص. 14).

أقلقت البطل» راجي»، العائد بعد غربة، تداعيات تفجير مرفأ بيروت، وهالته أزمة اللّجوء السّوريّ، والتّهافت على فرز النّفايات في المستوعبات بحثًا عن طعام أو جمعًا لموادّ للبيع. (ص. 18). ما كان «راجي» يعرف من بيروت إلّا ترفها وحضورها الهندسيّ المتمايز، إلّا أنّ تفجير المرفأ جعله يشهد هشاشة البيوت القديمة وتساقط الأبنية التّراثيّة ، إضافة إلى أنّ سيره في الأزقّة لممارسة المشي قاده إلى الإدراك «بأنّ الفقر والإهمال ضيفان قديمان على بيروت العاصمة (…) وغياب مقوّمات السّكن الصّحيّة في الكثير من أحيائها». (ص. 35).

هذه المعاينة اليوميّة الميدانيّة دعته إلى التزامه الدّفاع عن قضايا التّراث والأصالة، فانصرف إلى العمل مسؤولًا في جامعة الحكمة الّتي تأسّست في العام 1875 (ص. 38)، فتسنّى له اكتشاف الازدواجيّة الّتي يعيشها شباب الوطن، إذ «رأى طلابًا يدّعون الإيمان، لكنّهم يكفّرون الآخرين أو يبتعدون عنهم ويتجنّبونهم ولا يقدّمون لهم الضّيافة» (ص. 45)، فبحث في مفهوم قبول الآخرين المختلفين شركاء في الحياة الجامعيّة والاجتماعيّة، وطبعًا الوطنيّة لتأسيس عيش مشترك روحيّ واجتماعيّ وسياسيّ.(ص.46)، ولأنّ هويّة «هذا الكتاب دعوة إلى متابعة المحادثة»(ص. 5) «كان «راجي» يلتقي الطّالب «داني» في مكتبه بالجامعة، وهو طالب مثقّف». (ص. 47) هنا بيت القصيد إذ يبدأ الكتاب بنشر حوار بين الاثنين في فترات متلاحقة يعرض فيه الكاتب آراءه ولو بأسلوب ذاتيّ وغيريّ، كأنّه يطرح نفسه أمام نفسه، بين دواخله الحقيقيّة وبين المؤثّرات الاجتماعيّة الّتي تطغى في كثير من الأحايين على أصالة الإيمان الأوّل، والبراءة الأولى، في تقبّل الآخر وتفهّم الاختلاف في الفكر الطّائفيّ، في الحضور المسيحيّ الكنسيّ، العيش المشترك، استراتيجيّة رفض الآخر، الانخراط في مشروع  العروبة الوطنيّة، الرّجاء في مفاصل الحياة. يحمّل «راجي» حديثه مع «داني» استنارات المفكّرين أمام بحث الضّائعين عن الهويّات القاتلة، فهو يعيد التّوازن إلى العقل في زمن الانفعال فيقول: «إنّ المسيحيّين لا يعبدون وطنًا لأنّ كلّ أرض غريبة، بحسب كلام مسيحيّ قديم، هي وطن لهم، وكلّ وطن هو أرض غريبة عندهم، المسيحيّون يحجّون إلى الملكوت السّماويّ». (ص. 76).

من هنا ينطلق راجي ليؤكّد لـ «داني» أنّ هويّة لبنان الأساسيّة هي «الهويّة المنفتحة الّتي تُغني، أمّا الهويّة المنغلقة فتؤدّي إلى التّعصّب والموت» (ص. 75). كما شرح مفهوم الوحدة في التّنوّع «فالتّنوّع السّياسيّ (…) هو صحيّ وديمقراطيّ شرط ألّا يؤدّي إلى التّشرذم، التّنوّع هو دائمًا غنى وعلامة من علامات العمل السّياسيّ الدّيمقراطيّ (ويصبح هذا التّنوّع كارثيًّا عندما يتحوّل إلى صراع وشيطنة الآخر». (ص. 97) طبعًا عرضُ «راجي» و«داني» كثيرًا من الأحاديث وسردُها يحتاجان «إلى حبر كثير وورق وفير»، لكنّ الكاتب اكتفى بأهمّها وأعمقها، تاركًا للقارىء أن يفكّر فيها. (ص. 98).

وينتقل المؤلّف إلى محطّة أخرى حيث يلتقي «راجي» في جامعة الحكمة بـ «طارق». «إنّه قاضٍ ذو ثقافة وافرة (…) المسلم العارف جيّدا هويّته الإسلاميّة، والفخور والمتمسّك بها من جهة، والمنفتح على الهويّات وعلى الثّقافات والأديان من جهة أخرى» (ص. 99)، والّذي اكتشف في شخص راجي «إنسانًا مصغيّا منفتحًا على العالم العربيّ وعلى الإسلام والمسلمين من باب الاحترام والإنسانيّة والوطنيّة والتّاريخ المشترك». (ص. 100) تناولت أحاديثهما مفهوم العدل والحوار والتّعدديّة والأمانة والمسؤوليّة الشّاملة والعيش المشترك والمواطنة والحرّيّة الدّينيّة، بحثًا عن جواب عن سؤال: «كيف تقوم شراكة كاملة في مجتمعات تتلوّن بالأحاديّة، وتفقد شيئًا فشيئًا بريق وجمال التّنوّع الدّينيّ واللّغويّ والثّقافيّ؟» (ص. 135) من هنا خرج المتحاوران بأنّ «الميثاق هو العيش معًا شهادة ﷲ وخدمة الإنسان، أيّ إنسان. الميثاق والعيش المشترك ليسا أوّلًا دفاعًا عن حقوق الطّوائف، بل عن حقوق المواطنين، وخصوصًا المحرومين والفقراء والمهمّشين». (ص. 142).

ينتقل الكاتب إلى مرحلة متقدّمة، إلى الطّالبة «ديما» الّتي تسعى إلى تأسيس نادٍ طلّابيّ جامعيّ يحمل اسم «علمانيّون وعلمانيّات». (ص. 144) التقاها مرارًا مع زميلها «خليل» النّاشط، حيث أشار لهما إلى «أنّ العلمانيّة لا تستطيع أن تكتفي بذاتها ولا تملك الأجوبة على كلّ شيء» (ص. 166)، ردًّا على ما قاله أحد المحاضرين في ندوة للنّادي المذكور، متسائلًا «هل تستطيع العلمانيّة أن تتجاهل البعد الماورائيّ للإنسان؟ هل تستطيع أن تقفز فوق أسئلته الوجوديّة عن الألم والموت والحياة؟ هل تستطيع أن تكون العلمانيّة مشروعًا كاملًا ومتكاملًا على المستوى الفلسفيّ والأخلاقيّ والسّياسيّ؟» (ص. 167)، لذا دعا «راجي» الطّالبَين ومن معهما إلى «أن لا تنغلقوا على الحوار، لبنان والشّرق بحاجة إلى بناء مجتمع مدنيّ يضمّ الجميع، ويرحّب بالجميع. فالتّعدّدية غنًى، والعلمانيّة الإيجابيّة تودّي دورًا بنّاءً في قيام دولة المواطنة والمساواة». (ص. 187). قبيل انتهاء مضمون الكتاب يعود «راجي» إلى الأصول، حيث يستقبل صديقه القديم الّذي عالج في أطروحته موضوع «الرّحمة في الإسلام والمسيحيّة» ليخلص إلى التّذكير بالأصول: «علينا أن نرحم بعضنا بعضًا كما رحم يوسف إخوته، وغفر لهم، ورمّم بالتّالي ميثاق الأخوّة الّذي يساوي بين الجميع، وبالتّالي لا يعترف بسلطة القويّ على الضّعيف، بل يعترف بسلطة المحبّة. الرّحمة قادرة على تغيير القلوب وتوحيدها». (ص. 204).

في الفصل الأخير من الكتاب يسرد المؤلّف في ذاتيّته، متوقّفًا عند مدينته بيروت، متوغّلًا في ماضيها، في واقعها الحاليّ، مستذكرًا ما كانت عليه، شاهدًا لضرورة عودتها إلى حالتها الحضاريّة المعطاءة، بنسيجها الفريد، بشعبها الرّاغب بالحياة، «والسّؤال الّذي كان يطرحه «راجي» دائمًا: «هل ينسى اللّبنانيّون المنتشرون بيروت ولبنان؟ كيف يبقى لبنان وبيروت حيّين في قلوبهم؟ وأيّ صورة عن الوطن ستتلقّاها الأجيال القادمة؟ أهي صورة لبنان الرّسالة أم لبنان ملوك الطّوائف؟ لبنان المشرذم أم لبنان الواحد المتنوّع؟ لبنان الشّفافيّة والمحاسبة أم لبنان الفساد؟

من هذا الكتاب المنبر الثّقافيّ الحواريّ يترك الخوري الدّكتور ميلاد عبّود للقارىء تحديد الإجابات فيما يرسم «ملامح وطن».

الدّكتور جان عبدالله توما: حائز دكتوراة في اللّغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللّبنانيّة. أستاذ محاضر في جامعات: القدّيس يوسف، واللّبنانيّة، وسيدة اللويزة، ويشغل منصب رئيس قسم اللّغة العربيّة في جامعة الجنان. له أكثر من سبعة عشر إصدارًا يتراوح بين كتب أدبيّة، وشعريّة، ورواية، ودراسات تربويّة، وتحقيق مخطوطات.

[email protected]

يوحنّا الذّهبيّ الفم: مفسِّر الكتاب المقدَّس

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الأب جاكي مارسو

يوحنّا الذّهبيّ الفم: مفسِّر الكتاب المقدَّس

ترجمة الأبوَين سامي حلّاق اليسوعيّ وإيلي طوبجي

128 ص.، ط.1، بيروت : دار المشرق، 2023
ISBN : 978-2-7214-5647-2

يوحنّا كريزوستوموس Jean Chrysostome (349-407) هو أحد آباء الكنيسة الإغريقيّين. لُقّب بالذّهبيّ الفم (كريزوستوما باليونانيّة) «لجمال كلماته وبلاغة عظاته، وعمق تفكيره. للوهلة الأولى، يبدو أنّه يُلقي عظاتٍ أخلاقيّة»، ولكنّ القارئ يكتشف فيها «عملًا تفسيريًّا للنّصوص المقدّسة».

هذا الكتاب، الّذي ألّفه الخوري جاكي مارسو Jacky Marsaux ومجموعة من المؤلّفين، يُستهّلّ بتمهيد للمؤرّخ الفرنسيّ وأستاذ العهد الجديد في جامعة لوفين Louvain الكاثوليكيّة ريجيس بورنيهRégis Burnet يكتب فيه أنّنا نتعرّف في هذا الكتاب «إلى تفسير يوحنّا الذهبيّ الفم في جميع أبعاده. فبعد وضعه في إطار مدرسة أنطاكية التّفسيريّة، يذكر الكتاب جوانبه الجدليّة، والأخلاقيّة، والجماليّة، وفي آخر الأمر جوانبه التّأويليّة.» يُستهَلّ الكتاب بتقديم ثلاثة مفاتيح لقراءة الكتاب المقدَّس :

أوّلًا: قراءة لا تنفصل عن الـ «كريستولوجيا» Christologie وهو علم المسيح…

ثانيًا: إسكاتولوجيا واقعيّة تقدّم الحياة المسيحيّة على أنّها استباق للعيش في السّماء…

ثالثًا: تفسير الكتاب المقدّس في ثلاث مراحل هي :

إرجاع الكلمة الإلهيّة من النّصّ إلى حرفيّتها وتاريخها، وتبيان الوحدة بين العهدَين القديم والجديد.

التّفسير بحسب الجمهور والهدف. وفيه يردّ على التّعاليم المنحرفة.

التّطبيق على واقع جماعة، أو مدينة.

97 عظة على لسان الذّهبيّ الفم ترد في الكتاب وتبيّن ملامح المفسّر والمجادل و«يتمّ تحليلها لتبيان أسلوبه في التّفسير، ومهارته في الوعظ، وبراعته في الخطابة. «وهذه العظات تشهد على طريقة آباء الكنيسة في قراءة الكتاب المقدّس.»

يتضمّن الكتاب ستّة أقسام، تُستهَلّ  بالتّعرّف على يوحنّا الذّهبيّ الفم ماسك مفاتيح قراءة الكتاب المقدّس على أنّه «امتداد للتّجسّد وكتفسير يتكيّف مع المستمعين». القسمان الثّاني والثّالث يتناولان يوحنّا الذّهبيّ الفم كمفسّر ومجادِل. ولا يأتي الوعظ الأخلاقيّ في الفصل الرّابع إلّا في خدمة التّفسير والإرشاد وإعادة النّظر في القراءة الحرفيّة والقراءة الرّوحيّة للكتاب المقدّس.

وفي القسم الخامس تحت عنوان «البُعد الجماليّ» يرد اقتباس لكاترين بروك - شميزرCatherine BROC-SCHMEZER، يدعونا فيه يوحنّا الذّهبيّ الفم، كقرّاء، «إلى تأمّل المشاهد الكتابيّة الّتي يشرحها. هذا الموقف لا يعود إلى حسّ جماليّ مرهف وحسب، بل له أيضًا طبيعة روحيّة، ما يجعل الواعظ سلفًا حقيقيًّا لإغناطيوس دي لويولا.» Ignace de Loyola (ص. 46).

أمّا مبادئ التّفسير فتختتم الكتاب في قسمه السّادس الأخير من خلال «الدّعوة إلى سبر الكتب المقدّسة بسبب طبيعتها» و«تكيّف ﷲ حين يكشف عن نفسه» ومفهوم التّكيّف هذا هو «مفتاح لاهوت الذّهبيّ الفم».

الدّكتورة بيتسا استيفانو: حائزة دكتوراه في العلوم الدّينيّة، وإجازة في الأدب العربيّ من جامعة القدّيس يوسف في بيروت. أستاذة محاضرة في معهد الآداب الشّرقيّة في الجامعة، ومسؤولة عن الأبحاث في مكتبة العلوم الإنسانيَّة فيها. أستاذة محاضرة في جامعة «Domuni» – باريس. ولها العديد من المقالات المنشورة باللُّغتين العربيَّة والفرنسيَّة.

[email protected]

مسألة الشّرّ والشّرير في الدّيانات القديمة والكتب المقدّسة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الأب سامي حلّاق اليسوعيّ

مسألة الشّرّ والشّرير  في الدّيانات القديمة والكتب المقدّسة

ط.1، 87 ص. سورية: دار الكتاب المقدّس، 2023

منذ فاتحة التّاريخ، أكبَّ الإنسانُ على البحث عن علّة وجود الشّرّ، وبخاصّةٍ ذاك الّذي لم يتولّد من قرارات بني آدم، فأضحى، منذ ذلك الحين، «معضلة البشر الكبرى» (ص. 9). في كتابه الجديد، يُطلِعنا الأب سامي حلّاق على الإجابات الّتي قدّمتها الدّيانات لمؤمنيها على مدار الزّمن عن هذه الإشكاليّة.

هو راهب يسوعيّ من مواليد حلب العام 1960، حاز إجازة في الهندسة الميكانيكيّة وماجستير في اللّاهوت. درّس اللّاهوت في جامعة القدّيس يوسف اليسوعيّة وفي مراكز أخرى، كما وعظ الرّياضات الرّوحيّة وأدار مشاريع الهيئة اليسوعيّة لخدمة اللّاجئين في مدينة حلب. صدرت له مؤلّفات وترجمات لاهوتيّة وروحيّة يربو عددها على الأربعين، ومنها عن دار المشرق: قدّيسون وشهداء يسوعيّون (2004)، مجتمع يسوع (2009)، أوراق البيئيّة (2011)، سبع هِبات من الرّوح القدس (2011)، الثّائر الأعزل أوسكار روميرو (2011)، لاهوت النّساء (2016)، لاهوت التّحرير الأورثوذكسيّ (2017).

يستهلّ الأب حلّاق جولته مع ديانات ما بين النّهرَين الّتي حثّت أبناءها على استرضاء آلهة الأوبئة والفيضانات بتقديم الذّبائح والصّلوات، قبل أنْ يحتجّ زرادشت على التّقليد مؤكّدًا أنّ العالم حلبة صراع مرير بين آلهة خيرٍ لا ترتكب الرّذيلة وآلهة الشّرّ.

تأثّر العهد القديم بالتّعاليم الزّرادشتيّة في فترة السّبي، فبعد أنْ علّم العبرانيّون أنّ ﷲ يبتلي البشر بالأمراض والكوارث عقابًا على آثامهم (ألم يدمّر الملاك مدينة سدوم؟) وعجزوا عن تفسير «ألم الأبرار»، أخبروا عن شيطانٍ يستأذن ﷲ لامتحان صدق المؤمنين، وفي طليعتهم أيّوب البّار، ثمّ تحوّل تدريجيًّا إلى كائنٍ مستقلّ. وفي القرن الثّالث قبل الميلاد، تشرّب اليهود الأفكار اليونانيّة الّتي أحضرها الإسكندر المكدونيّ وتبنّوا مصطلحاتها الفلسفيّة في ترجمة النّصوص ومنها كلمة «ديابولوس»، ومعناها «الّذي يرمي الشّقاق» (الّتي تحوّلت إلى «إبليس» في اللّغة العربيّة»).

في العهد الجديد، لم يتطرّق يسوع لأصل الشّرّير، بل حثّ على التّصدّي له، وكان هو نفسه نموذجًا للمؤمنين في مواقفه الثّابتة في رواية التّجارب الّتي هي، بحسب الأب حلّاق، اختصار للإغراءات الّتي تعرّض لها المسيح في أثناء رسالته التّبشيريّة، ومنها مثلًا السّعي إلى الشّهرة. أمّا بولس فيذكر تارةً الشّيطان وطورًا إبليس، مميّزًا بين هويّتَين، فيما الكتب الأخرى من العهد الجديد لا تفرّق بينهما. في الأحوال جميعها، إذا كان الشّرير هو مصدر الشّرّ، فالإنسان يبقى سببه في حال رضيَ بحيل المجرّب (ص. 55). يختتم المؤلّف جولته مع قصّة سقطة الشّيطان وعصيانه لأمر ﷲ في الإسلام.

في الفصل الأخير، ينكفّ المؤلّف عن دور المؤرِّخ الموضوعيّ، ليَشرق مكانه وجهُ المرشد الرّوحيّ الّذي يدعو المؤمنين إلى «معرفة العدوّ» المفتري الّذي يستخدم أسلحة كثيرة كالتّضليل. فالإنسان وحده يملك الحريّة لمقاومة الرّوح الشّرّيرة ولعدم الامتثال لغرائزه، مستندًا في كفاحه إلى المسيح الّذي هزم العدوّ بقيامته.

هذا الفصل الرّوحيّ، كشف عنه المؤلِّف في الصّفحات الأولى موضّحًا: «كي لا يستنتج القارئ في هذا الكتاب نوايا ليست لدينا» (ص. 11). هذه الحيطة لربّما – وقد أكون مخطئًا – سببها أنّ الاعتقاد بوجود الشّيطان أو عدمه أضحى، في رأي غالبيّة مسيحيّي المشرق، مقياسًا فاصلًا بين فئة أمينةٍ لوديعة الإيمان وفئةٍ أعرضت عن التّعاليم التّقليديّة. وللأسف، في الوقت الرّاهن، أصبح «الإيمان» بوجود الشّرّير المعيار الأوّل للبتّ في استقامة التّعليم المسيحيّ أو الخروج عنه، وهذا ما نلتمسه في السّجالات على مواقع التّواصل الاجتماعيّ مع ما يرافقها من حملات تشهيرٍ وترهيب وتضليل.

تكمن أهميّة هذا الكتاب في أنّه يضع في متناول الأفرقاء المعطيات التّاريخيّة واللّاهوتيّة من أجل مقاربة الموضوع بعيدًا من المواقف العدوانيّة أو الغرائزيّة. وفي رأيي، لا بدّ من أنْ يتبنّى الجميع مسبقًا مبدأَين راسخَين من تعاليم الكنيسة ارتكز عليهما المؤلِّف: أوّلًا، القبول بنموّ الإلهام في الكتاب المقدّس، أي أنّ أسفاره «تصحّح ذاتها باستمرار وتعيد النّظر بمواقف سابقة» (جان لوي سكا)؛ وثانيًا، القبول بأنّ الكُتَّاب المُلهَمين تأثّروا بحضارات الشّعوب المحيطة بهم فغرفوا من تراثها تعاليم تبنّوها بعد أن رفعوا عنها ما يتعارض والوحي الإلهيّ. والحال أنّ القسم الأكبر من مسيحيّي الشّرق لا يزال يتمسّك في تنزيل نصوص الكتاب المقدّس، وبالتّالي في قراءةٍ حرفانيّةٍ لها.

 

االأب غي سركيس : حائز درجة الدّكتوراه في اللّاهوت من الجامعة اليسوعيّة الغريغوريّة الحبريّة (روما). أستاذ محاضر في جامعتَي القدّيس يوسف، والحكمة. وهو كاهن في أبرشيّة بيروت المارونيّة. له مجموعة من المؤلّفات الدّينيّة والتّأمّليّة والفكريّة في اللّاهوت المسيحيّ، وحوار الأديان والحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبعضها من إصدار دار المشرق (نوبل للسّلام… لمن؟، أؤمن… وأعترف، قراءة معاصرة في الإيمان المسيحيّ، وإيمان في حالة بحث، النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة…).

[email protected]

“الخلاف الكبير حول تاريخ العيد الكبير”

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

مجلّة الوحدة في الإيمان

دير البطريرك غريغوريوس الثّالث لحّام

السّنة 23، العددان 1و2، 2023

ليس من عادة المشرق أن تنشر مراجعة لمجلّاتٍ أو لمقالات. لكنّ هذين العددين من مجلّة الوحدة في الإيمان، المجموعَين في كتابٍ واحد، يضمّان مجموعة من المقالات تتناول موضوعًا شائكًا في الشّرق المسيحيّ. فكلّما اقترب عيد الفصح، تصحو أذهان المسيحيّين على واقع الانقسام في الكنيسة، ويستولي الحرج على مشاعرهم حين يسألهم غير المسيحيّين السّؤال التّقليديّ: متى عيدكَ؟ طارحُ السّؤال يريد أن يعرف التّاريخ ليقوم بالمعايدة. لكنّ متلقّي السّؤال يشعر بالخجل. المسيحيّون منقسمون، وعلامة الانقسام هي وجود تأريخَين لعيد الفصح، أو العيد الكبير، الواحد اتُّفِقَ على تسميته التّاريخ الشّرقيّ (اليوليانيّ)، والآخر التّاريخ الغربيّ (الغريغوريّ).

ومن هذا الحرج ترتفع صرخات تطالب «بتوحيد العيد»، وترفع أخرى سقف المطالب إلى مستوى توحيد الكنائس في كنيسة واحدة. وبعد انتهاء موسم الأعياد، تصمت الأصوات، وتعود الحياة إلى مسارها المعتاد، وتزيح ديستوبيا الواقع إيتوبيا الأحلام.

ما قصّة هذَين التأريخَين؟ متى ظهرا؟ وهل كانت هناك محاولات لتوحيدهما؟ إنّ دراسة تاريخ مسألةٍ ما  يحوي جزءًا من حلّها، أو أقلّه، يوجّه نحو حلٍّ ممكن. وهذا ما يُرجى أن نجده في هذين العددين من مجلّة الوحدة في الإيمان.

أمّا المحتوى فهو بالتّسلسل الآتي:

المقدّمة، بقلم غبطة البطريرك غريغوريوس الثّالث لحّام، بطريرك الرّوم الملكيّين الكاثوليك سابقًا، معنونة بصرخة النّاس: «وحْدولنا العيد». ويليها مقال لغبطة البطريرك نفسه يقدّم فيه لمقالات العددين، ويسرد شيئًا من واقع هذه المسألة اليوم بلغةٍ رعائيّة، ثمّ إحصاء للكنائس الكاثوليكيّة الّتي تعيّد بحسب التّقويم اليوليانيّ (في المجلّة يوليّ)، ورؤوس أقلام عن مراحل تاريخ التّعييد.

مقال المطران بطرس المعلّم «مشكلة الأعياد» يشرح كيف يتمّ تأريخ الفصح لكلّ سنة، ويعرض شيئًا من التّاريخ حتّى مجمع نيقية 325، لينتقل بعدها إلى القرن العشرين، فيذكر بعض نصوص المجمع في هذا الموضوع، وينهي باستنتاجات ختاميّة.

مستلّ من كتاب الأبوين ميشال أبرص وأنطوان عرب المجمع المسكونيّ الأوّل، نيقيا الأوّل (325)، يتناول نقاشات المجمع في هذه المسألة. لم تكن القضيّة حينها بين التّاريخ اليوليانيّ والغريغوريّ، بل بين التّاريخ اليهوديّ واليوليانيّ.

مقال عمّانوئيل لان «الاختلافات في المجالات الطّقسيّة والنّظاميّة» يكمل بإيجاز المعلومات عن الفترة التّاريخيّة السّابقة، ويذكر مراسلات الشّرقيّين مع البابا فيكتور في مسألة توحيد العيد.

يلي ذلك ملفّ عن «الاحتفال بالفصح في طقوس الكنائس المسيحيّة» (الصّفحات من 58 إلى 103)، وملفّ آخر يحوي مقالات تعبّر عن موقف كنيسة الرّوم الأرثوذكس من تأريخ العيد، وينتهي ببعض تصريحات البطاركة البيزنطيّين في هذا الشّأن. موقف كنيسة الرّوم الملكيّين هو الملفّ الّذي يتبعه، ثمّ يجد القارئ ملفًّا بعنوان: «موقف الكنائس الأخرى» ويضمّ مقالين، واحدًا للأنبا بيشوي (الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة)، والآخر نداء لمار نيقوديموس متّى داوُد شرف (الكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة).

في ملفّ «المواقف بعد الفاتيكانيّ الثّاني» نجد بعض النّصوص من المجمع، وبعض التّصريحات أو المواقف الّتي، برأينا، لا ترتقي إلى مستوى الجدّيّة الأكاديميّة في معالجة مسألة توحيد العيد.

وفي الختام، ملفّ يضمّ مقالات روحيّة ليترجيّة (بيزنطيّة فقط) عن الفصح بعنوان: «فيض النّور وعيد الفصح». اللّافت للنّظر هو سرد قصّة النّور المقدّس، النّور المعجزيّ الّذي يبدو أنّه يظهر فجأةً فيشعل الشّموع الّتي يحملها البطريرك البيزنطيّ الأرثوذكسيّ بعد أن يدخل قبر المسيح. لافت للنّظر إذ – برأينا - الإشكالات الّتي يطرحها «النّور السّماويّ» الّذي يختار التّقويم الأرثوذكسيّ، ويظهر لطائفة من دون سواها، ليبرهن مادّيًّا على صحّة القيامة والإيمان، هي أكثر بكثير من الفوائد الّتي يُخالُ أنّنا نستطيع أن نجنيها من هذا الحدث السّنويّ.

لافت للانتباه أيضًا صمت عجيب في مقالات هذه المجلّة عن فترة تمتدّ من القرن الرّابع إلى القرن العشرين. صمت عن تحوّل كنيسة الأرمن الأرثوذكس من التّقويم اليوليانيّ إلى الغريغوريّ، وفرة في المقالات تتناول المسألة بين الكاثوليك من جهة والرّوم الأرثوذكس من جهةٍ أخرى، وشحّ في ذكر جهود محاولات توحيد العيد بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الشّرقيّة الأرثوذكسيّة الأخرى، وميل واضح إلى الرّغبة بأن تنضمّ الكنائس الكاثوليكيّة الشّرقيّة إلى التّقويم اليوليانيّ وتترك التّقويم الغريغوريّ المعتمَد عالميًّا في حياتنا اليوميّة، وبالتّالي، إبقاء «الخلاف الكبير حول تاريخ العيد الكبير»، والاكتفاء بنقله من خلافٍ داخل البلد الواحد إلى خلافٍ بين البلدان.

الأب سامي حلّاق اليسوعيّ : راهب يسوعيّ، وأستاذ في جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له مؤلّفات وترجمات عدّة منشورة، بالإضافة إلى مقالاتٍ بحثيّة في مجلّة المشرق.

[email protected]

i

مقالات هذا العدد

أزمة الإنسان المعاصر بين الإيمان والإلحاد

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

تتحدّث المقالة عن التّحوّلات الثّقافيّة والفلسفيّة الّتي يمرّ بها الإنسان المعاصر بشأن مفاهيم الإيمان والإلحاد، ودور التّنوير بوصفه حركةً عقلانيّة فلسفيّة وثقافيّة في أوروبا أنتجت المدارسَ الإلحاديّة، وسلّطت الضّوء على التّطوّرات العلميّة والتّكنولوجيّة والاهتمام المتزايد بالعقلانيّة والفرديّة والنّسبيّة الّتي تشجّع على التّشكيك في الدّين، وتركّز على العقل والمنهج العلميّ في فهم العالم واتّخاذ القرارات وتحديد القيم من دون الله. وتوضّح كيف أنّ العقل أصبح، بعد هذا التّحوُّل المنهجيّ والتّاريخيّ في الحضارة الغربيّة، مصدرًا أساسيًّا من مصادر المعرفة من أجل بلوغ الحقيقة.

تتحدّث المقالة عن ربط بعض الاتّجاهات الإلحاديّة المعاصرة الإيمان بالإحساس بالخوف والشّعور بعدمِ القدرة على التّحكّم بالحياة والمصير، وأنّ الله الّذي يتوجّه إليه الإنسان هو من اختراعه وابتكار مخيّلته، حيث يُسقط الإنسان خارج ذاته كائنًا أسطوريًّا، مجسِّدًا أفضل ما لديه في كائن وهميّ من صنع مخيّلته، ويُسمّيه «الله». وهي تستشهد بآراء هنري دي لوباك وموريس بلوندل وغيرهم من المفكّرين لتؤكّد أنّ الإلحاد يرفض الصّورة الخاطئة لله في المسيحيّة، مركّزة على أهميّة الإيمان والعلاقة الشّخصيّة مع الله الّتي تُبنى على أسس الحقيقة والمحبّة.

 وفي الختام، دعوة إلى فتح باب للحوار، بين الإيمان والفكر المعاصر، عن الحقيقة في عالم اليوم للتّعامل مع التّحدّيات الّتي يطرحها الإلحاد في عالم يتغيّر بسرعة. ويطرح العديد من الأسئلة عن دور كلٍّ من العلم والإيمان وضرورة الاعتراف بأنّ كلًّا منهما لديه حدوده.

الكلمات المفتاحيّة: التّنوير- العقل- العلم- الإيمان- الفكر المعاصر- أوروبا- الدّين- الفلسفة- الحقيقة- الفرديّة- النّسبيّة- الإلحاد المعاصر- الحرّيّة.

La crise de l’homme contemporain entre la foi et l’athéisme

Dr. Suzanne Wakim Wakim

L’article parle du mouvement des Lumières en Europe, qui s’est développé en réaction à l’immobilisme religieux médiéval. Il met en avant la promotion de la raison et de la science comme moyens essentiels pour comprendre le monde, reléguant les idées qui ne respectaient pas ces principes. De plus, il souligne une crise d’athéisme contemporain, où certains mouvements athées modernes insistent sur la liberté individuelle de croyance et l’importance de la raison pour déterminer les valeurs et les significations, sans Dieu. Cette perspective crée un mouvement humaniste qui met en avant la liberté de pensée et l’autonomie individuelle dans l’exploration de la réalité et de la signification.t

L’article met également au sommet la notion que l’homme a créé Dieu pour combler un vide intérieur, attribuant à Dieu ce qu’il a retiré de lui-même. Il plaide pour la destruction des religions conçues pour satisfaire les désirs égoïstes de l’homme, citant des philosophes et écrivains qui ont critiqué les religions pour leur impact négatif sur la vie humaine. En fin de compte, le texte encourage le dialogue entre la foi en Dieu et la pensée contemporaine, soulignant l’importance de la vérité et de l’amour envers les autres, et propose que l’homme peut être son propre créateur de sens, créant sa propre signification dans un monde qui semble dépourvu de divinité. t

Mots clés: Lumières – Europe – Immobilisme religieux – Raison – Science – Athéisme contemporain – Liberté individuelle – Dialogue – Foi – Humanisme – Autonomie – Création de sens – Divinité – Religion – Philosophes – Écrivain – Vérité.t

الدّكتورة سوزان واكيم واكيم: راهبة من جمعيّة الرّاهبات الباسيليّات المخلّصيّات. حائزة دكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللّبنانيّة (٢٠٢٠). محاضِرة في الفلسفة الغربيّة وفلسفة الأخلاق والأنثروبولوجيا والفلسفة المسيحيّة في عدد من الكلّيّات والمعاهد من بينها: معهد الآداب الشّرقيّة في جامعة القدّيس يوسف–بيروت. من مؤلّفاتها: كتاب الأسس الأنثربولوجيّة في فلسفة يوسف راتسنغر «البابا بندكتوس السادس عشر»، وبحثان علميّان “المجتمع العربيّ المعاصر: جدليّة البعد السياسيّ والدّينيّ” و” معرفة الرّوح لذاته في فلسفة هيغل”، ومقالة “الأديان والعنف في الشّرق الأوسط”، ألقيت في جامعة جنوب كاليفورنيا – لوس أنجلس.

[email protected]

البطريرك يوسف إسطفان والعالِم ميخائيل الغزيري في ضوء وثائق تُنشر للمرّة الأولى

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

نعرض في هذه المقالة أربعة مستندات وجدناها في مدينة مدريد الإسبانيّة، وتنشر للمرّة الأولى، متضمّنة ثلاث رسائل صادرة عن البطريرك يوسف إسطفان وموجّهة إلى العالِم ميخائيل الغزيري، وهي تشكّل نظرة جديدة إلى علاقات البطريركيّة المارونيّة بالبلاط الإمبراطوريّ الإسبانيّ، ودور الغزيري في تعزيز هذه العلاقات، من خلال مركزه العلميّ في المجتمع الإسبانيّ، وطلب المساندة منه لتذليل المشاكل والهموم الدّينيّة والعامّة للبطريرك إسطفان. بالإضافة إلى نصّ يحتوي شرحَ نقش فينيقيّ وجد في مالطا، ولم يأت أحد من مؤرّخي الغزيري على ذكره.

كلمات مفتاحيّة: البطريركيّة المارونيّة – البطريرك يوسف إسطفان – العالِم ميخائيل الغزيري – الاستشراق في إسبانيا.

Le Patriarche Youssef Estéphane et l’orientaliste Michel Casiri à la lumière de documents inédits

Dr. Hyam Mallat

Cet article présente quatre documents inédits acquis à Madrid et publiés pour la première fois, qui apportent un nouveau témoignage sur les relations entre le Patriarche Estéphane et Michel Casiri. Outre la publication d’un texte original jamais relevé dans l’œuvre de Casiri concernant une inscription phénicienne découverte à Malte, trois documents du Patriarche Estéphane jettent une nouvelle lueur sur les relations entre le Patriarcat maronite et la Cour d’Espagne, le rôle de Casiri dans le raffermissement de ces relations, sa place scientifique dans cette société et le soutien qui lui est réclamé pour répondre à des préoccupations religieuses et publiques du Patriarche Estéphane.t

Mots clés: Patriarcat maronite – le Patriarche Youssef Estéphane – l’orientaliste Michel Casiri – l’orientalisme en Espagne.t

الدّكتور هيام جورج ملّاط: محامٍ وعالِم اجتماع وأستاذ جامعيّ. رئيس سابق لمجلس إدارة الصّندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ (1993 – 1999)، ومؤسّسة المحفوظات الوطنيّة (1999 – 2002). حائز جائزتين من الأكاديميّة الفرنسيّة في العامين 2002 و2009. أصدر مؤلّفات عدّة باللّغات العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة، من بينها لبنان نشأة الحرّيّة والدّيمقراطيّة في الشّرق الأدنى (2020)، والحقوق والمحاماة والقضاء في لبنان قبل تأسيس نقابة المحامين في العام 1919 (2019).

[email protected]

مدارس إهدن – زغرتا في أرشيف البطريركيّة المارونيّة بين العامين 1900 – 1915

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

سلّطت هذه الدّراسة الضّوء، من خلال “الفحص الّذي أجري على قرى الجبّة في العام 1900 والزّيارة الرّعائيّة الّتي قام بها كلّ من الخوري جبرايل مبارك، والخوري جبرايل كيرلّس، في العام 1901 من جهة، وأرشيف البطريركيّة المارونيّة، جارور البطريرك إلياس الحويّك من جهة ثانية، على مرحلة مهمّة من تاريخ إهدن – زغرتا على الصّعيد التّربويّ. واللّافت في مسيرة أهالي القريتين، توجّههم نحو العلم. وقد سعَوا إلى فتح العديد من المدارس بموافقة غبطة البطريك إلياس الحويّك، هذه المدارس كان لها دور فاعل في تنشئة أجيال من القريتين، حيث حظيت إهدن بستّ مدارس ناجحة ومن بينها مدرسة للبنات، وكان في مقدّمة هذه المدارس، مدرسة مار يوسف – زغرتا ومدرسة راهبات المحبّة ومدرسة الفرير. كما سلّطت هذه الدّراسة الضّوء على تعليم الإناث، ووضع المعلّمين والمعلّمات الثّقافيّ، والمادّيّ في مرحلة الدّراسة، وكذلك احتجاجات الأهالي على الوضع الإداريّ والتّعليميّ لبعضها، وتعامل البطريرك مع هذه الاحتجاجات بطريقة أبويّة. إلّا أنّها بالنتيجة تركت الأثر الطّيّب في زمنها، في وقت كان تحصيل العلم في مجتمعات جبل لبنان صعب المنال، في ظلّ أوضاع اجتماعيّة ومادّيّة ضاغطة.

الكلمات المفتاحيّة:  إهدن – زغرتا- جورنال الفحص – المدارس – التّربية.

Les écoles d’Ehden – Zgharta dans l’archive du Patriarcat maronite entre les années 1900 – 1915

Dr. Majdeline Saad El Ters

A travers l’enquête menée sur les villages de Jebbeh en 1900 ainsi que la visite pastorale effectuée par chacun des prêtres Gebrayel Moubarak et Gebrayel Keryllos en 1901 d’une part, et d’après les archives du patriarcat maronite d’autre part, cette étude met en évidence une période cruciale de l’histoire d’Ehden et de Zgharta sur le plan éducatif. En fait, l’importance accordée par les habitants de ces deux villages à l’éducation est vraiment remarquable. Ainsi, ont-ils contribué à ouvrir plusieurs écoles avec l’approbation de sa béatitude le patriarche Elias Hoayek. Ces écoles ont joué un rôle éminent dans la formation des générations des deux villages ; et Ehden, notamment, a fondé six écoles couronnées de succès dont une école pour filles. St Joseph Zgharta, l’école des Sœurs de la Charité et l’école des frères eurent particulièrement une grande distinction. De surcroit, cette étude met l’accent sur la scolarisation des filles ainsi que sur le niveau culturel des professeurs et leur situation économique en période d’études. Les protestations des parents contre la situation administrative et pédagogique, et les tentatives du patriarche à les calmer de façon paternaliste font de même partie intégrante de cette étude.t

Néanmoins, toutes ces institutions ont laissé de bonnes traces à leur époque, là où l’éducation au Mont Liban était un but difficile à atteindre compte tenu des conditions sociales et économiques inquiétantes. t

Mots clés : Ehden – Zgharta – Journal d’examination – École- Éducation. t

الدّكتورة مجدولين سعد التّرس: حائزة شهادة دكتوراه من كلّيّة الآداب والفنون، قسم التّاريخ في جامعة الرّوح القدس – الكسليك. عن أطروحتها: “البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة لزغرتا – إهدن بين عامَي 1900 – 1918 (دراسة موثّقة)”. وحائزة الماستر من الجامعة اللّبنانيّة عن رسالة بعنوان: “تاريخ جبيل السّياحيّ بين عامَي 1998 – 2017″. من منشوراتها مقالة في مجلّة المشرق، العدد 2023، ج.1، بعنوان “دراسة ديموغرافيّة لرعيّة حريقص بين العامَين “1900-1918″من خلال دفتر الخمس”.

[email protected]

منهج ترتيب موادّ المعجم اللّغويّ العربيّ ومشتقّاتها بين الأمس واليوم

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

يعدّ التّرتيب أحد أهمّ شروط الـمعجم، وإلّا لا يكون معجمًا، إذ لولا منهج التّرتيب لأَمضى الباحث ساعاتٍ بل أيّامًا في التَّفتيش عن كلمة ومعناها. وعرف هذا التّرتيب تطوّرات كثيرة عبر التّاريخ التّأليفيّ، وكانت متدرّجة من الصّعب إلى الأسهل فالأسهل، إلى أن استقرّ على ترتيب الزّمخشري القائم على تقسيم الـمعجم وفق التّرتيب الألفبائيّ، ووزّع الكلمات فيه بحسب أوائل جذورها مع مراعاة الحرف الثّاني، فالثّالث، فالرّابع، فالخامس من كلّ منها.

وكذلك فإنّ الـمادّة اللّغويّة تكون كبيرة في كثير من الأحيان، ولذا كان لا بدّ من منهج ترتيبيّ لـمشتقّات الـمادّة. هذا البحث يرصد تطوّر ترتيب موادّ الـمعجم وكذلك ترتيب مشتقّاته.

الكلمات المفتاحيّة: التّرتيب الـمعجميّ – منهج – الـموادّ المعجميّة – التّرتيب الألفبائيّ – التّرتيب النّطقيّ -نظام التّقليبات – مشتقّات الـمادّة.

L’approche de la classification du lexique du dictionnaire linguistique arabe et de ses dérivés entre hier et aujourd’hui

Dr. Marwa Yakhni

L’ordre est l’une des conditions les plus importantes pour un dictionnaire, sinon ce ne serait pas un dictionnaire, car sans l’approche de l’ordre, le chercheur aurait passé des heures, voire des jours, à chercher un mot et sa signification. Cette organisation a connu de nombreuses évolutions tout au long de l’histoire de la lexicographie et a été progressive du plus difficile au plus facile, jusqu’à ce qu’elle se stabilise avec l’ordre d’Al-Zamakhshari basé sur la division du lexique selon l’ordre alphabétique. Il y a classé les mots en fonction des premières lettres de leurs racines, en tenant compte de la deuxième lettre, puis de la troisième, de la quatrième, et de la cinquième de chacune.t

De même, le lexique est souvent très vaste, c’est pourquoi il était nécessaire d’établir une méthode d’organisation pour les dérivés des mots. Cette recherche examine l’évolution de l’organisation des mots du dictionnaire, ainsi que l’organisation de leurs dérivés.t

Mots clés: L’ordre lexicographique – une approche – la lexicographie – l’ordre alphabétique – l’ordre phonétique – Système de déclinaison – les dérivés.t

الدّكتورة مروى يخني: حائزة دكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها من معهد الآداب الشّرقيّة، جامعة القدّيس يوسف عن أطروحتها: المصاحبات اللّفظيّة وأهمّيّتها المعجميّة (معجم أساس البلاغة- ومعجم اللّغة العربيّة المعاصرة- ومعجم المنجد في اللّغة العربيّة المعاصرة- نماذج). تساهم منذ العام 2022 في تحرير مشروع المعجم التّاريخيّ الصّادر عن مجمع اللّغة العربيّة في الشّارقة -الإمارات. وهي أستاذة في معهد حلبا الرّسميّ ومعهد سير الرّسميّ. من منشوراتها مقالة “ابن جنّي في الاشتقاق الكبير بين الوهم والتّعسّف” نشرت في مجلّة المشرق، العدد 96، ج.2، تمّوز-كانون الأوّل 2022.

[email protected]

صوتُ الأنا وصوتُ الآخر- صورة اللّفظ وأصداء المعنى-رواية “سمّ في الهواء” لجبّور الدّويهي أنموذجًا-دراسة لسانيّة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

إنّ المتأمّل في حركة الرّواية المعاصرة يعلم حجم الاستثمار الإنسانيّ الّذي أحاط بها، من حيث استدراج غير طريقة أو منهج سرديّ في سبيل إنتاج المعرفة من الأعمال الرّوائيّة الحديثة. وكانت نظريّة “الأصوات المتنوّعة” لرائدها (باختين) خير دليل على ذلك، وهي قامت على تصنيفات صوتيّة لشخوص الرّواية، ولا سيّما صوت الرّاوي… وفي هذا المجال ينصبّ العمل على رواية “سمّ في الهواء” للرّوائيّ “جبّور الدّويهي”، فتكون مقاربة صوت الأنا وصوت الآخر، بالتّوازي مع صورة اللّفظ وصداه المعنويّ.

الكلمات المفتاحيّة : النظريّة الحواريّة- الأصوات المتعدّدة-صوت الأنا-صوت الآخر-الخطاب الرّوائيّ-سوسيولوجيا الرّواية- المستوى الصّوتيّ-المستوى الدّلاليّ-المستوى البنائيّ.

La voix du Je et la voix de l’Autre, image de la prononciation et écho du sens, roman  “Poison dans l’air”, de Jabbour Al-Douaihy comme modèle- Étude linguistique

Dr. Ali Nassereddine

Qui médite sur le mouvement du roman contemporain comprend l’ampleur de l’investissement humain qui l’entoure, grâce au recours à plus d’une méthode ou approche narrative afin de produire des connaissances à partir des œuvres modernes. La théorie des “Voix diverses” mise au point par Bakhtine en a été la meilleure preuve, théorie qui s’appuie sur des classifications sonores pour les personnages du roman, avec notamment la voix du narrateur… Le travail porte sur le roman « Poison dans l’Air », de l’auteur Jabbour Al – Douaihy, se basant sur une approche entre la voix du Moi et la voix de l’autre, en parallèle avec l’image de l’énoncé et son écho moral.t

Mots clés: La théorie du dialogue-Polyphonie- La voix du Je- La voix de l’Autre- Discours narratif- Sociologie du roman-Niveau de paroles-Niveau sémantique- Niveau structurel.t

الدّكتور عليّ ناصر الدّين: رئيس قسم اللّغة العربيّة في مركز علوم اللّغة والتّواصل في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الجامعة اللّبنانيّة، وأستاذ اللّسانيّات العربيّة فيها، وفي عدد من الجامعات الخاصّة. حائز شهادة الدّكتوراه  في علم فقه اللّغة من جامعة بوخارست-رومانيا (2006) عن أطروحة بعنوان “الصّفات النّموذجيّة (الطّرازيّة) للحيوان في المعاجم الكلاسيكيّة العربيّة والتّراث الشّعبيّ اللّبنانيّ”. من منشوراته: “لسانيّات النّصّ وتجلّياتها في فنّ القصّة القصيرة (مجلّة اتّجاه، العدد 59، حزيران 2023) ، اللّسانيّات الخطابيّة بين مساحة النّصّ وفضاءات التّواصل (مجلّة أوراق ثقافيّة، العدد 25، مايو 2023)، اللّسانيّات النّصّيّة وسؤال المعنى (مجلّة المنافذ الثّقافيّة، العدد 43، حزيران 2023).

[email protected]

مولِد كنيسة أنطاكية في أعمال الرّسل – وديعة المصالحة ومفارقة المضطهِد والمضطهَد

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

يُعدّ اضطهاد اليهود وشاول الطّرسوسيّ لإسطفانُس والجماعة المسيحيّة الأولى، وتأسيس كنيسة أنطاكية على نهر العاصي (أع ٦: ٨-٨: ٤؛ ١١: ١٩-٢٦)، حدَثين رئيسِيّين في انتشار الشّتات اليهوديّ المسيحيّ. فتأسَّست جماعة يهوديّة-مسيحيّة واستقرّت في أنطاكية، وكانت المدينة حينها عاصمة الإقليم الرّومانيّ لسوريا، ومركزًا تجاريًّا واقتصاديًّا مهمًّا ساهم في مزج الثّقافات ولقاء الدّيانات. وفي وسط التّحوّل الهائل لمجموعةٍ يهوديّة تؤمن بيسوع المسيح القائم من بين الأموات، سُمّي أفرادها “مسيحيّون” لأوّل مرّة في تاريخ الكنيسة (أع ١١: ٢٦). 

في هذه المقالة سنسعى للإجابة عن التّساؤل البحثيّ التّالي: أيّ انفتاح رسوليّ عرفته كنيسة أنطاكية، وأيّ عطيّة إلهيّة خاصّة مكّنتها من عيش هذه المصالحة كمثال للكنيسة جسد المسيح؟

تعتمد دراستنا على منهج التّحليل الرّوائيّ لدراسة النّصوص الكتابيّة؛ سنحدّد المقطع الكتابيّ المراد دراسته ونبرّر هذا الاختيار في سياق الرّواية العامّ، ثمّ نعلِّق بحسب أدوات التّفسير الكتابيّ على أهمّ النّقاط، وسنعرِّج في الخطوة الثّانية للإضاءة على بعض الميّزات السّرديّة لهذا المقطع. وسنقوم في القسم الثّاني بتحليلٍ لاهوتيّ يجمّع تحليلاتنا، وسنختم بتساؤلاتٍ جوهريّة عن هوّيّة الكنيسة اليوم. 

سندرس الرواية/المقطع الكتابيّ: (أع ١١: ١٩-٢٦) الّذي يروي لوقا من خلاله ولادة كنيسة أنطاكية، الّتي يضعنا فيها لوقا أمام “مفارقة مستترة” إذ تجمع هذه الكنيسة المضطهِد والمضطهَد في “بيتٍ واحد”، فنعتبرها “حدثًا تأسيسيًّا” لولادة الكنيسة الحقيقيّة، جماعة من “المسيحيّين” على مثال سيّدهم. 

 

الكلمات المفتاحيّة: أنطاكيا – أعمال الرّسل – الكنيسة الأولى – الاضطهاد الدّينيّ – التّحليل الرّوائيّ.

L’Église d’Antioche, le dépôt de la réconciliation et le paradoxe du persécuteur-persécuté. t

P. Tony Homsi

La persécution d’Étienne et de la première communauté chrétienne par les Juifs et par Saul de Tarse, ainsi que la fondation de l’Église d’Antioche sur l’Oronte (Actes 6:8-8:4 ; 11:19-26), sont deux événements majeurs dans l’expansion de la diaspora judéo-chrétienne. Antioche qui était alors la capitale de la province romaine de Syrie et un important centre commercial et économique contribuant au mélange des cultures et à la rencontre des religions, voit apparaître une communauté judéo-chrétienne et sa fondation dans cette région.t

Au milieu de la formidable transformation de ces membres du groupe juif qui croyait en Jésus-Christ ressuscité des morts, le nom “chrétiens” leur fut attribué pour la première fois dans l’histoire de l’Église (Actes 11:26). t

Dans cet article, nous tenterons de répondre à la question suivante : Quelle ouverture apostolique l’Église d’Antioche a-t-elle connue et quel don divin particulier lui a permis de vivre cette réconciliation comme un exemple pour l’Église, le Corps du Christ ? t

Pour cela, dans la première partie, notre étude s’appuiera sur l’approche de l’analyse narrative pour étudier les textes bibliques ; puis dans la deuxième partie, nous procèderons à une analyse théologique pour conclure par des questions fondamentales sur l’identité de l’Église aujourd’hui. t

A cet effet, nous étudierons le récit/passage biblique : (Actes 11,19-26) dans lequel Luc raconte la naissance de l’Église d’Antioche, dans lequel Luc nous place devant un “paradoxe implicite” en réunissant cette église, le persécuteur et le persécuté, dans “une seule maison”, de sorte que nous considérons qu’il s’agit d’un “événement fondateur” pour la naissance de la véritable Église, un groupe de “chrétiens” suivant l’exemple de leur Seigneur. t

Mots clés : Antioche – Actes des Apôtres – l’Église Primitive – Persécution Religieuse – Analyse Narrative. t

الأب طوني حمصي اليسوعيّ: مدير التّواصل الرّقميّ للرّهبانيّة اليسوعيّة في الشّرق الأدنى والمغرب العربيّ. مشرف على النّسخة الرّقميّة للكتاب المقدّس باللّغة العربيّة في ترجمته الكاثوليكيّة. حائز شهادة ماجستير في اللّاهوت الكتابيّ – كلّيّة اللّاهوت اليسوعيّة – باريس، ودبلوم جامعيّ في الصّحافة الرّقميّة، جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له العديد من التّرجمات الصّادرة عن دار المشرق.

[email protected]

مقامتان عربيّتان لحِبرَي الكنيسة السّريانيّة البطريرك يوحنّا بن المعدنيّ والمفريان غريغوريوس بن العبريّ (القرن الثّالث عشر)

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

يشتمل هذا البحث على مقامتين عربيّتين مسيحيّتين تُنشران للمرّة الأولى، دبجهما حِبران من أحبار الكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة في القرن الثّالث عشر. وعلى حدّ ما يعرف الآن، فإنّ النّصَّين لم يحفظا سوى في مخطوطة واحدة لكلّ منهما. وقد كانت مقامة البطريرك يوحنّا بن المعدنيّ محفوظة في مخطوطة ثانية وصلت من ديار بكر إلى الولايات المتّحدة في أوائل القرن العشرين، إلّا أنّ آثارها دثرت بعد العام ١٩٢٨. أمّا مقامة المفريان غريغوريوس بن العبريّ فلم تحفظ سوى في مخطوطة كرشونيّة، أي عربيّة مكتوبة بحروف سريانيّة، سيّئة الحال، إلّا أنّه من الممكن استخراج الكلمات منها، وهو المهمّ.

ومع كون الحِبرين المذكورين سريانيّي اللّغة والتّراث، إلّا أنّهما كانا أيضًا على سعةٍ في الأمر من العربيّة. على أنّ ذلك لم يكن دومًا حال يوحنّا بن المعدنيّ الّذي انصبّ متأخّرًا على دراسة لغة الضّاد في أثناء إقامته سبع سنوات في بغداد بين العامَين ١٢٣٧ و١٢٤٤، يستقبل في قلّايته أحد مثقّفي المسلمين ليدرّبه عليها، ويقال إنّه ما كان يخرج من عتبة تلك القلّاية لتنسّكه. أمّا ابن العبريّ فلا يُذكر عنه شيء من هذا القبيل، بل يشتبه أنّه أجاد العربيّة، فضلًا عن السّريانيّة، منذ حداثته.

في المقامة الأولى، وهي ترجام كُتب ليُقرأ في عيد الميلاد، يأتي ابن المعدنيّ على خلق آدم ثمّ على نكبته وزلّته، فلمّا لمحته الرّحمة الإلهيّة، أرسل الله الأنبياء ليمهّدوا الطّريق الوعرة، ويعدّوا القلوب الكدرة، ويخبروا بالسّرّ العجيب، وينذروا بظهور الابن الحبيب. حتّى إذا ما أتت الأوقات المحدودة، عمّت الفرحة العالم وأشرق نور الخلاص. حينئذٍ صاحت ملائكة العلاء بلغات قائلة: “السّبح لله في العلى”، ونهدَ أملاك الفرس بالنّور الكوكبيّ وتأدّوا إلى المغارة والصّبيّ، تدنو معهم معاشر المؤمنين بالذّلّة والخضوع، مقرّبين لطيف الذّبائح الشّكريّة على المذابح القدسيّة، متنبّهين لنعمه العالية عن الإحصاء، طربين بمولده راغبين بتجسّده.

أمّا المقامة الثّانية لابن العبريّ فهي مرثيّة لا لشخص بالتّحديد، بل نصّ كتب ليقرأ على قبر الميّت فلان أيًّا كان، تظهر بلاغتها في صيحة حادّة الصّرير أمام إدبار الدّنيا فانية اللّذّات، تتلوها دعوة إلى التّوبة. وإذ يرفع الكاتب الإيقاع ويسرّع النّبض، فإنّه يصل إلى علوّ شعريّ عبر استخدام الصّيغ المكرّرة، كقوله يذمّ الدّنيا: “كثيرة المصائب! كثيرة النّوائب! كثيرة الحروب! كثيرة العيوب! كثيرة الذّنوب! كثيرة الأعراض! كثيرة الأغراض! كثيرة الأمراض!” أو عبر استخدام الأفعال المتضادّة كقوله “جمعت ثمّ فرّقت، آنست ثمّ أوحشت، أغنت ثمّ أفقرت، رفعت ثمّ هبطت، أوصلت ثمّ أبعدت، زيّنت ثمّ أزرت، أصلحت ثمّ أفسدت” أو عبر استخدام سؤال أين، كقوله: “أين الّذي كانت تمشي الخلق أمامهم وهم ركّاب؟ أين الّذي كان معهم كلام وخطاب؟ أين الّذي بنوا الدّور وعلّوا القباب؟ أين الّذي لبسوا أفخر الثياب؟” مذكّرًا أنّهم بعد الموت ليسوا سوى رميم وتراب، في البراري والخراب.

الكلمات المفتاحيّة: يسوع المسيح – مقامة – يوحنّا بن المعدنيّ – غريغوريوس بن العبريّ – عيد الميلاد، مرثيّة – مخطوطة – القرن الثّالث عشر – العربيّة – الكرشونيّة – السّريانيّة.

Deux homélies rimées inédites en arabe du patriarche Jean Bar Ma‘danī et du maphrien Grégoire Barhebraeus prélats de l’Église syrienne (XIIIe siècle)

Dr. Jean Fathi

Dans cet article sont éditées pour la première fois deux homélies arabes chrétiennes composées, dans le style de la maqāma arabe rimée, par deux ecclésiastiques de l’Église syrienne-orthodoxe au XIIIe siècle. A la mesure des connaissances actuelles, ces deux textes ne semblent être préservés que dans un seul manuscrit chacun. L’homélie du patriarche Jean Bar Ma‘danī était aussi conservée dans un ancien et précieux second manuscrit, transporté de Diyarbakır aux États-Unis au début du XXe siècle, dont la trace est néanmoins perdue depuis 1928. L’homélie du maphrien Grégoire Barhebraeus n’est quant à elle contenue que dans un unicum recopié en karšūnī, c’est-à-dire, en arabe écrit avec des caractères syriaques. Le manuscrit est en piteux état de conservation, mais il est possible d’en recouvrir les mots, ce qui est l’essentiel.t

Bien que les deux prélats en question aient été de langue et de tradition syriaque, ils étaient tout aussi bien à l’aise en arabe. Pour Jean Bar Ma‘danī, cependant, ceci ne fut pas toujours le cas. En effet, il se mit tard à l’arabe, lors d’un séjour de sept ans à Baġdād, vers 1237-1244, recevant chez lui un professeur musulman pour s’y exercer. Rien de tel n’est indiqué pour Barhebraeus, qui fut probablement bilingue dès son plus jeune âge.t

Dans la première homélie, écrite pour être lue à Noël, Bar Ma‘danī conte la création d’Adam, puis sa chute et ses tribulations. Ayant Adam en miséricorde, Dieu envoie les prophètes afin de préparer le chemin raboteux et les cœurs tourmentés, et pour révéler le secret stupéfiant qui est la théophanie du Fils bien-aimé. Quand le moment arrive, le monde est pris de joie et brille la lumière du salut. Les anges crient à voix haute: Gloria in excelsis Deo. Sur terre, les rois perses parviennent à la caverne en suivant l’étoile, et avec eux, les hommes présentent leurs offrandes en se prosternant et en louant le Sauveur pour ses grâces innombrables reçues à travers l’Incarnation.t

La deuxième homélie, celle de Barhebraeus, est une oraison funèbre, écrite non pour quelqu’un en particulier, mais plutôt en forme de sermon générique qui peut être lu sur la tombe d’une personne décédée, quelle qu’elle soit. La beauté surprenante de ce texte se perçoit à travers un cri grave et strident lancé contre la vanité d’un monde évanescent, suivi d’un appel au repentir. Usant d’un rythme saccadé, l’auteur atteint des hauteurs poétiques à travers de longues séries de répétitions, par exemple en condamnant le monde plein de.. plein de.. guerres.. défauts.. péchés.. maladies.., puis en usant de juxtapositions de verbes contradictoires, décrivant un monde qui réunit puis sépare.. rehausse puis rabaisse… construit puis détruit…, puis en lançant une série de questions demandant où sont?.. où sont?.. afin de dénoter le fait que tous ceux qui portaient les beaux habits ne sont désormais que poussière et vent.t

Mots clés: Jésus-Christ – maqāma – Jean Bar Ma‘danī – Grégoire Barhebraeus – Noël – oraison funèbre – manuscrit – XIIIe siècle – arabe – karšūnī – syriaque.

الدّكتور جان فرج الله فتحي: زميل في مؤسّسة البحث العلميّ – فلاندر (FWO)؛ دكتور في العلوم الدّينيّة، جامعة لوفان (KU Leuven)؛ خرّيج المدرسة التّطبيقيّة للدّراسات العليا (EPHE)، جامعة باريس علوم وآداب (PSL). الدّكتور جان فرج الله فتحي: باحث في التّراث السّريانيّ والعربيّ المسيحيّ. من أعماله نسبة كتاب جديد لابن العبري في القرن الثّالث عشر وهو الورقاء في طريقة الارتقاء، النّسخة العربيّة لكتاب الحمامة السّريانيّ (قيد النّشر)، وكتاب  Le prince déchu عن رسالتَي الهاشميّ والكنديّ في الجدل الإسلاميّ المسيحيّ في القرن التّاسع (روما، ٢٠٢٢)، وبحث Le gambit d’Alep عن لاعب الشّطرنج السّريانيّ العالميّ فيليب ستمّا (واسمه الأصليّ فتح الله سفر اشتمّا) في القرن الثّامن عشر (روما، ٢٠٢٢).

مسالِك الشّوق في منازل الحبّ -جدليّة الاتّحاد عند تريزيا الأفيليّة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

تتناول المقالة المسار الرّوحيّ عند القدّيسة تريزيا الأفيليّة في محطّاته ومقوّماته، مبيّنة، في مرحلة أولى، كيف أنّ الشّوق هو الخيط الرّابط بين المراحل كافّة والمحرّك لديناميّة الارتقاء الرّوحيّ حتّى الاتّحاد بالله. في مقاربة تجمع بين التّحليل والتّأمّل، تعرض المقالة درجات الشّوق ومفاعيله في النّفس ودوره في دفعها إلى التّسامي حتّى الانعتاق من ذاتها وبلوغ مرادها. وفي مرحلة ثانية تتوقّف المقالة عند مركزيّة الشّوق في النّهج التّأمّليّ عند الأفيليّة وتسلّط الضّوء في هذا السّياق على المفهوم التّيريزيانيّ لتلازم الألم والفرح وتلازم الحبّ والمعرفة.

الكلمات المفتاحيّة: الله – حبّ – شوق – اتّحاد – تأمّل – معرفة.

Les métamorphoses du désir dans les Demeures. t
A propos de la dialectique de l’union chez Thérèse d’Avila

Dr Randa Abi Aad

Dans une approche à la fois analytique et méditative, cet article se penche sur la question du désir dans les écrits de Thérèse d’Avila. Dans un premier temps, le désir y est appréhendé dans ses composantes et ses étapes et défini comme fil conducteur et moteur de la dynamique d’ascension spirituelle qui conduit à l’union à Dieu. Dans un deuxième temps, l’article s’intéresse à la centralité du désir dans l’oraison thérésienne et met en lumière, dans ce contexte, d’un côté l’indissociabilité de la souffrance et de la joie et, de l’autre, celle de la connaissance et de l’amour.t

Mots-clés: Dieu-amour-désir-union-oraison-connaissance.t

الدّكتورة رندى أبي عاد: دكتوراه في الفلسفة من جامعة لوفان (بلجيكا). باحثة لبنانيّة وأستاذة الهرمنوطيقا والأنتروبولوجيا الفلسفيّة في جامعة الرّوح القدس الكسليك – لبنان. لها إسهامات في كتب جَماعيّة ومقالات عديدة باللّغتين العربيّة والفرنسيّة وترجمات.

[email protected]

كَفُّ الـمُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

عبد الله بن مصطفى الدّملوجيّ الموصليّ الحنفيّ (ت.1843/1259).

تحقيق ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي

كَفُّ الـمُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض

ط.1، 224 ص.، بيروت: دار المشرق، 2023

ISBN: 978-2-7214-8187-0

يعود بنا المحقّقان ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي إلى موصل القرن الثّالث عشر الهجريّ، المشتعل بالنّشاط الفكريّ والعلميّ، والجامع الفكرَين الصّوفيّ والسّلفيّ، موصل الفكر والذّكر والحلقات العلميّة والشّروحات والتّفاسير. ويقدّمان لنا عملًا من الأعمال الشّاهدة على الثّراء العلميّ آنذاك لشيخ الموصل في زمانه عبد ﷲ بن مصطفى الدّملوجيّ الموصليّ الحنفيّ (ت. 1259/1843) مصحوبًا بدراسة تكشف عن السّياق الفكريّ في الموصل.

تتطرّق دراسة المحقّقين إلى موضوعات شتّى تمسّ الثّقافة الصّوفيّة، ومن أبرزها النّزعات السّلفيّة في الموصل في القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر الهجريّين/الثّامن عشر والتّاسع عشر الميلاديّين. وتكشف الدّراسة عن أعلام كُثُر وجّهوا سهام نقدهم إلى الطّرق الصّوفيّة وأعلام التّصوّف، وأعلنوا عن ضرورة مواجهة الفساد الّذي استشرى في المؤسّسات الصّوفيّة، وفي سبيل ذلك دوّنوا مؤلّفاتهم وردودهم ليتبرّأوا من البدع والمعتقدات الصّوفيّة الزّائفة. وهنا تُظهر الدّراسة أسماء أعلام لم يعرف قارئ اليوم عنهم شيئًا، من أمثال عثمان بك الحيّانيّ (ت.1245هـ./1829) الّذي كتب مقالات وتعليقات كثيرة عن المتصوّفة الّذين سخّروا الطّرق الصّوفيّة لمصالحهم الدّنيويّة، وألّف رسالة ردّ فيها على الشّيخ خالد النّقشبنديّ (ت.1242هـ./1826).

ويلفت المحقّقان أنظار القرّاء إلى الكتابات الّتي توجّهت بالنّقد والإنكار على أعلام التّصوّف من أمثال عبد القادر الكيلانيّ (ت.561هـ./1166) الّذي حظي - ولا يزال - بمنزلة رفيعة في تاريخ التّصوّف الإسلاميّ في بلاد العالم الإسلاميّ على امتدادها شرقًا وغربًا، والصّوفيّ الشّهير ابن عربيّ الّذي ملأ الدّنيا ولا يزال يشغل النّاس حتّى وقتنا الرّاهن.

تقف الدّراسة على أنماط ثلاثة من التّأليف المجسِّد الصّراع السّلفيّ الصّوفيّ (ردود انتقاديّة، وكتابات دفاعيّة، ومحاولات للتّوفيق والموازنة بين الطّرفين). وتقدّم الدّراسة شواهد عديدة للأنماط الثّلاثة، أغلبها لم يُحقّق بعد، لتنبِّه الدّارسين والباحثين في تاريخ التّصوّف إلى أهمّية هذه الأعمال، محيلةً على جريدة واسعة من المخطوطات والمراجع الأعجميّة الّتي تجعل الباحث يرتحل إلى بقاع شتّى من بلاد الأناضول إلى الشّام والموصل ومصر وبلاد الحجاز.

ويلفت نظر القارئ مناقشة الدّراسة مسألة طلب محمّد بن عبد الوهّاب (ت.1206هـ./1792) العلم في الموصل، لِما كان له من أثر وحضور فيما بعد على من وجّهوا سهام النّقد إلى التّصوّف. فهذا محمّد بن الكولة يوصف بأنّه «كان سلفيًّا ثائرًا على الصّوفيّة، وأنّه كان شديد الإنكار على جميع الأولياء. ويذكر سعيد الديوه جي أنّه رحل إلى بغداد في العام 1191/1777 وأنّه كان على اتّصال بالشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب»[1].

كما تُناقش الدّراسة تزايد التّأثير السّلفيّ في بغداد، لتضع كتابات الشّيخ عبد الله الدّملوجيّ في سياقاتها السّياسيّة والفكريّة. وتردف ذلك بحديث موسّع بشأن عائلة الدّملوجيّ الّتي ما زال نشاطها العلميّ مستمرًّا حتّى يومنا هذا من خلال أبناء العائلة من الكُتّاب والأدباء والفنّانين.

ابن عربيّ وابن الفارض موضوعًا للجدل

أُلّفت كتبٌ كثيرة في الرّدّ على ابن عربيّ، وشهد القرن التّاسع الهجريّ فتنة في مصر[2] كانت أشبه بفتنة خلق القرآن، وتزعّم برهان الدّين البقاعيّ (ت.885هـ.) حملة تكفير ابن الفارض وابن عربيّ؛ وتلقّف أبناء مصر في الوقت الرّاهن كتابات ابن عربيّ، فأُعيد نشر ما كتبه البقاعيّ ومَن وافقه باعتبار أنّ ما يقوله هو الحقّ. وعلى أساسه تمّ «فضح الصّوفيّة» و«مصرع التّصوّف»[3]. ومن مصر انتقلت رسائل البقاعيّ إلى بلاد الحجاز وأعيد نشرها من جديد وبحث الطّلّاب عن رسائل أخرى كُتبت زمن تلك الفتنة، فأعيد نشر وتحقيق بعض الرّسائل الّتي أُلّفت في ذمّ ابن عربيّ واعتبار أعماله «قبوحات هلكيّة» لا «فتوحات مكّيّة».

كُتب لرسالَتي البقاعيّ الذّيوع والانتشار بين خصوم التّصوّف، واعتُمدت آراؤه وأفكاره في مخالفة «التّصوّف الوجوديّ» الثّابت من عقائد الإسلام. على أنّه لم يتمّ الالتفات إلى صوفيّة البقاعيّ الّتي يظهرها كتابه عنوان الزّمان في تراجم المشايخ والأقران[4]، وكذلك تفسيره القرآنَ الكريم الّذي اعتمد فيه بشكل أساسيّ على مؤلّفات أبي الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَسَنٍ التُّجِيْبِيُّ الْحَرَالِّي (ت.638هـ.).

ويأتي تحقيق ونشر كتاب كَفّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض في وقت تشهد فيه السّاحة العربيّة استعادة للجدل الدّائر بشأن أفكار ابن عربيّ وابن الفارض. لذا نحاول في هذه السّطور أن نعرض مضامين كتاب كَفّ المُعارِض.

استند المحقّقان في تحقيق نصّ الكتاب إلى نسختين خطّيّتين، النّسخة الأولى والمرموز لها بحرف الدّال هي نسخة تملّكتها عائلة الدّملوجيّ في بيروت. ولم ينس المحقّقان أن يشيرا بعد ذكر أوصاف هذه النّسخة إلى كون الدّكتور إحسان عبّاس، رحمه الله، كان قد بدأ العمل على تحقيق الكتاب اعتمادًا على هذه النّسخة الّتي أهدته العائلة إيّاها، لكن للأسف ضاعت نسخة إحسان عبّاس ولم تصل إلينا. ورغم وثوقيّة المخطوطة الّتي تملّكتها عائلة الدّملوجيّ إلّا أنّ المحقّقَين اعتمدا نسخة أخرى من مجاميع تيمور باشا ليخرج نصّ الكتاب في صورة علميّة تناسب موضوعه. ولا يخفى على القارئ ما للمحقّقَين من تضلّع في العمل على أدبيّات التّصوّف الإسلاميّ، ويظهر ذلك بوضوح من المنهج الّذي رسماه لنشر هذا النّصّ من ترجمة لأعلامه وتخريج لنقوله ومرويّاته وفهرسة كاشفة عن كلّ صغيرة وكبيرة وردت في المتن المحقّق.

حكم إيمان الشّيخين الشّيخ الأكبر ابن العربيّ وسلطان العشّاق ابن الفارض وثناء العلماء عليهما

يبدأ الكتاب بالإجابة عن سؤال وقع عن إيمان الشّيخين، ويصدّر الدّملوجيّ جوابه بذكر إجماع أهل الإسلام على أنّ مذهب الحلول والاتّحاد كُفرٌ في الملّة، ومن اعتقد بهما فهو كافر مرتدّ عن الإسلام. ويلفت المحقّقان إلى أنّ الدّملوجيّ اعتمد في هذا الحكم على برهان الدّين البقاعيّ، وإن اعتبرا أنّ ذلك من غرائب هذا النّصّ إلّا أنّه يشير إلى فضيلة من فضائل الدّملوجيّ الّذي، رغم انتصاره لمذهب الدّفاع عن الشّيخين، لم ينصرف عن الاستفادة من أعمال المذاهب الأخرى، وهو ما انعكس في نقولاته الّتي يدعم بها دفاعه عن الشّيخين بخاصّة والفكر الصّوفيّ بعامّة.

يُتبع الدّملوجيّ اقتباسه عن البقاعيّ بنصوص أخرى تؤكّد ما جرى عليه «اتّفاق أهل الإسلام» بشأن اعتقاد الحلول والاتّحاد والتزام شرائع الله في القول والعمل، ويجري الاستشهاد بابن تيميّة وتقيّ الدّين السّبكيّ والقرطبيّ وغيرهم. ثمّ ينقل جزءًا من الفتوى الشّهيرة المنسوبة إلى ابن كمال باشا (ت.940هـ.) في حقّ الشّيخ الأكبر للاستشهاد على ولايته الكبرى، معضدًا إيّاها بما أورده ابن حجر الهيثميّ في فتاويه الحديثيّة. ولا تتوقّف النّقول والاقتباسات الّتي يوردها الدّملوجيّ والّتي تؤكّد ولاية الشّيخين وتحضّ على حسن الظّنّ بالمسلمين والابتعاد عن التّكفير. وفي غضون ذلك يتناول المؤلّف بالشّرح والإيضاح جملة من المسائل الصّوفيّة كالفناء والذّكر وفضل الصّلاة على النّبيّ ﷺ، مستندًا إلى عدد وفير من أقوال العلماء على اختلاف مشاربهم، ممّا يؤكّد ما أشار إليه المحقّقان في قسم الدّراسة أنّ «قائمة المصادر الّتي عاد إليها المؤلّف تكشف عن معرفة موسوعيّة متنوّعة، يظهر فيها اطّلاعه على جانب كبير من التّراث الإسلاميّ»[5].

من الدّفاع عن الشّيخين إلى نقد سلوك بعض المنتسبين إلى الطّرق الصّوفيّة

يذكّرنا الدّملوجيّ بالنّقد الذاتيّ الّذي قدّمه أعلام التّصوّف منذ وقت مبكّر إزاء بعض المفاهيم والأخطاء الّتي رأوا فيها ما يغبّش الرّؤية ويؤدّي إلى الخلط بين تصوّف صحيح وممارسات مغلوطة. ويسبق إلى الذّهن مباشرة صنيع السّرّاج الطّوسيّ في اللّمع[6] عند قراءة ما قدّمه الدّملوجيّ من نقد لما وصفهم بـ «جهلة المنتسبين» أو ما وصفه بـ «البدع المستحدثة»[7]. ويظهر نقد الدّملوجيّ موضوعيًّا منصفًا مهذّبَ العبارة، مراعيًا آداب الخلاف، حريصًا على هدي الكتاب والسّنّة، من دون ميل إلى الهوى أو العصبيّة.

وينتقل الدّملوجيّ من النّقد إلى إيضاح بعض المفاهيم الّتي تختلط على معارِضي التّصوّف، من ذلك مجاهدات الصّوفيّة وعقائدهم، ويوضّح أنّ كلّ فعل من الأفعال الّتي يرى فيها الآخر شططًا أو مخالفة ككثرة الصّيام أو الذّكر أو التّبتّل لها أصل في الكتاب والسّنّة وهدي سلف الأمّة الصّالح. ويختم عمله بخاتمة تتعلّق بمسألة الكرامات.

ويلفت نظر القارئ أنّ الكتاب، رغم جريدة مراجعه ومصادره الواسعة، يخلو من النّقل عن الشّيخين ابن العربيّ وابن الفارض، رغم كونه دفاعًا عنهما. وكأنّ الدّملوجيّ انطلق من الخاصّ إلى العامّ المؤسّس، فبدل أن يغرق في تفاصيل الخلاف والجدال في بعض الكلمات والمفاهيم، حاول أن يكون عمله مصحّحًا لكلّ ما تعلّق بالتّصوّف وأهله في زمانه، فنبّه على الأغلاط وأصّل للمجاهدات وعزا العقائد إلى مصادرها، مستفيدًا من التّراث الهائل المدوّن في هذه المسائل.


[1]       عبد الله الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، تحقيق ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي (بيروت: دار المشرق، 2023)، 17.

 

[2]       لم تخصّص دراسات عربيّة بعد عن فتنة ابن الفارض. وإن لقيت هذه المسألة اهتمامًا في دوائر البحث الغربيّ، راجع إيليّا باولويج بطروشفسكي، الإسلام في إيران، ص. 492، 493. وقد أشار وليد صالح في دراسته «الاعتراف بالموروث الدّينيّ القديم: أنموذج برهان الدّين البقاعيّ» في مجلّة التّفاهم في عددها التّاسع والأربعين، السّنة الثّالثة عشرة، صيف 2015، 247، إلى دراسة مفصّلة عن فتنة ابن الفارض يمكن الرّجوع إليها: TH. EMIL HOMERIN, From Arab Poet to Muslim Saint: Ibn al-Farid, His Verse, and His Shrine, columbia,1994, 55-75.

[3]       في العام 1952 نشر عبد الرّحمن الوكيل (عضو جماعة أنصار السّنّة المحمّديّة في مصر) رسالتين للبقاعيّ، هما: تنبيه الغبيّ إلى تكفير ابن عربيّ، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتّحاد. وعنون نشرته بـ «مصرع التّصوّف»، جاءت هذه النّشرة إعلانًا عن موقفه إزاء التّصوّف، فبعد أن تلقّى تعليمه في الأزهر، أنعم الله عليه بصبح جديد كما يذكر في مقدّمة كتابه فتعرّف إلى الشّيخ محمّد حامد الفقيّ الّذي أحبّ من خلاله نصوص ابن تيميّة، وتبنّى موقفه العقائديّ من ابن عربيّ، كان عبد الرّحمن الوكيل من خصوم التّصوّف المشاهير في وقته، وتزامن مع نشرته لنصوص البقاعيّ إصدارُه كتيّبًا لنقد أفكار الصّوفيّة وإظهار معايبهم، حمل عنوان صوفيّات وسّعه فيما بعد نظرًا إلى إقبال النّاس عليه في مصر والشّام، وأصدره بعنوان جديد في العام 1955= =لخّص فيه رؤيته للتّصوّف «هذه هي الصّوفيّة»، وسرعان ما انتشر هذا الكتاب في مصر، وأعيد طبعه في سوريا ولبنان وبلاد الحجاز.

[4]       كتب محمّد فوقي حجّاج بحثًا عن تصوّف البقاعيّ بعنوان: «الشّيخ البقاعيّ ومدى خصومته للصّوفيّة ومقدار موالاته لهم»، نُشر في العدد الثّاني من مجلّة كلّيّة أصول الدّين بالقاهرة، ص. 167-180. وخصّص جودة محمّد أبو اليزيد المهدي مبحثًا في كتابه الاتّجاه الصّوفيّ عند أئمّة تفسير القرآن الكريم لمناقشة رؤية البقاعيّ للتّصوّف، استند فيها إلى بعض النّقولات الّتي أوردها البقاعيّ في كتابه مصاعد النّظر للإشراف على مقاصد الآي والسّور، راجع ص. 221-245. وخصّص محمّد عبد المنعم عبد السّلام الماجستير لدراسة الإمام برهان الدّين البقاعيّ وموقفه من التّصوّف. نوقشت رسالته وأجيزت في كلّيّة أصول الدّين بجامعة الأزهر في العام 2000.

[5]       الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، 55.

[6]       خصّصَ الطّوسيّ الكتاب الأخير من اللّمع لهذا الجانب النّقديّ في دراسة التّصوّف، وهو يربو على مائة صفحة، غير أنّه جعله على قسمين كبيرين، أوّلهما عن الشّطح والقسم الثّاني الّذي يختم به الكتاب فقد خصّصه لذكر «من غلّط من المترسّمين بالتّصوّف، ومن أين يقع الغلط، وكيفيّة وجوه ذلك». راجع السّرّاج الطّوسيّ، اللّمع (القاهرة وبغداد: دار الكتب الحديثة، 1960)، 453-515. وقارن الفصل الّذي خصّصه حسن الشّافعيّ في كتابه فصول من التّصوّف، بعنوان النّقد الذّاتيّ (القاهرة: دار البصائر، 2008)، 273-327.

[7]       الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، 136.

 

الدّكتور خالد محمّد عبده: باحثٌ وأكاديميٌّ. حائز شهادة الدّكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة، وهو باحثٌ في جامعة إشبيلية في إسبانيا. نشر مؤلّفات وتحقيقات وأبحاثًا عدّة منها: معنى أن تكون صوفيًّا (القاهرة: دار المحروسة، 2016). حضورُ الرّوميّ وشمس تبريزيّ في الثّقافة العربيّة (القاهرة: دار القدس 2020). الجدل الإسلاميّ المسيحيّ في القرن الثّالث الهجريّ (دار المدار الإسلاميّ: بيروت، 2022). الحكمة الخليقة للزّندويستيّ بالاشتراك مع د. بلال الأرفه لي (دار المشرق: بيروت، 2023).

[email protected]

إيمان في حالة بحث، النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الأب غي سركيس

إيمان في حالة بحث، النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة

ط.1، 196ص. بيروت: دار المشرق، 2023

ISBN: 978-2-7214-5646-5

هذا الكلام لاهوتيّ، فلانٌ يدرّس اللّاهوت، فلانةٌ تدرُس اللّاهوت… عبارات صارت مألوفة لدينا. إنّنا نعرف معناها بوجه عامّ: اللّاهوت شيء يخصّ الدّين، وربّ مطّلعٍ يقول: إنّه يخصّ الدّين المسيحيّ. ولكن ما هو اللّاهوت؟ وكيف نميّز في النّصوص الدّينيّة بين نصٍّ تفسيريّ، ونصٍّ روحيّ، ونصٍّ رعائيّ، ونصٍّ لاهوتيّ…؟

إلى جانب الصّعوبات في التّمييز بين طبيعة محتويات هذه الأنواع من النّصوص الّتي ذكرناها، لأنّ الأنظمة النّمطيّة تتداخل فيها غالبًا، يبقى السّؤال الأساسيّ مطروحًا: ما هو اللّاهوت؟ أو بتعبيرٍ أكثر شعبيّةً: إذا أردتُ أن أكتب في اللّاهوت، ما هو المنهج (أو المناهج) الّذي ينبغي لي أن أتبعه؟ هوذا باختصار مضمون كتاب الأب غي سركيس: إيمان في حالة بحث، مع عنوانٍ فرعيّ: النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة.

الملاحظة الأولى الّتي تشدّ الانتباه، وقد ذكرها الأب سركيس في المقدّمة، وأذكرها هنا بطريقتي: في بلداننا العربيّة عدد لا بأس به من أساتذة اللّاهوت، ولكن قلّما نجد بينهم، أو خارج حلقتهم، لاهوتيًّا. «لقد ولّى الزّمان الّذي تميّز بشخصيّاتٍ لاهوتيّة عربيّة ومشرقيّة» (ص. 9). فلكي لا يكون هذا الغياب مستدامًا، شعر الأب سركيس بضرورة إصدار هذا الكتاب. مَن يدري؟ ربّما يكون حافزًا وفاتحة خيرٍ لعصرٍ يظهر فيه لاهوتيّون عرب.

الكتاب يحوي ستّة فصولٍ وقسمًا أخيرًا طويلًا بمثابة خاتمة تحوي التّأوين والانفتاح. لم يتبع الكاتب في فصوله، كما فعل في بعض كتبه السّابقة، التّسلسل الكرونولوجيّ لظهور الفكر اللّاهوتيّ والمدارس اللّاهوتيّة، بل عكف على تحديد النّقاط الأساسيّة المميّزة الّتي تجعلنا نقول عن نصٍّ أو مؤلَّفٍ: إنّه لاهوتيّ!

وحيث إنّ الكاتب أستاذ جامعيّ، عكف على تقطيع محتويات الفصول بمحطّات تفكيرٍ بعنوان: «نصّ للتّعمّق»، وفي بعض الأحيان ينتهي النّصّ بسؤال للتّفكير. لماذا؟ لأنّ اللّاهوت هو بالضّبط إيمان يُعمِل العقل، أو، كما يقول القدّيس أنسلموس: «آمن وفكّر في ما تؤمن به». فقضيّة إعمال العقل في الإيمان هي أوّل تحدٍّ واجه العمل اللّاهوتيّ، ويذكره الكاتب في الفصل الأوّل.

يبدأ الفصل الثّاني بعرضِ تاريخيّة مصطلح «لاهوت»، فيبيّن أنّ الممارسة سبقت المصطلح، وأنّه مع ظهور المصطلح وشيوعه صار تعريفه ضرورةً، فنجد في الفصل، ضمن إطاراتٍ رماديّة، تعريفاتٍ معاصرة  لهذا المصطلح.

عنوان الفصل الثّالث: «علم اللّاهوت مهمّة كنسيّة»، يمكن أن نستبدل به آخر هو: «شروط العمل اللّاهوتيّ». فاللّاهوت عمل يتمّ داخل الكنيسة وفي الشّراكة معها لا خارجها وبالانقطاع عنها، إنّه عمل يتطلّب التزامًا بالإيمان لا مراقبةً له وتحليله من الخارج، إنّه عمل يتطلّب من اللّاهوتيّ حياةً روحيّة عميقة في علاقته بالله .

الفصل الرّابع يطرح قضيّة مهمّة: لا يدّعي اللّاهوت أنّه سيصل يومًا إلى معرفة جميع أسرار الله. إنّه يسبر غور حقيقة الله، وحقيقة الإنسان، وحقيقة العلاقة بين اﷲ والإنسان، لكنّه لا ينسى أبدًا أنّه يتعامل مع سرٍّ يفوق قدرات الكائن البشريّ.

في الفصل الخامس تحديدٌ لمنابع العمل اللّاهوتيّ. وقد رتّبها الأب سركيس بحسب أولويّتها، فجاء الكتاب المقدّس أوّلًا، والتّقليد الكنسيّ ثانيًا، تلاه الحسّ الإيمانيّ عند شعب الله، فاللّيتورجيا، فآباء الكنيسة، وفي آخر القائمة الفلسفة ثمّ العلوم والخبرات الحياتيّة.

الفصول التّالية مكمّلة للموضوع. عرض لفروع اللّاهوت، المجامع «اللّاهوتيّة» وبعض اللّاهوتيّين: إيريناوس، وتوما الأكوينيّ، ومارتن لوثر، وهنري نيومن، لينتهي الكتاب بفصلٍ هو بمثابة خاتمة طويلة ذكرناها في البداية.

ما يلفت الانتباه هو وجود حركة في صفحات الكتاب: صور، مستطيلات مظلّلة، إلخ، ما يجعل قراءته سهلة، ناهيك عن متعة قراءة فحوى النّصّ في حدّ ذاته، إذ التزم الكاتب بالوضوح والاقتضاب درءًا للملل من التّفاصيل الّتي لا تهمّ، في آخر الأمر، سوى جماعة الاختصاص.

الأب سامي حلّاق اليسوعيّ: راهب يسوعيّ، وأستاذ في جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له مؤلّفات وترجمات عدّة منشورة، بالإضافة إلى مقالاتٍ بحثيّة في مجلّة المشرق.

[email protected]

غَفرْتُ

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

فؤاد حسّون

غَفرْتُ

ط.1، 248 ص. بيروت: دار المشرق، 2023
ISBN: 978-2-7214-5649-6

 

لم تكنْ طفولةُ فؤاد اسكندر حسّون مختلفةً كثيرًا عن طفولةِ أقرانهِ في قرية بريح الشُّوفيّةِ، الواقعةِ في جبلِ لبنانِ الجنوبيِّ. في تلك القريةِ المختلطةِ عاشَ مسيحيّونَ وموحّدونَ دروز «لعدّةِ أجيالٍ في وئامٍ تامٍّ» يقولُ حسّون في كتابه غفرْت (ص. 26) وهو ترجمةٌ لكتابه باللّغةِ الفرنسيَّة، عنونه بـ «J’ai
pardonné» وقد صدر في العام 2020 في باريس، وترجمه الخوري ميخائيل قنبر، فصدرَ عن دارِ المشرقِ في طبعتهِ الأولى في العام 2023.

الكتابُ أشبهُ بسيرَةٍ ذاتيَّةٍ يوثِّقُ فيها الكاتبُ مراحلَ حياتهِ لاسيَّما تلكَ الَّتي تحمِلُ قدرًا كبيرًا مِنَ العذابِ والمُعاناةِ في إثر تعرُّضِ منطَقَةِ فُرنِ الشُبَّاكِ في بيروتَ، إلى انفجارِ سيّارةٍ أمامَ منزلِ جدَّتِهِ حيث يتردّد في بعض الأحيان. حدث ذلكَ في 21 كانون الثّاني من العام 1986. يوثّق الكاتب إصابته نتيجةَ عصفِ الانفجارِ في وجهِهِ «.. كأنَّ سوطًا قد ضربني.. وقوَّةً رهيبَةً قذفتني، عندها لم أعد أرى شيئًا» (ص.12). وبعد عمليَّة جراحيّة في مدينةِ جنيڤ لمْ تتكلَّلْ بالنَّجاحِ، أبلغَهَ جرَّاحُهُ مباشرَةً «.. لقد أصبحتَ أعمًى» (ص. 8) ما أدَّى إلى ضياعٍ كاملٍ ترتَّبَ عليهِ في لحظَتِها حوارٌ مع الله:

– «… لماذا أنا؟ لماذا كلُّ هذا؟.. أخبرني أنَّ هذا ليسَ صحيحًا، ولا عادِلًا، نجِّني يا ربُّ.. خلِّصني… أنا أعمى والرَّبُّ الطِّيّبُ أصمُّ… إنَّها العبثيّة» (ص. 81.)

جثا بين يدي الله مُتضرِّعًا، يسألُه الشّفاء والرَّحمة… وفجأةً سَمِعَ همسًا بعيدًا كأنَّها مكالمةٌ داخليَّةٌ مع الله:

– «.. فؤادٌ هلْ تُحبُّني»؟

– «نعم أيُّها الرَّبُّ.. أعِدْ إليَّ نظري.. عينٌ واحدةٌ.. مِن أجلِ أمِّي»

– «.. إذا كُنتَ تُحِبُّني تقبَّلْ ما جَرَى..»

في هذهِ اللّيلَةِ الحواريَّةِ مع الله شعَرَ الكاتبُ بـ «شعاعٍ وسلامٍ داخليٍّ يسبرُني، سأبدأ مِن جديدٍ.»

من هنا تبدأ الحكاية. في مواجهة مرحلة جديدة من حياته، أخذ «حسّون» يتعلَّمُ القراءة والكِتابة وفقَ طريقَةِ «برايل»، وتمرَّس في كيفيَّةِ استخدامِ عصا المكفوفينَ وسائرِ مُتطلِّباتِ الكفيفِ. وإنجازُها كان يحتاجُ إلى سنةٍ كاملةٍ فأنجزها في ثلاثةِ أشهر. ومتخلّيًا عن فكرةِ دراسةِ الطُّبِّ بسببِ عدمِ الرَّغبةِ في العودةِ إلى بيروتَ اختارَ الحصولَ على دبلومٍ في علومِ الكومبيوتر مِن جامعةِ ليون الفرنسيَّةِ، ولكنّ حياته الجديدة حملت له المعاناة: «كنتُ أشعرُ بالوحدَةِ الرَّهيبةِ والهشاشةِ والهجرِ.. كانَتْ حياتي مُظلِمَة…» (ص.102). هذهِ الحالةُ جعلتْهُ يستذكِرُ في أمسيةِ صلاةٍ مِن أجلِ لبنان في( سان نيزيي – Saint_Nizier) حيث صورةُ السَّيِّدِ المسيحِ الّذي سقطَ ثلاثَ مرَّاتٍ تحتَ ثِقلِ الصَّليبِ، ومِن ثُمَّ قام…

يخبرنا الكاتب في تفاصيل الحكاية المؤلمة عن «التَّعزياتِ الصَّغيرةِ المُفرحَةِ الَّتي بلسَمَتْ جِراحَ تجاربي» وإن كانَ هناك شريكٌ يُعطيهِ الثِّقةَ للاستمرارِ، فهو ملاكُهُ الحارسُ المتمثّلُ بـ (سمعانِ القيروانِ) الّذي حملَ الصَّليبَ وراءَ السِّيدِ المسيحِ والّذي «ساعدَني في فتحِ بابٍ هُنا، وأخرَجَني مِن مأزقٍ هناكَ، وأعادَ تصويبَ مساري» (ص.105) .

كان يؤرِّقُهُ الحنينُ إلى الوطنِ، وكذلك الوحدة. فاستدعى أخاه من لبنانَ ليعيشَ ويتعلَّمَ معهُ. وحصلَ على منحةٍ تعليمِيَّةٍ، ودعمٍ من صندوقِ مساعداتِ الطُّلّابِ اللّبنانيّين في فرنسا. لكِنَّ المِنحةَ ما لبثَتْ أن سُحِبَتْ لأسبابٍ سياسيّةٍ، وتوقَّفَ الدَّعمُ، فوجدَ الكاتبُ نفسهُ وأخاه أمامَ خيارِ الأعمالِ الحرَّةِ…

مرّة أخرى وضعته الحياة أمام الاختبار، حينما تمّ الإعلان عن اكتشاف هويّة مفجّر العبوة، الَّتي تسبَّبَت بفقدانه البصر، واعتقاله في بيروتَ وإحالته إلى المحاكمةِ. تمنّى حينها لو يستطيع إلى الجاني سبيلًا ليقومَ بخنقِهِ، وتمزيقِهِ، واقتلاعِ قلبهِ وعينيهِ… وأمامَ ردَّةِ فعله تلك، استعادَ الكاتبُ مقطعًا مِن الإنجيلِ، يُذكِّرهُ بالتزامهِ الشُّروع بالمغفرةِ… «هل تُحبُّني؟»

عِندها انهارَ وجثا على ركبتيهِ وطلبَ الغفرانَ..

استمرَّ الكاتبُ على هذا المنوالِ إلى أن قرَّر التّواصلَ مع عرَّافِهِ، بهدفِ تقديمِ اعترافٍ شاملٍ دامَ أيّامًا، في دير سيّدة الثّلوج.. قالَ عنهُ: «.. تأثّرتُ جدَّا، فخررتُ ساجدًا عندَ قدمَي أمِّي العُلويّة.. توسّلتُها بلهفةٍ.. أرجوكِ ساعديني أريني الطّريقَ إلى المغفرةِ..» عندها شعر بانفتاحِ طريقٍ أمامَ ناظِريهِ وتوقَّفَ عن الاتّكاءِ قائلًا: «نعم سأنطلقُ في طريقِ المغفرةِ الطَّويلِ والصَّعبِ..» (ص132).

كان عليهِ أن يدركَ أنَّ الطريقَ سيكونُ طويلًا، فيما أوضاعُهُ الحياتيّة ستمنعه مِن الصّمودِ وبناءِ عائلةٍ.. الأمرُ الّذي جعلَ الكاتبَ يدعو السَّيّدةَ العذراءِ إلى مساعدَتِهِ في إيجادِ عملٍ. وما هي إلَّا أيّام قليلةٍ حتّى استُجيبَت دعوته … حملَ هذا الوضعُ الجديدُ، في مجالَي المغفرةِ والعملِ، الكاتبَ على الإحساسِ بأنّ «كلَّ أنواعِ الهمومِ والعقباتِ الَّتي تعثرتُ بها سابقًا وكأنَّها تنهارُ..».

وتتوالى الصّفحات وصولًا إلى ما أسماهُ «المشروعُ المزدوجُ : قبولُ حالتي، وعيشُ نعمةِ الغُفرانِ» (ص.148)، وقد استمرّ عشر سنواتٍ. أدركَ فيها ثمنَ الحياةِ وتعلَّمَ التَّوقّفَ عن إلقاءِ اللّومِ على عماه في كُلِّ مصائبهِ. تغيَّرتْ حياتُهُ بأسرها.. اكتشفَ «أنَّ الشَّرَّ غيرُ موجودٍ بالضّرورةِ، ودرب الاهتداءِ الّذي يُشبهُ النَّهرَ الجارفَ في طريقهِ كلَّ مشاعرِ الاستياءِ والغضبِ وجراحِ الماضي» (ص.159).

هذا التّصالح مع الحياة يسّر له باقي الطّريق. تابعَ عملهُ في برمجةِ الكمبيوتر، لاسيّما ما يتعلّقُ منها بأوضاعِ المكفوفينَ وحياتهم.. تزوَّجَ مِن امرأةٍ فرنسيّةٍ، ولأنَّه كانَ يعتبرُ أنَّ الانجابَ عطيَّةٌ مِن الله، ولنيل نعمةِ الأبوّة والأمومةِ راح يؤمّ الأماكنَ المُقدَّسةَ متوسّلًا، وأثناء زيارتِهِ مقام (سيّدة بشوات) في البقاعِ اللّبنانيِّ، رجا السّيّدةَ أن تحقّقَ رغبته في إقامةِ عائلة حقيقيّةٍ «أغدق عليه من نعمه، فرُزِقَ بثلاثِ بناتٍ وصبيٍّ على التَّوالي». وهكذا، تأكَّدَ أنَّ هناكَ مَنْ يرسمُ طريقَهُ وقد أظهرَ لي (مار شربل) أنّ الله ينظرُ إلينا كما نحن، فعيناهُ المغمّضتانِ في الأيقونةِ الَّتي تمثِّلُهُ تُعبِّرانِ عن ذلكَ.

أمامَ هذا التَّحوّلِ في حياةِ الكاتبِ، طرحَ سؤالَهُ الكبيرَ «ماذا سأفعلُ بكلِّ هذا؟» لقد ألقى الشّبكةَ حيثُ طَلَبَ مِنهُ السَّيّدُ المسيحُ، وقد حصلَ على الصّيد الوفير.. وخرجَ بخُلاصاتٍ، مِنها: أنَّه تعلَّمَ أن يعرِفَ نفسَهُ ويقبلَ بصفاتِهِ من دونِ أن يفتخِرَ بها، ونقائصِهِ من دونِ أن يشعُرَ بالذّنبِ، كما تعلَّمَ أن يجعلَ الله يحوِّل ضَعفَهُ إلى قوَّةٍ.. ويثبِّتُهُ على الإيمانِ والرِّضا.. ها هو يمضي حتَّى السَّاعةِ في الأداء بشهادةِ حياتِهِ وينشرُها في الكنائسِ وبين الشَّبيبةِ، وكِبارِ السِّنِّ، وكلِّ المجموعاتِ الرّسوليّةِ والإعلامِ.. فرسالتُهُ تؤثِّرُ، تغوي وتنتقل.

كانت هذه، إذًا، سيرة الكاتب فيما يتعلّق بظروف حياته في إثر خسارته بصره، وصراعه الرّوحيّ والأخلاقيّ والكيانيّ الّذي جعله يسلك طريق الصّفح والمغفرة لمن أساء إليه، والحبِّ الإِلهيّ لمن حرسَه، وقادَه، وحماه من السّقوطِ في براثنِ الضّغينة. وقد ترافقت هذه السّيرة مع بعض «القراءات السّياسيّة» و«الوقائع المادّيّة» الّتي حبّذا لو أنّ الكاتب دقّق في بعضها، ولاسيّما ما له صلة بالوضع الّذي كان قائمًا في قريته «بريح»، وقد شبَّهها بـ «جنّة عدن» (ص.30)، واصفًا ناسها بالأحرار في كلّ خياراتهم ولاسيّما الدّينيّة منها (ص.34)، ومعتبرًا أنّ العلاقاتِ بين الدُّروز والمسيحيّين جيّدة جدًّا، فهم يتقاسمون كلَّ أشكالِ الحياة من دون أن يعكِّرَ صفوها شائبة. ولكنّ التحوّل يحدث في السّرد عندما يتطرّق الكاتبُ فجأةً إلى مسألة استشهاد كمال جنبلاط، وما تلاه من ردَّات فعل ومواقف شجب وإدانة عامّة. فيختار أن يصف ما جرى في البلدات المحيطة ببلدته، لجهة سقوط الكثير مِنَ الأبرياء الّذين قتلوا بأبشع الطرق والوسائل..مستعيدًا بالذّاكرة حادثة الدّخول إلى كنيسة مار چرجس في «بريح» وقت القدّاس، عازيًا سبب هذه الحادثة إلى أنّ «قلوب المناصرين الدّروز الاشتراكيّين لم تهدأ»، بعد الاغتيال.

إنّ ملاحظاتي على هذه الواقعة المؤلمة في تاريخ حروبنا البغيضة أنّ الكاتب لم يأت من قريبٍ أو بعيد على محاوﻻتٍ بذلها أُناس كانوا يقدِّرون صيغة العيش المشترك في البلدة من الجانبين، وهم كثر وأنا من بينهم، وقد نجحوا في تخليصها مرارًا من تصادمات بين أهلها ومواجهات كان من الممكن أن تقضي نهائيًّا على تلك العلاقة الودّيّة بينهم. أمّا بخصوص الإشارة إلى أنّ تلك الحادثة المؤسفة أتت على خلفيّة تغييب الزّعيم كمال جنبلاط فهذا ليس واقعيًّا ودقيقًا، قد يكون أنّ الكاتب خلط بين أمرين (وللأمانة التّاريخيّة لا بدّ من بعض التّصويب، وأنا أبن بلدة بريح، وشاهد على ما حدث حينها): إنّ حادثة الكنيسة جاءت بعد مرور أربعين يومًا على استشهاد الدّكتور جورج شلهوب من بلدة بريح (وكان من النّخب اللّبنانيّة والعربيّة العاملة في الجزائر ضمن مجموعات عدم الانحياز) وقد اغتيل على يد أحد  الحواجز السّوريّة، في مدينة عاليه. وحينها أدان دروز البلدة الاغتيال، وشاركوا في تشييعه، فحملوه فوق أكتافهم من مدخل البلدة حتّى ساحة منزله، ولكنّ إصرار بعضهم على وجود أكاليل وشعارات لمنظّمات سياسيّة دخيلة على البلدة، دفع بالمشايخ الدّروز إلى الانسحاب.

واستدراكًا لعدم تعميق الخلافات، جرت مفاوضات لتهدئة الأجواء والسّعي إلى مشاركة الدّروز في أربعين «الشّهيد شلهوب»، ولكنَّ تلك المشاركة لم تلق التّرحيب، وقوبلت بالرّفض القاطع.. وحلَّ اليوم المشؤوم يوم الأربعين الّذي أراده بعضُهم مشحونًا بالتَّوتّر الشَّديد، فكان حادث دخول الكنيسة المُدان، ومقتل اثني عشر شخصًا وليس «العشرات» ص.(58)، كما ذُكر في الكتاب. لقد سقطت الضّحايا في تلك الحروب من الجانبين، مسيحيّين وموحّدين دروز، ولم تتمّ الإشارة إلى ذلك أيضًا.

قصدتُ من هذه المصارحة، وذكر بعض الحقائق وظروفها، أن أجعل الحقائق ساطعة، فسطوعها يحثُّنا على تنقية الذّاكرة، ومن ثمّ المسامحة والمغفرة واستكمال طريق المحبّة الّتي اعتمدها الكاتب، فحوّلت حياته ووجدانه، وهو أمر يُبنى عليه للمستقبل بهدف بناء عيش آمن ورغيد.

كتاب غفرْت للكاتب فؤاد حسّون يستحقّ القراءة، والغوص في تفاصيله، وتحليل أحداثه، وأخذ العِبر منه.. كيف لا، وقد طرح منحًى تغييريًّا  قلّما يحدث في حياة الأفراد الّذين عزموا على المسامحة والمضيّ بمحبّة إلى الأمام.

الأستاذ خالد العلي: حائز شهادة الماجستير في علم الاجتماع السّياسيّ – معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللّبنانيّة. مستشار سابق لوزير الثّقافة والإعلام، وكاتب في صحيفتَي السّفير والمستقبل.

[email protected]

ملامح وطن

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الخوري ميلاد عبّود

ملامح وطن

ط.1، 220 ص.بيروت: دار المشرق، 2023
ISBN: 978-2-7214-5650-2

كلّ مبتدَأ الرّوايات اليوم يأتي من خارج حدود الوطن ليكون خبره في الدّاخل. فالمكان الأوّل في الكتاب هو «مقعد خشبيّ جلس عليه «راجي» في حديقةٍ بمدينة مونستر الإلمانيّة» (ص. 9). يصير المكان في الغربة محطّة انتظار للعودة إلى الوطن، بعد أربع عشرة سنة (ص. 9). يبدو مسقط رأس راجي في الشّمال مجهولًا إذ لم يسمّه الكاتب، بل ركّز على أنّ البطل «استوطن» بيروت (ص. 10). كأنّ بيروت تختصر للنّازل فيها الجهويّات والمسافات، فهي مدينة «انفتحت على الثّقافة الغربيّة، وبقيت حاملة راية العروبة واللّغة العربيّة، بيروت الّتي استقبلت كلّ من تشرّد من بلده لأسباب متعدّدة» (ص. 1). هي المدينة الّتي أطلقت شرارة حراك 17 تشرين، برؤيتها المجدّدة، ولكن أيضًا ببعض ممارساتها الميدانيّة المسيئة «والشّعارات والألفاظ المنافية للأخلاق». (ص. 14).

أقلقت البطل» راجي»، العائد بعد غربة، تداعيات تفجير مرفأ بيروت، وهالته أزمة اللّجوء السّوريّ، والتّهافت على فرز النّفايات في المستوعبات بحثًا عن طعام أو جمعًا لموادّ للبيع. (ص. 18). ما كان «راجي» يعرف من بيروت إلّا ترفها وحضورها الهندسيّ المتمايز، إلّا أنّ تفجير المرفأ جعله يشهد هشاشة البيوت القديمة وتساقط الأبنية التّراثيّة ، إضافة إلى أنّ سيره في الأزقّة لممارسة المشي قاده إلى الإدراك «بأنّ الفقر والإهمال ضيفان قديمان على بيروت العاصمة (…) وغياب مقوّمات السّكن الصّحيّة في الكثير من أحيائها». (ص. 35).

هذه المعاينة اليوميّة الميدانيّة دعته إلى التزامه الدّفاع عن قضايا التّراث والأصالة، فانصرف إلى العمل مسؤولًا في جامعة الحكمة الّتي تأسّست في العام 1875 (ص. 38)، فتسنّى له اكتشاف الازدواجيّة الّتي يعيشها شباب الوطن، إذ «رأى طلابًا يدّعون الإيمان، لكنّهم يكفّرون الآخرين أو يبتعدون عنهم ويتجنّبونهم ولا يقدّمون لهم الضّيافة» (ص. 45)، فبحث في مفهوم قبول الآخرين المختلفين شركاء في الحياة الجامعيّة والاجتماعيّة، وطبعًا الوطنيّة لتأسيس عيش مشترك روحيّ واجتماعيّ وسياسيّ.(ص.46)، ولأنّ هويّة «هذا الكتاب دعوة إلى متابعة المحادثة»(ص. 5) «كان «راجي» يلتقي الطّالب «داني» في مكتبه بالجامعة، وهو طالب مثقّف». (ص. 47) هنا بيت القصيد إذ يبدأ الكتاب بنشر حوار بين الاثنين في فترات متلاحقة يعرض فيه الكاتب آراءه ولو بأسلوب ذاتيّ وغيريّ، كأنّه يطرح نفسه أمام نفسه، بين دواخله الحقيقيّة وبين المؤثّرات الاجتماعيّة الّتي تطغى في كثير من الأحايين على أصالة الإيمان الأوّل، والبراءة الأولى، في تقبّل الآخر وتفهّم الاختلاف في الفكر الطّائفيّ، في الحضور المسيحيّ الكنسيّ، العيش المشترك، استراتيجيّة رفض الآخر، الانخراط في مشروع  العروبة الوطنيّة، الرّجاء في مفاصل الحياة. يحمّل «راجي» حديثه مع «داني» استنارات المفكّرين أمام بحث الضّائعين عن الهويّات القاتلة، فهو يعيد التّوازن إلى العقل في زمن الانفعال فيقول: «إنّ المسيحيّين لا يعبدون وطنًا لأنّ كلّ أرض غريبة، بحسب كلام مسيحيّ قديم، هي وطن لهم، وكلّ وطن هو أرض غريبة عندهم، المسيحيّون يحجّون إلى الملكوت السّماويّ». (ص. 76).

من هنا ينطلق راجي ليؤكّد لـ «داني» أنّ هويّة لبنان الأساسيّة هي «الهويّة المنفتحة الّتي تُغني، أمّا الهويّة المنغلقة فتؤدّي إلى التّعصّب والموت» (ص. 75). كما شرح مفهوم الوحدة في التّنوّع «فالتّنوّع السّياسيّ (…) هو صحيّ وديمقراطيّ شرط ألّا يؤدّي إلى التّشرذم، التّنوّع هو دائمًا غنى وعلامة من علامات العمل السّياسيّ الدّيمقراطيّ (ويصبح هذا التّنوّع كارثيًّا عندما يتحوّل إلى صراع وشيطنة الآخر». (ص. 97) طبعًا عرضُ «راجي» و«داني» كثيرًا من الأحاديث وسردُها يحتاجان «إلى حبر كثير وورق وفير»، لكنّ الكاتب اكتفى بأهمّها وأعمقها، تاركًا للقارىء أن يفكّر فيها. (ص. 98).

وينتقل المؤلّف إلى محطّة أخرى حيث يلتقي «راجي» في جامعة الحكمة بـ «طارق». «إنّه قاضٍ ذو ثقافة وافرة (…) المسلم العارف جيّدا هويّته الإسلاميّة، والفخور والمتمسّك بها من جهة، والمنفتح على الهويّات وعلى الثّقافات والأديان من جهة أخرى» (ص. 99)، والّذي اكتشف في شخص راجي «إنسانًا مصغيّا منفتحًا على العالم العربيّ وعلى الإسلام والمسلمين من باب الاحترام والإنسانيّة والوطنيّة والتّاريخ المشترك». (ص. 100) تناولت أحاديثهما مفهوم العدل والحوار والتّعدديّة والأمانة والمسؤوليّة الشّاملة والعيش المشترك والمواطنة والحرّيّة الدّينيّة، بحثًا عن جواب عن سؤال: «كيف تقوم شراكة كاملة في مجتمعات تتلوّن بالأحاديّة، وتفقد شيئًا فشيئًا بريق وجمال التّنوّع الدّينيّ واللّغويّ والثّقافيّ؟» (ص. 135) من هنا خرج المتحاوران بأنّ «الميثاق هو العيش معًا شهادة ﷲ وخدمة الإنسان، أيّ إنسان. الميثاق والعيش المشترك ليسا أوّلًا دفاعًا عن حقوق الطّوائف، بل عن حقوق المواطنين، وخصوصًا المحرومين والفقراء والمهمّشين». (ص. 142).

ينتقل الكاتب إلى مرحلة متقدّمة، إلى الطّالبة «ديما» الّتي تسعى إلى تأسيس نادٍ طلّابيّ جامعيّ يحمل اسم «علمانيّون وعلمانيّات». (ص. 144) التقاها مرارًا مع زميلها «خليل» النّاشط، حيث أشار لهما إلى «أنّ العلمانيّة لا تستطيع أن تكتفي بذاتها ولا تملك الأجوبة على كلّ شيء» (ص. 166)، ردًّا على ما قاله أحد المحاضرين في ندوة للنّادي المذكور، متسائلًا «هل تستطيع العلمانيّة أن تتجاهل البعد الماورائيّ للإنسان؟ هل تستطيع أن تقفز فوق أسئلته الوجوديّة عن الألم والموت والحياة؟ هل تستطيع أن تكون العلمانيّة مشروعًا كاملًا ومتكاملًا على المستوى الفلسفيّ والأخلاقيّ والسّياسيّ؟» (ص. 167)، لذا دعا «راجي» الطّالبَين ومن معهما إلى «أن لا تنغلقوا على الحوار، لبنان والشّرق بحاجة إلى بناء مجتمع مدنيّ يضمّ الجميع، ويرحّب بالجميع. فالتّعدّدية غنًى، والعلمانيّة الإيجابيّة تودّي دورًا بنّاءً في قيام دولة المواطنة والمساواة». (ص. 187). قبيل انتهاء مضمون الكتاب يعود «راجي» إلى الأصول، حيث يستقبل صديقه القديم الّذي عالج في أطروحته موضوع «الرّحمة في الإسلام والمسيحيّة» ليخلص إلى التّذكير بالأصول: «علينا أن نرحم بعضنا بعضًا كما رحم يوسف إخوته، وغفر لهم، ورمّم بالتّالي ميثاق الأخوّة الّذي يساوي بين الجميع، وبالتّالي لا يعترف بسلطة القويّ على الضّعيف، بل يعترف بسلطة المحبّة. الرّحمة قادرة على تغيير القلوب وتوحيدها». (ص. 204).

في الفصل الأخير من الكتاب يسرد المؤلّف في ذاتيّته، متوقّفًا عند مدينته بيروت، متوغّلًا في ماضيها، في واقعها الحاليّ، مستذكرًا ما كانت عليه، شاهدًا لضرورة عودتها إلى حالتها الحضاريّة المعطاءة، بنسيجها الفريد، بشعبها الرّاغب بالحياة، «والسّؤال الّذي كان يطرحه «راجي» دائمًا: «هل ينسى اللّبنانيّون المنتشرون بيروت ولبنان؟ كيف يبقى لبنان وبيروت حيّين في قلوبهم؟ وأيّ صورة عن الوطن ستتلقّاها الأجيال القادمة؟ أهي صورة لبنان الرّسالة أم لبنان ملوك الطّوائف؟ لبنان المشرذم أم لبنان الواحد المتنوّع؟ لبنان الشّفافيّة والمحاسبة أم لبنان الفساد؟

من هذا الكتاب المنبر الثّقافيّ الحواريّ يترك الخوري الدّكتور ميلاد عبّود للقارىء تحديد الإجابات فيما يرسم «ملامح وطن».

الدّكتور جان عبدالله توما: حائز دكتوراة في اللّغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللّبنانيّة. أستاذ محاضر في جامعات: القدّيس يوسف، واللّبنانيّة، وسيدة اللويزة، ويشغل منصب رئيس قسم اللّغة العربيّة في جامعة الجنان. له أكثر من سبعة عشر إصدارًا يتراوح بين كتب أدبيّة، وشعريّة، ورواية، ودراسات تربويّة، وتحقيق مخطوطات.

[email protected]

يوحنّا الذّهبيّ الفم: مفسِّر الكتاب المقدَّس

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الأب جاكي مارسو

يوحنّا الذّهبيّ الفم: مفسِّر الكتاب المقدَّس

ترجمة الأبوَين سامي حلّاق اليسوعيّ وإيلي طوبجي

128 ص.، ط.1، بيروت : دار المشرق، 2023
ISBN : 978-2-7214-5647-2

يوحنّا كريزوستوموس Jean Chrysostome (349-407) هو أحد آباء الكنيسة الإغريقيّين. لُقّب بالذّهبيّ الفم (كريزوستوما باليونانيّة) «لجمال كلماته وبلاغة عظاته، وعمق تفكيره. للوهلة الأولى، يبدو أنّه يُلقي عظاتٍ أخلاقيّة»، ولكنّ القارئ يكتشف فيها «عملًا تفسيريًّا للنّصوص المقدّسة».

هذا الكتاب، الّذي ألّفه الخوري جاكي مارسو Jacky Marsaux ومجموعة من المؤلّفين، يُستهّلّ بتمهيد للمؤرّخ الفرنسيّ وأستاذ العهد الجديد في جامعة لوفين Louvain الكاثوليكيّة ريجيس بورنيهRégis Burnet يكتب فيه أنّنا نتعرّف في هذا الكتاب «إلى تفسير يوحنّا الذهبيّ الفم في جميع أبعاده. فبعد وضعه في إطار مدرسة أنطاكية التّفسيريّة، يذكر الكتاب جوانبه الجدليّة، والأخلاقيّة، والجماليّة، وفي آخر الأمر جوانبه التّأويليّة.» يُستهَلّ الكتاب بتقديم ثلاثة مفاتيح لقراءة الكتاب المقدَّس :

أوّلًا: قراءة لا تنفصل عن الـ «كريستولوجيا» Christologie وهو علم المسيح…

ثانيًا: إسكاتولوجيا واقعيّة تقدّم الحياة المسيحيّة على أنّها استباق للعيش في السّماء…

ثالثًا: تفسير الكتاب المقدّس في ثلاث مراحل هي :

إرجاع الكلمة الإلهيّة من النّصّ إلى حرفيّتها وتاريخها، وتبيان الوحدة بين العهدَين القديم والجديد.

التّفسير بحسب الجمهور والهدف. وفيه يردّ على التّعاليم المنحرفة.

التّطبيق على واقع جماعة، أو مدينة.

97 عظة على لسان الذّهبيّ الفم ترد في الكتاب وتبيّن ملامح المفسّر والمجادل و«يتمّ تحليلها لتبيان أسلوبه في التّفسير، ومهارته في الوعظ، وبراعته في الخطابة. «وهذه العظات تشهد على طريقة آباء الكنيسة في قراءة الكتاب المقدّس.»

يتضمّن الكتاب ستّة أقسام، تُستهَلّ  بالتّعرّف على يوحنّا الذّهبيّ الفم ماسك مفاتيح قراءة الكتاب المقدّس على أنّه «امتداد للتّجسّد وكتفسير يتكيّف مع المستمعين». القسمان الثّاني والثّالث يتناولان يوحنّا الذّهبيّ الفم كمفسّر ومجادِل. ولا يأتي الوعظ الأخلاقيّ في الفصل الرّابع إلّا في خدمة التّفسير والإرشاد وإعادة النّظر في القراءة الحرفيّة والقراءة الرّوحيّة للكتاب المقدّس.

وفي القسم الخامس تحت عنوان «البُعد الجماليّ» يرد اقتباس لكاترين بروك - شميزرCatherine BROC-SCHMEZER، يدعونا فيه يوحنّا الذّهبيّ الفم، كقرّاء، «إلى تأمّل المشاهد الكتابيّة الّتي يشرحها. هذا الموقف لا يعود إلى حسّ جماليّ مرهف وحسب، بل له أيضًا طبيعة روحيّة، ما يجعل الواعظ سلفًا حقيقيًّا لإغناطيوس دي لويولا.» Ignace de Loyola (ص. 46).

أمّا مبادئ التّفسير فتختتم الكتاب في قسمه السّادس الأخير من خلال «الدّعوة إلى سبر الكتب المقدّسة بسبب طبيعتها» و«تكيّف ﷲ حين يكشف عن نفسه» ومفهوم التّكيّف هذا هو «مفتاح لاهوت الذّهبيّ الفم».

الدّكتورة بيتسا استيفانو: حائزة دكتوراه في العلوم الدّينيّة، وإجازة في الأدب العربيّ من جامعة القدّيس يوسف في بيروت. أستاذة محاضرة في معهد الآداب الشّرقيّة في الجامعة، ومسؤولة عن الأبحاث في مكتبة العلوم الإنسانيَّة فيها. أستاذة محاضرة في جامعة «Domuni» – باريس. ولها العديد من المقالات المنشورة باللُّغتين العربيَّة والفرنسيَّة.

[email protected]

مسألة الشّرّ والشّرير في الدّيانات القديمة والكتب المقدّسة

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الأب سامي حلّاق اليسوعيّ

مسألة الشّرّ والشّرير  في الدّيانات القديمة والكتب المقدّسة

ط.1، 87 ص. سورية: دار الكتاب المقدّس، 2023

منذ فاتحة التّاريخ، أكبَّ الإنسانُ على البحث عن علّة وجود الشّرّ، وبخاصّةٍ ذاك الّذي لم يتولّد من قرارات بني آدم، فأضحى، منذ ذلك الحين، «معضلة البشر الكبرى» (ص. 9). في كتابه الجديد، يُطلِعنا الأب سامي حلّاق على الإجابات الّتي قدّمتها الدّيانات لمؤمنيها على مدار الزّمن عن هذه الإشكاليّة.

هو راهب يسوعيّ من مواليد حلب العام 1960، حاز إجازة في الهندسة الميكانيكيّة وماجستير في اللّاهوت. درّس اللّاهوت في جامعة القدّيس يوسف اليسوعيّة وفي مراكز أخرى، كما وعظ الرّياضات الرّوحيّة وأدار مشاريع الهيئة اليسوعيّة لخدمة اللّاجئين في مدينة حلب. صدرت له مؤلّفات وترجمات لاهوتيّة وروحيّة يربو عددها على الأربعين، ومنها عن دار المشرق: قدّيسون وشهداء يسوعيّون (2004)، مجتمع يسوع (2009)، أوراق البيئيّة (2011)، سبع هِبات من الرّوح القدس (2011)، الثّائر الأعزل أوسكار روميرو (2011)، لاهوت النّساء (2016)، لاهوت التّحرير الأورثوذكسيّ (2017).

يستهلّ الأب حلّاق جولته مع ديانات ما بين النّهرَين الّتي حثّت أبناءها على استرضاء آلهة الأوبئة والفيضانات بتقديم الذّبائح والصّلوات، قبل أنْ يحتجّ زرادشت على التّقليد مؤكّدًا أنّ العالم حلبة صراع مرير بين آلهة خيرٍ لا ترتكب الرّذيلة وآلهة الشّرّ.

تأثّر العهد القديم بالتّعاليم الزّرادشتيّة في فترة السّبي، فبعد أنْ علّم العبرانيّون أنّ ﷲ يبتلي البشر بالأمراض والكوارث عقابًا على آثامهم (ألم يدمّر الملاك مدينة سدوم؟) وعجزوا عن تفسير «ألم الأبرار»، أخبروا عن شيطانٍ يستأذن ﷲ لامتحان صدق المؤمنين، وفي طليعتهم أيّوب البّار، ثمّ تحوّل تدريجيًّا إلى كائنٍ مستقلّ. وفي القرن الثّالث قبل الميلاد، تشرّب اليهود الأفكار اليونانيّة الّتي أحضرها الإسكندر المكدونيّ وتبنّوا مصطلحاتها الفلسفيّة في ترجمة النّصوص ومنها كلمة «ديابولوس»، ومعناها «الّذي يرمي الشّقاق» (الّتي تحوّلت إلى «إبليس» في اللّغة العربيّة»).

في العهد الجديد، لم يتطرّق يسوع لأصل الشّرّير، بل حثّ على التّصدّي له، وكان هو نفسه نموذجًا للمؤمنين في مواقفه الثّابتة في رواية التّجارب الّتي هي، بحسب الأب حلّاق، اختصار للإغراءات الّتي تعرّض لها المسيح في أثناء رسالته التّبشيريّة، ومنها مثلًا السّعي إلى الشّهرة. أمّا بولس فيذكر تارةً الشّيطان وطورًا إبليس، مميّزًا بين هويّتَين، فيما الكتب الأخرى من العهد الجديد لا تفرّق بينهما. في الأحوال جميعها، إذا كان الشّرير هو مصدر الشّرّ، فالإنسان يبقى سببه في حال رضيَ بحيل المجرّب (ص. 55). يختتم المؤلّف جولته مع قصّة سقطة الشّيطان وعصيانه لأمر ﷲ في الإسلام.

في الفصل الأخير، ينكفّ المؤلّف عن دور المؤرِّخ الموضوعيّ، ليَشرق مكانه وجهُ المرشد الرّوحيّ الّذي يدعو المؤمنين إلى «معرفة العدوّ» المفتري الّذي يستخدم أسلحة كثيرة كالتّضليل. فالإنسان وحده يملك الحريّة لمقاومة الرّوح الشّرّيرة ولعدم الامتثال لغرائزه، مستندًا في كفاحه إلى المسيح الّذي هزم العدوّ بقيامته.

هذا الفصل الرّوحيّ، كشف عنه المؤلِّف في الصّفحات الأولى موضّحًا: «كي لا يستنتج القارئ في هذا الكتاب نوايا ليست لدينا» (ص. 11). هذه الحيطة لربّما – وقد أكون مخطئًا – سببها أنّ الاعتقاد بوجود الشّيطان أو عدمه أضحى، في رأي غالبيّة مسيحيّي المشرق، مقياسًا فاصلًا بين فئة أمينةٍ لوديعة الإيمان وفئةٍ أعرضت عن التّعاليم التّقليديّة. وللأسف، في الوقت الرّاهن، أصبح «الإيمان» بوجود الشّرّير المعيار الأوّل للبتّ في استقامة التّعليم المسيحيّ أو الخروج عنه، وهذا ما نلتمسه في السّجالات على مواقع التّواصل الاجتماعيّ مع ما يرافقها من حملات تشهيرٍ وترهيب وتضليل.

تكمن أهميّة هذا الكتاب في أنّه يضع في متناول الأفرقاء المعطيات التّاريخيّة واللّاهوتيّة من أجل مقاربة الموضوع بعيدًا من المواقف العدوانيّة أو الغرائزيّة. وفي رأيي، لا بدّ من أنْ يتبنّى الجميع مسبقًا مبدأَين راسخَين من تعاليم الكنيسة ارتكز عليهما المؤلِّف: أوّلًا، القبول بنموّ الإلهام في الكتاب المقدّس، أي أنّ أسفاره «تصحّح ذاتها باستمرار وتعيد النّظر بمواقف سابقة» (جان لوي سكا)؛ وثانيًا، القبول بأنّ الكُتَّاب المُلهَمين تأثّروا بحضارات الشّعوب المحيطة بهم فغرفوا من تراثها تعاليم تبنّوها بعد أن رفعوا عنها ما يتعارض والوحي الإلهيّ. والحال أنّ القسم الأكبر من مسيحيّي الشّرق لا يزال يتمسّك في تنزيل نصوص الكتاب المقدّس، وبالتّالي في قراءةٍ حرفانيّةٍ لها.

 

االأب غي سركيس : حائز درجة الدّكتوراه في اللّاهوت من الجامعة اليسوعيّة الغريغوريّة الحبريّة (روما). أستاذ محاضر في جامعتَي القدّيس يوسف، والحكمة. وهو كاهن في أبرشيّة بيروت المارونيّة. له مجموعة من المؤلّفات الدّينيّة والتّأمّليّة والفكريّة في اللّاهوت المسيحيّ، وحوار الأديان والحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبعضها من إصدار دار المشرق (نوبل للسّلام… لمن؟، أؤمن… وأعترف، قراءة معاصرة في الإيمان المسيحيّ، وإيمان في حالة بحث، النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة…).

[email protected]

“الخلاف الكبير حول تاريخ العيد الكبير”

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

مجلّة الوحدة في الإيمان

دير البطريرك غريغوريوس الثّالث لحّام

السّنة 23، العددان 1و2، 2023

ليس من عادة المشرق أن تنشر مراجعة لمجلّاتٍ أو لمقالات. لكنّ هذين العددين من مجلّة الوحدة في الإيمان، المجموعَين في كتابٍ واحد، يضمّان مجموعة من المقالات تتناول موضوعًا شائكًا في الشّرق المسيحيّ. فكلّما اقترب عيد الفصح، تصحو أذهان المسيحيّين على واقع الانقسام في الكنيسة، ويستولي الحرج على مشاعرهم حين يسألهم غير المسيحيّين السّؤال التّقليديّ: متى عيدكَ؟ طارحُ السّؤال يريد أن يعرف التّاريخ ليقوم بالمعايدة. لكنّ متلقّي السّؤال يشعر بالخجل. المسيحيّون منقسمون، وعلامة الانقسام هي وجود تأريخَين لعيد الفصح، أو العيد الكبير، الواحد اتُّفِقَ على تسميته التّاريخ الشّرقيّ (اليوليانيّ)، والآخر التّاريخ الغربيّ (الغريغوريّ).

ومن هذا الحرج ترتفع صرخات تطالب «بتوحيد العيد»، وترفع أخرى سقف المطالب إلى مستوى توحيد الكنائس في كنيسة واحدة. وبعد انتهاء موسم الأعياد، تصمت الأصوات، وتعود الحياة إلى مسارها المعتاد، وتزيح ديستوبيا الواقع إيتوبيا الأحلام.

ما قصّة هذَين التأريخَين؟ متى ظهرا؟ وهل كانت هناك محاولات لتوحيدهما؟ إنّ دراسة تاريخ مسألةٍ ما  يحوي جزءًا من حلّها، أو أقلّه، يوجّه نحو حلٍّ ممكن. وهذا ما يُرجى أن نجده في هذين العددين من مجلّة الوحدة في الإيمان.

أمّا المحتوى فهو بالتّسلسل الآتي:

المقدّمة، بقلم غبطة البطريرك غريغوريوس الثّالث لحّام، بطريرك الرّوم الملكيّين الكاثوليك سابقًا، معنونة بصرخة النّاس: «وحْدولنا العيد». ويليها مقال لغبطة البطريرك نفسه يقدّم فيه لمقالات العددين، ويسرد شيئًا من واقع هذه المسألة اليوم بلغةٍ رعائيّة، ثمّ إحصاء للكنائس الكاثوليكيّة الّتي تعيّد بحسب التّقويم اليوليانيّ (في المجلّة يوليّ)، ورؤوس أقلام عن مراحل تاريخ التّعييد.

مقال المطران بطرس المعلّم «مشكلة الأعياد» يشرح كيف يتمّ تأريخ الفصح لكلّ سنة، ويعرض شيئًا من التّاريخ حتّى مجمع نيقية 325، لينتقل بعدها إلى القرن العشرين، فيذكر بعض نصوص المجمع في هذا الموضوع، وينهي باستنتاجات ختاميّة.

مستلّ من كتاب الأبوين ميشال أبرص وأنطوان عرب المجمع المسكونيّ الأوّل، نيقيا الأوّل (325)، يتناول نقاشات المجمع في هذه المسألة. لم تكن القضيّة حينها بين التّاريخ اليوليانيّ والغريغوريّ، بل بين التّاريخ اليهوديّ واليوليانيّ.

مقال عمّانوئيل لان «الاختلافات في المجالات الطّقسيّة والنّظاميّة» يكمل بإيجاز المعلومات عن الفترة التّاريخيّة السّابقة، ويذكر مراسلات الشّرقيّين مع البابا فيكتور في مسألة توحيد العيد.

يلي ذلك ملفّ عن «الاحتفال بالفصح في طقوس الكنائس المسيحيّة» (الصّفحات من 58 إلى 103)، وملفّ آخر يحوي مقالات تعبّر عن موقف كنيسة الرّوم الأرثوذكس من تأريخ العيد، وينتهي ببعض تصريحات البطاركة البيزنطيّين في هذا الشّأن. موقف كنيسة الرّوم الملكيّين هو الملفّ الّذي يتبعه، ثمّ يجد القارئ ملفًّا بعنوان: «موقف الكنائس الأخرى» ويضمّ مقالين، واحدًا للأنبا بيشوي (الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة)، والآخر نداء لمار نيقوديموس متّى داوُد شرف (الكنيسة السّريانيّة الأرثوذكسيّة).

في ملفّ «المواقف بعد الفاتيكانيّ الثّاني» نجد بعض النّصوص من المجمع، وبعض التّصريحات أو المواقف الّتي، برأينا، لا ترتقي إلى مستوى الجدّيّة الأكاديميّة في معالجة مسألة توحيد العيد.

وفي الختام، ملفّ يضمّ مقالات روحيّة ليترجيّة (بيزنطيّة فقط) عن الفصح بعنوان: «فيض النّور وعيد الفصح». اللّافت للنّظر هو سرد قصّة النّور المقدّس، النّور المعجزيّ الّذي يبدو أنّه يظهر فجأةً فيشعل الشّموع الّتي يحملها البطريرك البيزنطيّ الأرثوذكسيّ بعد أن يدخل قبر المسيح. لافت للنّظر إذ – برأينا - الإشكالات الّتي يطرحها «النّور السّماويّ» الّذي يختار التّقويم الأرثوذكسيّ، ويظهر لطائفة من دون سواها، ليبرهن مادّيًّا على صحّة القيامة والإيمان، هي أكثر بكثير من الفوائد الّتي يُخالُ أنّنا نستطيع أن نجنيها من هذا الحدث السّنويّ.

لافت للانتباه أيضًا صمت عجيب في مقالات هذه المجلّة عن فترة تمتدّ من القرن الرّابع إلى القرن العشرين. صمت عن تحوّل كنيسة الأرمن الأرثوذكس من التّقويم اليوليانيّ إلى الغريغوريّ، وفرة في المقالات تتناول المسألة بين الكاثوليك من جهة والرّوم الأرثوذكس من جهةٍ أخرى، وشحّ في ذكر جهود محاولات توحيد العيد بين الكنيسة الكاثوليكيّة والكنائس الشّرقيّة الأرثوذكسيّة الأخرى، وميل واضح إلى الرّغبة بأن تنضمّ الكنائس الكاثوليكيّة الشّرقيّة إلى التّقويم اليوليانيّ وتترك التّقويم الغريغوريّ المعتمَد عالميًّا في حياتنا اليوميّة، وبالتّالي، إبقاء «الخلاف الكبير حول تاريخ العيد الكبير»، والاكتفاء بنقله من خلافٍ داخل البلد الواحد إلى خلافٍ بين البلدان.

الأب سامي حلّاق اليسوعيّ : راهب يسوعيّ، وأستاذ في جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له مؤلّفات وترجمات عدّة منشورة، بالإضافة إلى مقالاتٍ بحثيّة في مجلّة المشرق.

[email protected]

Share This