سامر يونس
استقلالُ النِّيابة العامَّة وحِيادُها
مقاربةٌ دستوريَّةٌ وقانونيَّة – دراسة مقارَنة
ط.١، ٦٠٨ ص. بيروت: دار المشرق. ٢٠٢٥.
ISBN: 978-2-7214-8194-8
على يمين القوس…
يقف على يمين قوس المحكمة، قاضٍ، يمثِّل النِّيابة العامَّة، أو قُل يمثِّل مجتمعًا بكامله، بوكالةٍ ما، شعبيَّة. هكذا يفرض الادِّعاء العامُّ هيبته، بل موقعه، في مضبطة الجرائم، فتراه قاسي الملامح، يضرب بحسام القانون، يترافع مفنِّدًا ويعلن استقلاله، حتَّى، وخصوصًا عن المحكمة الَّتي على يساره! وبين يمينٍ ويسار، يُخيَّل إليك أنَّه طرف، لكنَّه في الواقع شديد التَّمسُّك بحياده، أو هكذا يراه، متمرِّدًا في الحقِّ، القاضي سامر يونس في كتابه عن دار المشرق استقلالُ النِّيابة العامَّة وحيادُها. مقاربةٌ دستوريَّة وقانونيَّة – دراسة مقارنة.
هذا الكتاب عنوانُ أطروحةِ دكتوراه في الحقوق، نالها القاضي سامر يونس في العام 2022 بدرجة جيِّد جدًّا من المعهد العالي للدُّكتوراه في الحقوق والعلوم الاقتصاديَّة والإداريَّة في الجامعة اللُّبنانيَّة، مع تنويه اللَّجنة الفاحصة والتَّوصية بنشرها. وها هو دار المشرق يتلقَّف وينشر ويعمِّم الفائدة على مساحة القضاء والمحاماة والأكاديميَّة والبحث العلميِّ. ربَّما لأنَّ المضمون يتخطَّى مجرَّد الكتاب والأطروحة، وربَّما لأنَّ الكتاب هو، فعلًا، عصارة ممارسةٍ وفكرٍ وما بينهما من شخصيَّة المؤلِّف.
من يعرف سامر يونس (أو يعرف عنه) يُدرك تمامًا أنَّ القلمَ، الَّذي خطَّ تأليفًا، يستمدُّ حبرَهُ من شرايينِ حامِلِهِ، وهي الَّتي حَمَلَتهُ إلى القضاءِ رسالةً، لا مجرَّد مهنة. قد أخدُشُ حياءَ أخلاقِه، لا من بابِ مجاملةٍ، لا هو ولا أنا نرتضيها، ولكن لاستحالةٍ عندي أن أفصلَ بين الكاتبِ والكتاب! كلاهُما واحد: في رصانةِ التَّأليف وفي بلاغةِ اللُّغة، في جوهرِ المضمون العميق وفي عمقِ البحثِ الجوهريِّ… كتابٌ في استقلال النِّيابة العامَّة وحيادها؟ كأنِّي بالكاتب، وصفًا!، مستقلٌّ إلى درجة إزعاجِ بعضِ من يهمِسُ في التَّعييناتِ والمناقلاتِ رأيًا، محايدٌ حيث الحياد واجب، إلَّا في الحقِّ، حيث يدفعُهُ عقلُهُ قبلَ قلبِه ليُدافعَ، شَرِسًا، عمَّن نالَهُ ظلمٌ من بني البشر، عندما هؤلاء يَنحدِرون إلى ما دونَ العدلِ، وهو، عنده، خطٌّ أحمر.
ولأنَّ القاضي يونس خدم في القضاء، (نعم، «خدم»)، محاميًا عامًّا في بيروت (كما في قضاء الحكم)، ولأنَّه خَبِرَ الظَّاهر والخفي وواجه بالحقِّ والقانون حالات متنوِّعة من المراجعات، ولأنَّه خرج منها كما دخلها، نقيًّا، مرتاح الضَّمير، فقد خرج أيضًا، وخصوصًا، بخلاصاتٍ ودروس مكَّنته من الجمع بين النَّظريَّة والتَّطبيق. لافتٌ جدًّا قوله، في تمهيد كتابه، إنَّه لم يعرف سوى أن يختار استقلال النِّيابة العامَّة وحيادها عنوانًا لأطروحته، وهو الَّذي شعر أنَّه ينتقل، «داخل القضاء نفسه، من جسمٍ إلى آخر، من روحٍ إلى أخرى، من طبعٍ إلى تطبُّع لم أستطع معه تأقلمًا أو تكيُّفًا»… لقد أعلن الدُّكتور يونس، منذ سطور مؤلَّفه الأولى، انتفاضةً علميَّة على الفصل القائم فعلًا بين «قاضٍ يدَّعي باسم الشَّعب والمجتمع، وآخر يحقِّق أو يحكم باسم هذا الشَّعب أو باسم هذا المجتمع ذاته». سيَّان عنده أكان القضاء واقفًا (قضاء النِّيابة)، أم جالسًا (قضاء حكم)، من حيث الاستقلال والحياد. مقاربةٌ غير تقليديَّة في مضمارٍ طَبَعَهُ التَّقليد، تعبِّر فعلًا عن جرأةِ مَن تولَّاها وحرِّيَّة فكره وصلابة دفاعه عن رؤيةٍ لا تنتمي إلى الموروث في أدبيَّاتنا بشأن النِّيابة العامَّة، يدفعه في ذلك حرصٌ واضح لتحصين القضاء الَّذي ينتسب إليه.
يأخذ القاضي المؤلِّف على واقع النِّيابة العامَّة خضوعها «التَّاريخيّ» لسلطة تسلسليَّة صارمة تقوم على حقِّ الإمرة وإصدار التَّعليمات، ما يهدِّد بتحويل قاضي النِّيابة العامَّة إلى مأمور، ويضرب استقلاله وحياده الواجبَين، وهو الَّذي يُفترض أن يكون محصَّنًا ومحميًّا من أيِّ خضوع أو تبعيَّة، حتَّى ولو تأتَّيا من سلطة تسلسليَّة وموجب «الطَّاعة». هل نسي أحدنا، في تاريخ لبنان الحديث، (ولا تعميم)، كم دخلت السِّياسة على القانون؟ بل على القضاء؟ هل يؤخذ على سامر يونس أن يكون، في بحثٍ علميٍّ رصين، قد ظهَّر، منتفضًا عليه، واقعًا فعليًّا غاب فيه الاستقلال أحيانًا، وحُرم فيه متقاضٍ من حقِّه في حياد النِّيابة العامَّة؟ وهذه الأخيرة هي محامي المجتمع والضَّامنة من أيِّ تعسُّف، أو هكذا يجب أن تكون؟
لقد خاض يونس غمار بحثه متنقِّلًا بين الأنظمة القضائيَّة عبر الحدود، داعمًا رأيه الإصلاحيَّ بأمثلةٍ عبر العالم، متوقِّفًا عند اجتهاد المحكمة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان، الَّتي أدانت افتقار النِّيابة العامَّة الفرنسيَّة لضمانتَي الاستقلال والحياد بسببِ خضوعِها إلى سلطةٍ تسلسليَّة ناجمة عن حقِّ إصدارِ «التَّعليمات الفرديَّة»، الَّتي غالبًا ما تكون شفهيَّة أو هاتفيَّة. وعلى نحوٍ مرتبط، لا يغيب الجانب الدُّستوريُّ عن الكتاب، حيث يذكِّر المؤلِّف أنَّ لبنان قد التزم في مقدِّمة دستوره، (الفقرة باء)، مواثيق الأمم المتَّحدة والإعلان العالميَّ لحقوق الإنسان، داعيًا إلى مواءمة القوانين الوضعيَّة الوطنيَّة والمواثيق الدَّوليَّة، مذكِّرًا أيضًا بالتَّوصيات ذات الصِّلة الصَّادرة عن «مجلس أوروبَّا»، في العام 2000، بشأن المبادىء التَّوجيهيَّةِ لاستقلال النِّياباتِ العامَّة الأوروبيَّة»، كما وتوصيات الأمم المتَّحدة، في شأنِ «المبادئ التَّوجيهيَّةِ المُطبَّقةِ على دورِ قضاةِ النِّيابة العامَّة»، في المؤتمر الثَّامن لمكافحة الجريمة المنعقد في كوبا في العام 1990.
وفي بحثه العميق في مكامن الخلل وفي نقده العلميِّ للمنظومة القانونيَّة الَّتي ترعى النِّيابة العامَّة، لم يكتفِ بعرض الواقع وإظهار ما يعتوِره من اضطرابٍ تراكميٍّ، تشريعًا وممارسة، بل ذهب إلى اقتراح تعديلاتٍ تشريعيَّة تهدف إلى ضبط السُّلطة التَّسلسليَّة بقيود تحول دون التَّعسُّف في التَّعليمات الَّتي تصدر عنها، كأن تكون خطيَّة، لا شفهيَّة. كما يقترح منحَ قاضي النِّيابة العامَّة حقَّ رفض تلك التَّعليمات، في حال كانت تخالِف قناعته! بل أبعد من ذلك، يقترح القاضي يونس إلغاء التَّعليمات الفرديَّة برمَّتِها، لما قد يشوبها من «شبحِ التَّسييس» والإبقاء على التَّعليمات العامَّة والمجرَّدة فحسب «Les instructions générales et abstraites» الَّتي يعود، عندها، للرَّئيس التَّسلسليِّ أن يتَّخذها. يُدافع الكاتب عن اقتراحه بالاستناد إلى ما يشوب ما اصطُلح على تسميته بالقضايا الحسَّاسة وهي، في الواقع، تلك المتعلِّقة بسياسيِّين أو بشخصيَّاتٍ عامَّة أو باعتباراتٍ ماليَّة – اقتصاديَّة.
يصرُّ القاضي سامر يونس في كتابه – المرجع على النَّظر إلى قاضي النِّيابة العامَّة على أنَّه خصم شريف في الملاحقة، منزَّه عن أيِّ موقف شخصيٍّ أو تبعيَّة، موضوعيٌّ، مهنيٌّ، شفَّاف ومتجرِّد، وُجهته الحقيقة، سواء ذهبت في اتِّجاه المدَّعي الشَّخصيِّ أم في اتِّجاه المشتبه فيه أو المدَّعى عليه أو المتَّهم. وفي السِّياق، يقترح إمكان تنحِّي قاضي النِّيابة إذا ما استشعر ظرفًا يهدِّد استقلاله وحياده.
هذا الحياد وذاك الاستقلال يحملان الكاتب، بجرأته المعهودة، على الدَّعوة إلى إصلاح قانونِ أصولِ المحاكماتِ الجزائيَّة اللُّبنانيِّ وتعديله، لا سيَّما في الشِقِّ المتَّصلِ منه بصلاحيَّاتِ النَّائب العامِّ التَّمييزيِّ، وحيث «إرادةٌ «غيرُ لبنانيَّة» قد شوَّهت، ولو بأدوات لبنانيَّة، ما كان يجب أن يكون عليه القانون المذكور.
وإلى الإصلاحات التَّشريعيَّة، يدعو القاضي سامر يونس إلى مناقبيَّة قضائيَّة تتخطَّى التِّقنيَّات. إنَّ التِّقنيَّات تُكتسب، أمَّا المناقبيَّات، فيخشى عليها من اهتمام لا يوليها دورها في تحصين القضاء. ربَّما تكون أحكام مشروع تنظيم القضاء العدليِّ واستقلاليَّته، الَّذي أقرَّه مجلس الوزراء بعد طباعة الكتاب، جزءًا مساهمًا في اتِّجاه عمليَّة التَّدريب المستمرِّ، إلَّا أنَّ الكاتب يعبِّر، مرارًا، عن ضرورة إصلاح نظام النِّيابة العامَّة وأحكامها التَّشريعيَّة، على اعتبار أنَّ هذه الأخيرة تبقى، هي، ضامنة الحقوق وحارسة الحرِّيَّات وحامية المجتمع، ومن دونها تبقى دولة الحقِّ مجرَّد مأمول، بما يذكِّر بالتَّرجمة غير الموفَّقة لـ «Etat de droit» بدولة القانون، فيما الحقُّ يعلو، كمفهوم مطلق، أمَّا القانون فمن صنع بني البشر وأهوائهم ومصالحهم.
بقَلَمِه المميَّز بذاته والموروث جينيًّا من والده الأديب الدُّكتور دياب يونس، يكتب القاضي والأستاذ الجامعيُّ عن مؤلَّفه: «هذا كتابٌ يُخاطبُ أرواحًا متمرِّدة وأجنحةً لا تنكسر». جبرانيَّات تذكِّر بأنَّ مغامرة سامر يونس الكتابيَّة الغنيَّة هي تعبيرٌ عن أجمل «الأرواح المتمرِّدة» ديمقراطيًّا وعلميًّا في كنف القضاء، ترفدُ «التَّائه» في «العواصف» القضائيَّة بأجنحةٍ تنقل السُّلطة الحامية والضَّامنة إلى ما يجب أن تكون: مستقلَّة وحياديَّة، من أجل النَّاس، كلِّ النَّاس. رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وقد أحسن القاضي المؤلِّف خطواتٍ كثيرة، نيابةً عامَّةً عن أصحاب رأيٍ وعن أصحاب حقٍّ.
الدُّكتور زياد بارود : محامٍ بالاستئناف، ومحاضر في جامعة القدِّيس يوسف، ورئيس مجلس أمناء جامعة سيِّدة اللُّويزة. خدم وزيرًا للدَّاخليَّة والبلديَّات في حكومتَين متتاليتَين بين تمُّوز ٢٠٠٨ وحزيران ٢٠١١، وحازت الوزارة في أثناء ولايته المرتبة الأولى في جائزة الأمم المتَّحدة للخدمة العامَّة. بعد انتهاء خدمته الوزاريَّة، عُيِّن رئيسًا للَّجنة الخاصَّة باللَّامركزيَّة الإداريَّة الَّتي وضعت مشروع القانون الَّذي يناقشه مجلس النُّواب. له مؤلَّفات في الدُّستور واللَّامركزيَّة وقوانين الجمعيَّات والهيئة التَّعليميَّة.