اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الأب جول بطرس وميراي الشّمالي

سائحة

120 بيروت : دار المشرق، 2022
(ISBN: 978-2-7214-5624-3)

يحفل الأدب بقصص وشهادات الأشخاص الّذين تابوا إلى ربّهم وعادوا إلى الإيمان الصّحيح بعد فترة ضياع مرّوا بها نتيجة جنوحهم نحو إحدى الآفات الثّلاث الّتي تُهلك النّفس؛ وهي المال والسّلطة والجنس. بيدَ أنّ ما يجمع هؤلاء التّائبين هو الفرح بعد المعاناة، والمصالحة مع الذّات بعد العودة إلى الحقيقة والحياة الصّالحة نتيجة لاكتشاف محبّة الله لهم. وقد تولّدت عن هذه التّوبة شهادات حياة بعضها متواضع لأشخاص من عامّة النّاس، وبعضها الآخر لأناس وضعوا على الورق عصارة تجربتهم الرّوحيّة العميقة والمميّزة فأغدقوا في الحِكم والعِبر ما يثلج القلب ويثبّت الإيمان ويقوّي العزائم على التّقوى وعمل البرّ. نذكر من هؤلاء القدّيسة إديث ستاين Edith Stein أستاذة الفلسفة، وهي ألمانيّة من أصول يهوديّة. وقد تجلّى تحوّلها من اليهوديّة إلى المسيحيّة بكتابتها مؤلّفات روحيّة هامّة أصبحت منارة للباحثين عن الله وقد جمعت فيها بين العقل والإيمان. وغدت مؤلّفاتها مرجعًا للمفكّرين بعد أن وجدت، كما تقول، الحرّيّة خلف قضبان الدّير الّذي تحصّنت فيه بعد أن طهّر الله نفسها كما تُطَهِّر النّار الذّهب. وقد عاشت في حنايا العلاقة المباشرة بين النّفس وخالقها، فوضعت على الورق بعض ما فاض من هذه الهمسات والتّمتمات والحقائق والحياة الأبديّة الموعودة.

تندرج رواية الأب جول بطرس والسّيّدة ميراي الشّمالي والّتي تحمل عنوان السّائحة في منحى شهادات الحياة الّتي تسردُ قصّة العلاقة الرّوحيّة الّتي تجمع الله بالإنسان. وهي تخبرنا تحديدًا عن قصّة توبة سيّدة هام بجسدها عشّاق كثيرون. وقد التقت هذه السّائحة بعد معاناة كثيرة مع يسوع المسيح الّذي خلّص نفسها من الهلاك، وعفى عن أخطائها، وضمّها إلى صَدره من دون أيّ انتقاد أو لوم مباشر أو مبطّن. فرحت السّائحة، وراحت تمجّد يسوع وتمدح صنيعه.

إنّ موضوع القصّة كلاسيكيّ ومألوف، يذكّرنا بقصّة مريم المجدليّة الّتي يقول عنها الإنجيل إنّ يسوع أخرج منها سبعة شياطين.

تتدفّق الرّواية السّرديّة مطوّلًا أمام هذه الواقعة لأنّ مسامحة الذّنوب والخطايا هي في صلب الإيمان المسيحيّ بشكل خاصّ حيث لا قصاص بعد التّوبة في هذا العالم وفي الآخرة، فمحبّة الله في المسيحيّة لا حدود لها حتى لأكبر الخطأة شرط أن يتوب ويقلع عن ارتكاب الشّرّ.

وهنا لا بدّ في هذا السّياق من استحضار كلام البابا فرنسيس عن التّوبة والآخرة والّذي ينقذ النّاس من النّار والعذاب: «أنا لا أفكّر بالدّينونة العامّة «كجردة حساب»: انظر لقد فعلت هذا وهذا… «أنا أتخيّل أنّني عندما أقترب من ذلك الجمال في نهاية الحياة، سأقترب بخجل مطأطأ الرّأس وناظرًا إلى الأسفل. عندما أحسّ بأنّه يغمرني، عندما أرفع رأسي وأراه، لن أجرؤ على النّظر إليه من دون هذه الغمرة! لا أعلم، هكذا أظنّ أنّ الدّينونة ستكون، ربّما هذه تخيّلات، ولكنّني أعتقد أنّ الدّينونة ستكون هكذا».

لقد اختبرت السّائحة كلام الأب فرنسيس الّذي يشدّد على محبّة الله اللّامحدودة لأولاده البشر. من هنا أهمّيّة الأبويّة في المسيحيّة، وصعوبة فهمها من الكثيرين.

انطلقت السّائحة في رحلة طويلة على خطى المسيح والرّسل، وعلى رأسهم بولس الرّسول: ظاهرُ هذه الرّحلة مادّيّ، أمّا باطنها فروحيّ. وحيث تمثّل هذه الرّحلة الّتي تقوم بها السّائحة انطلاقًا من صور الفينيقيّة، الّتي زار ضواحيها المسيح، مسيرةَ نشر الإيمان بعد التّوبة، وحجًّا إلى ينابيع الخلاص. والرّحلة في الأديان تمثّل مسيرة الإنسان وصعوده رويدًا رويدًا مع تقدّمه في العمر نحو الله. وغالبًا ما تعترض هذه الرّحلة صعوبات الوجود فيقف الإنسان عاجزًا أمام الجبال الشّاهقة والوديان السّحيقة، فتمتدّ يد الله لترافقه في الطّريق، وتوصله إلى برّ الأمان. وما عنوان الكتاب إلّا تجسيد لهذه المسيرة علمًا أنّ بطلة الرواية ليست بسائحة عاديّة تبحث عن تمضية عطلة، إنّما هي مبشّرة حملت المسيح على طرقات البشريّة جمعاء انطلاقًا من فينيقيا وصولًا إلى روما الّتي أصبحت عاصمة الكثلكة. فالمسيرة مع الله تنتهي مع الحياة البشريّة لتنطلق نحو مسيرة سماويّة أبديّة.

انطلقت السّائحة في رحلة غنيّة بالرّموز الرّوحيّة والتّاريخيّة والإيمانيّة على خُطى الرّسل، وقد توقّفت في المدن نفسها الّتي توقّفوا فيها. وتسرد الرواية أعمال هؤلاء ومحبّة المسيح بطريقة بسيطة من خلال حوارات مع أشخاص التقت بهم السّائحة كصيّادي السّمك مثلًا، وهنا الاقتباس من آيات الإنجيل واضح وجليّ. لقد حاولت السّائحة التّبشير بالمسيح بطريقة مبسّطة، ومن خلال حوارات نابعة من القلب تمثّلت بإعلان البشارة بصورة آنيّة وسهلة.

إنّ هذه الطّريقة في الكرازة تعتمد على العاطفة وليس على التّحليل والتّفسيرات اللّاهوتيّة المعقّدة، وقد لا تكون قادرة على استقطاب إيمان الكثيرين، ولكن سرعان ما تتبدّل الرّواية فتأتي بتعاليم إيمانيّة في غاية الأهمّيّة والعمق الرّوحيّ. «أجمل ما فيها أنّها ثمرة الصّمت الّذي يسمح للرّوح بالتّجلّي والتّعليم والكرازة. أجمل وأعمق، وأصدق كلام هو الكلام الّذي لا يُنطق، المجبول بصمت الحبّ، فيه يسرح الإنسان ويستريح».

لا شكّ في أنّ هذه الرّحلة في الجغرافيا الّتي تقوم بها السّائحة إنّما تمثّل رحلة الإيمان الّتي يقطعها الإنسان أيّام شبابه. وهو غالبًا ما يضيّع البوصلة حينها، ومن ثمّ يظهر من يُرشده إلى الطّريق القويم فيتوب ويصبح مؤمنًا صالحًا. هنا يصبح الأسلوب فلسفيًّا قاسيًا وحاسمًا وشبه مأساويّ. ففي لحظة يمكن أن يتغيّر مصير الإنسان، لأنّ بين الحياة والموت شعرة، وكذلك بين الحبّ والحقد، وبين الغنى والفقر، وبين الصحة والمرض.

«كم من لحظة انتظرناها عمرًا،

كم من لحظة تُقنا إلى وصولها،

كم من لحظة غيّرت مجرى قصصنا،

كم من لحظة حولّت مسار حياتنا،

كم من لحظة رسخت في أذهاننا،

كم من لحظة بعد أن تمّت سميّناها لحظة،

في لحظة يولد الإنسان،

في لحظة يموت،

في لحظة يولد الحبّ،

في لحظة تحدث تقلّبات وانقلابات،

في لحظة يتغيّر التّاريخ،

في لحظة ننضج،

في لحظة ننكسر» (ص. 96)

تكثر في الرّواية الإشارة إلى الرّموز التاريخيّة والدّينيّة والرّوحيّة، ممّا يدلّ على معرفة المؤلّفين بالإنجيل. مع تسجيل أنّ الرّواية خلت من الحبكة في هذا السّرد القصصيّ لأنّ يسوع هو محور الكتاب وكذلك البشارة والإيمان. وكان لافتًا تزامن صدور الرّواية باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، علمًا بأنّ أسلوب النصّ باللّغة العربيّة كان بشكلٍ خاصّ متينًا ومنسّقًا.

وفي النّهاية ، فإنّ أبرز ما جاء في الرّواية هو التّعاليم الرّوحيّة والإنجيليّة واللّاهوتيّة والمواعظ. لذلك فإنّ الكتاب سيجد طريقه إلى الباحثين عن الإيمان بصورة عفويّة ومبسّطة ومن القلب إلى القلب.

الدّكتور جورج لبكي: رئيس مجلس إدارة المعهد الوطنيّ للإدارة. حائز دكتوراه في القانون من السّوربون، ودكتوراه في الأدب الفرنسيّ المعاصر من جامعة باريس (XII الثّانية عشرة). من مؤلّفاته باللّغة الفرنسيّة: أنثولوجيا. الأدب اللّبنانيّ باللّغة الفرنسيّة. ولبنان: قصص من حنايا بلاد الياسمين.

[email protected]

Share This