هناك تاريخ لأنّ هناك زمنًا، وهناك ناسٌ يولدون، وآخرون تنتهي حيواتهم. هناك تاريخ لأنّنا مرتبطون بالماضي، فيما المستقبل ينتظرنا ويُراقبنا. الماضي، وما فيه من التّاريخ وأحداثه، يمنع المستقبل من أن يكون رهينة المصادفة وحدها، أو يصبح شيئًا لا معنى له. فالتّاريخ، بالتّالي شئنا أم أبينا، مرتبط أشدّ الارتباط بأفعال البشر، وتحوّلات الطّبيعة، وهي في جلّها محفوظة في دفاتر المؤرّخين.

في العادة، فإنّ الأديان والكثير من التّيّارات القائمة على الأيديولوجيا، اليهود والمسيحيّين، والمسلمين، والشّيوعيّين، والنّازيّين، والماويّين، كما أديان الشّرق الأقصى، تعتقد اعتقادًا راسخًا بأنّ للتّاريخ معناه ومقصده ووجهته، بالرّغم من أنّ أولئكَ يختلفون في تفسيرهم معنى التّاريخ. أمّا الملاحدة والعلمانيّون المتزمّتون والمتلاعبون وبعض أهل البيولوجيا فيرَون في التّاريخ مجرّد مصادفة، لا مشروع محبّة وتحقيق غايات سامية. يعتقدون أن لا معنى للتّاريخ بقدر ما ليس هناك معنى للألم والشّرّ والحياة والكون ، لأنّ كلّ ذلك مصادفة.

ومنهم من يرى أنّ التّاريخ مجرّد قضاء وقدر، أي أنّ معناه لا يأتي من مشروع بشريّ حيث لا وجود يذكر للعلّة الثانويّة، بل إنّ كلّ شيء مردّه للعلّة الأولى. وهذا النّوع لمكانة التّاريخ لا يساعد كثيرًا في إعطائه الحجم الّذي يستحقّه، بل إنّ كلّ شيء ضمن هذا التّاريخ قد كُتب في السّابق على لوحات لا تُمحى. وهذا يُفضي إلى استقالة الإنسان من مسؤوليّته بأن يكتب التّاريخ بأنامله وفكره وتعبه وعرقه، ما يجعل التّاريخ مجرّد امتحان للإنسان بأن يحقّق ما رُسِم له ليس إلّا.

ونأتي إلى نظرة متقدّمة إلى التّاريخ، أبطالُها المفكّرون والفلاسفة الألمان، مثل فردريتش هيغل، والّذين أعطوا التّاريخ معنيَين من خلال كلمتين تُفرّقان بين المعنى الأوّل والثّاني. فهناك التّاريخ الّذي يتكوّن ويتحقّق (historie)، والتّاريخ الّذي تحقّقَ وتكوّنَ في مرتبة الماضي (gescichte)، والمعنى الأخير هو من صنع المفسّرين والمؤرّخين وحتّى الفلاسفة، وهو التّاريخ الّذي يتعلّمه الأطفال والشُبّان في المدارس. ومن الخطورة أن يبتعد المعنى الثّاني عن الأوّل، فيتحوّلَ إلى مجرّد تاريخ يُبنى في خدمة الأيديولوجيا، كما حدث مع بروز النّازيّة.

صحيح أنّ التّاريخ هو كتابة الماضي، وهذا ما نصنعه وصنعناه في مجلّة المشرق التي تُفرد للماضي مساحة مهمّة على صفحاتها. ففي الفهارس التي تصدر سنويًّا، وقد صدرت في مرحلتين ضمن كتيّبين، نجد أنّ للتاريخ وكتابته مرتبة متقدّمة في مختلف المجالات الدّينيّة والمدنيّة وحتّى الطّبيعيّة منها. إلّا أنّ التّاريخ لا يتعلّق بالماضي وحسب كأنّه حافظ الأحداث في الذّاكرة، بل إنّ الطّبقة الأولى من النّفس البشريّة ليست الذّاكرة الحافظة أو الإدراك التّاريخيّ بل هي استبشار المستقبل، والوعد بمستقبل أفضل، وانتظار الحلول المثلى لمصائبنا، والتّعلّق بالوعود كذاك الوعد الّذي يعلنه الحبيب للحبيب بأنّ المستقبل هو أمام الاثنين، وأنّهما سوف يكتبانه معًا.

في التّاريخ، نجد مكانًا مهمًّا للتّائهين، وكذلك لأولئك الّذين يعملون عند شياطين التّيهان بثرثراتهم العقيمة، وتهديد مَن يَعصي أوامرهم ومشيئتهم. إلّا أنّ التّاريخ هو تاريخ الأحرار وتاريخ الثّائرين على الضّياع والفساد والضّلال، ففي الإنسان إرادة الحبّ والمصالحة مع الذّات والآخرين.

الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة. [email protected]

Share This