فلسفة

Le Liban ou l’irréductible distance

Le Liban ou l’irréductible distance

اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

Frank Darwiche

Le Liban ou l’irréductible distance

135 p. Redlands, CA: Elyssar Press, 2020
(ISBN: 978-1-7334529-5-3)

 

«شي مش قليل أن يكون المرء لبنانيًّا». مقولة تحمل في طيّاتها الكثير عن بلادٍ، شكلّ الحرّيّة والحلم والخيال والطّموح أبرز حناياها منذ البدء، ومنذ أن كانت الكلّمة وكان النّور .وما عنوان الكتاب «لبنان أو البُعد غير القابل للاختزال» إلّا خير دليل على ذلك.

حاول المؤلِّف تأطير أفكاره الفلسفيّة والشّعريّة والأدبيّة والعاطفيّة والوجوديّة للولوج إلى كينونة وطنه، مستكشفًا طريقه بين جبال لبنان السّاحِرة، ووديانه العميقة، ومدنه العابرة، وقُراه المعلّقة بين الأرض والسّماء. والدّلالة على ذلك، ظاهر النّصّ الّذي لا ينتمي إلى نوعٍ أدبيّ معيّن، وقد امتزج فيه الشّعر والأسلوب القصصيّ والفلسفة والرّومانسيّة والتّاريخ وحتّى الجغرافيا. بيدَ أنّ هذا الأسلوب الـمُـشتّت ظاهريًّا يُؤشّر إلى حيرة الكاتب أمام وطنٍ لا ينام ولا يرتاح، بل يعيش منذ فجر التّاريخ مع التّحدّيات والمخاطر والمحن الّتي تأتيه من كلّ حدبٍ وصوب، بدءًا من محيطه القريب، وصولًا إلى أقاصي الكون.

يحاول الكاتب سبر أغوار وطنِه الأمّ المترسِّخة في التّاريخ، مع كلّ ما يذخر به من بطولات وتناقضات وحتّى انقسامات، كما ورد في مقدّمة الكتاب، والّتي تحمل عنوان «الانقسام منذ البدء» أو L’origine divisée [1]. فالتّاريخ يصنِّف الشّعوب على قاعدة مدى مساهمتها في بناء الحضارة الإنسانيّة أو هدمها.

وهكذا ينطلق الكاتب في رحلته الطّويلة من مدينة طرابلس، حيث يتوقّف طويلًا، صعودًا إلى منطقة الكورة بصحبة بطله سجعان ذي الاسم الفينيقيّ الأصل، كما يقول، والّذي يبحث عن حبيبة لا يدركها، ويبدو أنّه لا يعرف عنها الكثير، كما يوحي ظاهر النّصّ.

ماذا لو كانت هذه الحبيبة تمثّل علاقة الحبّ الخياليّة الّتي تربط الكاتب بوطنه المنزلق بين يديه، ولا يستطيع الإحاطة بكلّ معانيه وحناياه، فلا يدرك تمامًا خفاياه وتعقيداته الغائصة في التّاريخ، على صورة تلك الحبيبة الغامضة الّتي لا يعرف عنها الكثير؟

حاول الكاتب البحث عن هذا الحبّ الدّفين. فقادته مسيرته الطّويلة إلى كلّ أرجاء الوطن من الشّمال الخالد بأرزه، مرورًا بوسط البلاد قلب لبنان، وصولًا إلى الجنوب بلاد البشارة والزّيتون والعطور.

توقّف صاحب الكتاب في رحلته عند محطّات عديدة تناول فيها العلاقات الاجتماعيّة والتّاريخ، ودخل في حوارات مع العديد من الأشخاص الّذين استوقفوه طويلًا، مرحّبين به أطيب ترحيب، ومتبادلين معه المواضيع كافّة، تلك الّتي تدور عن الوطن وعاداته وتقاليده.

إنّ هذه الرحلة الطّويلة غنيّة بمعانيها ورمزيّتها. فالانطلاق نحو الآخر في رحلة الألف ميل يحمل في طيّاته البحث عن جوهر الأمور، وسرّ الوجود، وعن الوطن وصيرورته الماضية والحاضرة والمستقبليّة، إذ إنّ الانطلاق نحو البعيد يحرّر الإنسان من هموم الحياة الّتي تقيّده، فيصبح قادرًا على الاستماع وفهم جوهر الأمور. وهنا يحضر أمامنا «كنديد» Candide بطل القصّة الّتي تحمل نفس الاسم، وقد كتبها الفيلسوف العظيم ڤولتير Voltaire، وحاول فيها البطل استكشاف أسرار ومعاني الوجود من خلال رحلتِهِ حول العالم. ولكن هل وصلت مسيرة الكاتب إلى نهاية الطّريق أم تدور على نفسها وتعود إلى نقطة الانطلاق؟

تسلّح الكاتب في سيرته بالتّاريخ والعقل والمنطق، متدخّلًا مباشرةً في النّصّ من خلال الهوامش الّتي سرد فيها معلومات تاريخيّة مفصّلة عن المناطق الّتي مرّ فيها، وهذا خفّف من شاعريّة النّصّ ومن جمال السّرد، لأنّه عزّز الجانب التّاريخيّ على حساب الجانب الأدبيّ.

يشير هذا المنحى في الكتابة إلى أنّ الكاتب يريد أن يُعلِم القارئ بأنّه وطنيّ مخلص، ويعرف تاريخ بلاده وعاداتها وتقاليدها، محاولًا العبور من المنظور المادّيّ إلى اللّامنظور، ولكنّ الواقع الجغرافيّ شيء، وما وراءه شيءٌ آخر.

لا شكّ في أنّ الطّبيعة اللّبنانيّة الخلّابة تذخر بالرّموز والمعاني والقداسة والبطولة، لأنّ كلّ حبّة تراب فيها تشهد على صراع شعب، جابه القدر وتغلّب عليه. فمنظر البحر مثلًا ينقل الكاتب إلى المحيطات الّتي وصل إليها يومًا الفينيقيّون، هذا الشّعب الأسطورة الّذي اقتحم المجهول، ونقل الحضارة والأبجديّة إلى العالم، كما يقول الكاتب:

“Sur le vaste horizon des gens bleus de Sajân la mer posait ses rides, se calmait, un “calme d’huile” comme on dit au pays du Mont Blanc. Les choses se dessinaient sur la pupille, essayaient de s’immiscer dans son horizon, mais elles se trouvaient repoussées constamment par les images de l’histoire: Sidon, Europe, puis le lointain: le tour de l’Afrique et ses côtes puniques… autour des paradigmes du commerce, père et mère du mot, et de la guerre inévitable”.[2]

أمّا الجبل فهو رمز الشّموخ والرّأس المرفوعة والحرّيّة والصّمود. وقد تحصّن وراءه اللّبنانيّون منذ القدم، مدافعين عن حريّتهم الّتي أبَوا أن يعيشوا يومًا من دونها. وهذا الأمر، جعل لبنان واحة خضراء عطرة ومعطاءة في محيطٍ تميّز بشظفه وقساوته وقلّة سعة صدره. وقد دفع اللّبنانيّون ثمن هذه الحرّيّة على مدى العصور وحتّى هذه اللّحظة. هذا الواقع زاد من إباء الكاتب، ولكن طرح عليه إشكاليّات جديدة باطنُها عدم الاستقرار، والخوف من المستقبل، كما يحدث اليوم، وعدم الثّقة باستمرار الأعجوبة اللّبنانيّة الّتي لا يمكن اختزالها.

فيما يشكّل السّهل بمسطّحاته، الّتي تجاور الأفق البعيد، الانفتاح على المشرق بكلّ تعقيداته وازدواجيّته وكثبانه الرّمليّة الملتهبة.

تصارعت كلّ هذه المتناقضات في ذهن الكاتب، فولّدت شلّالًا فكريًّا من الفرح والعنفوان والألم والفراق، والبحث عن الجذور، عبر تاريخٍ صاخب لم يعرف الهدوء والسّكينة يومًا. كيف لا والشّعوب الّتي لا تاريخ لها تعيش على هامش الحضارة في غيبوبةٍ مملّة. وقد عبّر الكاتب عن هذا الصّراع من خلال استعمال كلمات ترمز إلى الجروح العميقة والألم والخوف من المستقبل، والعودة مجدّدًا إلى الحياة في وطنٍ لا يمكن اختزاله، على غرار أرزه الخالد.

“Sur le blanc céleste, il porte la blessure du départ marin et le portail d’un temple hostile. Il dissout la colère dans la vacuité humide où ses racines, dans un réel insoumis, Ecoutent le devenir.

Il supporte le Nom d’une patrie qu’il dissout dans les premières nuits d’été.

Pour décerner aux côtes

Leurs traits et leurs visages[3].

في الواقع، إنّ العلاقة بين الإنسان والوطن علاقة حبّ متبادل، كما يقول إرنست رينان Ėrnest Renan، يتداخل فيها الواقع والأسطورة والخيال، ليشكّل مدماكًا صلبًا، يتحصّن خلفه المواطن، ويدافع عنه حتّى الرّمق الأخير من حياته.

إنّ ثقافة المؤلّف الواسعة جعلته يُدرك أنّ كلّ محطّة من محطّات رحلته زاخرة بالبطولات والمآسي والعظمة والكفاح والمجد. لقد تناول الكاتب في كتابه موضوعات تتناول الانتماء والعلاقة بالوطن ومآسي الماضي وصراع البقاء، وقد سبقه إليها الكثير من الكتّاب اللّبنانيّين. نذكر على سبيل المثال الشّاعر اللبنانيّ هكتور خلاط الّذي يعبّر في شعره عن المشاعر نفسها.

“Que dira le courant double qui me gouverne,

Ce qui fait mon délice ensemble et mon tourment

Mon âme est un musée étrange et composite.

Riche des souvenirs, des siècles traversés

Chaque sentiment et chaque pensée…

Je les dois à cette union passée”[4].

جاهَر الكاتب بحبّه العميق لوطنه الأمّ، ووفائه لتاريخه العظيم. وقد حاول أمام المحنة الوجوديّة الّتي تهدّد وجوده وكيانه أن يستشرف هذا الماضي من خلال الشّعر والقصص وأدب الرّحلة والتّاريخ. إنّها مقاربة فريدة originale من ناحية الشّكل والمضمون غير المألوفَين، يبدّ أنّه كان من الأفضل أن يبقى الكاتب في سرده مُستلهمًا الأسطورة والخيال والجمال من دون الاستشهاد بمعلومات تاريخيّة جامدة، لا تتناسب مع سرديّة تضجّ بالشّعر والخيال والحلم أمام وطنٍ فريد، ملأ الدّنيا ولم يقعدها، وهو أمام المحن كطائر الفينيق يتلاشى، ثمّ يعود ويُبعث حيًّا من الرّماد.

 

[1]   Frank Darwiche, Le Liban ou irréductible distance (CA, Redlonds: Elyssar Press, 2020), 7.

[2]   Darwiche, Le Liban ou irréductible distance, 23.

[3]   Darwiche, ibid, 55.

[4]   Hector Klat, Le cèdre et le lys (Beyrouth: Editions de la Revue phénicienne, 1935), 10, 12.

الدّكتور جورج لبكي : رئيس مجلس إدارة المعهد الوطنيّ للإدارة. حائز دكتوراه في القانون من السّوربون، ودكتوراه في الأدب الفرنسيّ المعاصر من جامعة باريس (XII الثّانية عشرة). من مؤلّفاته باللّغة الفرنسيّة: أنثولوجيا. الأدب اللبنانيّ باللّغة الفرنسيّة. ولبنان: قصص من حنايا بلاد الياسمين.

[email protected]

في تاريخيّة لقب الفارابيّ «المعلّم الثّاني» وأسبابه، قراءة نقديّة

في تاريخيّة لقب الفارابيّ «المعلّم الثّاني» وأسبابه، قراءة نقديّة

لم يطلق جميع المؤرّخين المعاصرين للفارابيّ في التّاريخ والفلسفة والآداب والجغرافيا لقب «المعلّم الثّاني» عليه، بل هو ظهر لأوّل مرّة مع البيهقيّ، بعد أكثر من مئة عام على وفاة الفارابيّ، وللمرّة الثّانية مع حاجي خليفة في القرن السّابع عشر، وقد أحيا المستشرقون هذا اللّقب في نهاية القرن التّاسع عشر، ليأخذ مكانته الكبيرة مع مؤرّخي الفلسفة في النّصف الثّاني من القرن العشرين،  وهم إذ استخدموه على نطاق واسع، حاولوا تبريره لأسباب عدّة من خلال مقارنته بالرّئيس الأوّل أرسطو، على ما شرحه ابن خلدون في مقدّمته. في ختام البحث خلص الباحث إلى أنّ لقب «المعلّم الثّاني» أتى متأخّرًا، ولا يمكن أن يكون صالحًا للفارابيّ، مقارنة بالمعلّم الأوّل أرسطو، لأنّ أثر الفارابيّ أقلّ بكثيرٍ من أثر أرسطو، ولأنّ تأثيره ضيّق جدًّا، ومحدّد؛ ولم يتبعْه أحد في منهجه. إنّ لقب الفارابيّ «المعلّم الثّاني» هو لزوم ما لا يلزم.

 

De l’historicité et des raisons du titre d’al-Fârâbî:
le «Second maître», lecture critique

Tous les historiens de la philosophie et de la littérature classiques n’ont pas attribué le titre de «Second maître» à al-Fârâbî. En revanche, on trouve pour la première fois ce titre avec Al-Bayhaqi plus de cent ans après la mort d’Al-Fârâbî et pour la deuxième fois avec Hagi Khalyqa au dix-septième siècle. Il s’est revivifié à la fin du dix-neuvième siècle avec les orientalistes, et a trouvé son grand succès à partir de la deuxième moitié du vingtième siècle avec les historiens de la philosophie arabe. Ils l’ont largement utilisé et essayé de le justifier par de multiples raisons en le comparant avec le premier maître Aristote d’après l’introduction d’Ibn Khaldoun. La conclusion justifie que le titre de «Second maître» n’a aucun fondement juste. Les écrits d’al-Fârâbî ne représentent pas un volume très important; ils n’ont pas eu la même influence que ceux d’Aristote, et pour terminer, al-Fârâbî n’a pas de disciples au sens propre du mot comme le premier maître. Le titre de «Second maître» n’est pas vraiment nécessaire pour al-Fârâbî.

الأب سميح رعد :

دكتور في الفلسفة، مجاز في اللّّاهوت، وفي العلوم الإسلاميّة والعربيّة، أستاذ العقيدة والحوار الدّينيّ في معهد القدّيس نيقولاوس في مدينة متس الفرنسيّة. من مؤلّفاته: إنجيل يسوع المسيح بحسب الإحياء للغزالي، المهجّر (تعريب)، ١٥ يوم صلاة مع القدّيسة جان أنتيد (تعريب)، (بيروت: دار المشرق.)

تعاملُ الإنسان مع سرّ الواقع وغريزة الإبداع العلاقة الجدليّة القائمة بين الدّين والعِلْم والفنّ

تعاملُ الإنسان مع سرّ الواقع وغريزة الإبداع العلاقة الجدليّة القائمة بين الدّين والعِلْم والفنّ

يتطرّق كاتبُ المقال، بدءًا، إلى العلاقة الجدليّة بين الدين والعلم والفنّ. ثمّ يبيّنُ سبب الخلاف الكامن بين هذه الميادين الثلاثة في التجارب البشريّة. بعدها، واستنادًا إلى نظريّة الرسوم البيانيّة الخاصّة بالتحليل النفسيّ عند كارل يونغ، والتي بحسبها يتعامل الإنسان وسرَّ الواقع من خلال كلّ من الدين، والعِلم، والفنّ، لاجئًا إلى قدرات حَدسِه وخَياله، يؤكّدُ الكاتب أنّ هذه العمليّة تتجاوزُ مجرّدَ اختبار الواقع للتمكّن من التعبير الرمزيّ عن واقعٍ غير مرئيّ. ومن هنا ضرورة الالتزام بالتكامل بين هذه الميادين الثلاثة، ومَنع انفصالها أو انحرافها.

الأخلاق الصوفيَّة في الخطاب المعاصر «الإنسان الكامل» والمواطنة العالميَّة

الأخلاق الصوفيَّة في الخطاب المعاصر «الإنسان الكامل» والمواطنة العالميَّة

يوضحُ الكاتب في مقدِّمة بحثه مسألةَ علاقة التصوُّف الإسلاميّ ببعدَيْن أساسيَّين: البعد التوحيديّ المتمثّل بالخالق – البعد العموديّ -؛ والبعد الإيطيقيّ (الأخلاقيّ) المتمثّل بصلاح قلب الإنسان والفضائل – البعد الأفقيّ -. وقد ربطَ الباحث البعد الأفقيّ، إذ جاز التعبير، بمفهوم “الإنسان الكامل” الذي وردَ غالبًا في الأدبيّات الصوفيّة، وتعلّق بالكمال والأُسوة التي جسّدها الرسول محمّد (صلعم). ولتوضيح مفهوم “الإنسان الكامل” عالجه الكاتب من منظور التصوّف الفلسفيّ الذي انطلق من محيي الدِّين بن عربيّ المتصوّف الإسلاميّ الشهير، وصولًا إلى الأمير عبد القادر الجزائريّ لاحقًا. ولئن كان البعد الإيطيقيّ (الأخلاقيّ) في التصوّف مرتبطًا بصلاح القلب والفضائل المتجسِّدة بالعلاقة بالآخر، فقد ركّز الكاتب عبد الوهّاب بلغراس على مفهوم المواطنة والمواطنة العالميّة التي تُجسِّد هذا البعد المفهوميّ عند الشيخ خالد بن تونس، في عصر العولمة والانفتاح والاكتشافات على أنواعها. وذلك، من دون أن يغفل ذكر مؤلَّفات الشيخ ابن تونس باللغة الفرنسيّة التي تحاكي أبعاد التصوّف الدينيّ والإنسانيّ والعلاجيّ.

جان-لوك ماريون: من الميتافيزيقا إلى الفينومينولوجيا

تشكّل فلسفة جان-لوك ماريون مُنعَطَفًا مُهمًّا في مجال الفلسفة، إذ تقيل الميتافيزيقا التي تماهت بها الفلسفة إبّان عصور، وذلك انطلاقًا من الفينومينولوجيا. ينطلق جان-لوك ماريون من فينومينولوجيا هوسرل وهايدغر مبيِّنًا أنّهما، وبالرغم من أهميّة ما أتوا به في هذا المجال، لم يتمكّنا من بلوغ العطاء الجذريّ؛ أي اعتبار أنّ كلّ ظاهرة تُعطى أوّلًا، فقد بقيت فلسفتهما أسيرة الموضوع والموجود هنا Dasein. يعطي جان-لوك ماريون الأوّليّة للعطاء في الظاهرانيّة، ويختزل كلّ شيء به لأنّ كلّ ما يظهر هو مُعطَى أوّلًا. فتتجلّى ظواهِر مُشبَعَة بالعطاء والحَدس تُعطي ذاتها وتكشف ذاتها للأنا التي لا تعود أساس الظواهر، ولا حتّى أساس ذاتها، بل هي “أنا” تستقبل الظواهر وتختبرها من الداخل وتتأثّر بها. يغيّر جان-لوك ماريون إذًا مفهوم الذاتيّة الكلاسيكيّ كذات مفكِّرَة أو حتّى كذات تجريبيّة. في هذا الإطار يتحدّث عن الحبّ ويحدّده كعطاء لا ينتظر شيئًا بالمقابل، كفِعلٍ وليس كمجرّد عاطفة، ومن دون أن يميّز بين إروس وأغابي، ليُصبِح الحبّ معه أحاديّ المعنى. والظاهرة الإروسيّة التي يصفها هي حالة من حالات العطاء ولكنّها حالة مميّزة، يعيشها كلّ إنسان في كلّ زمان وفي كلّ مكان، خارِجًا عن مبادئ الميتافيزيقا والمنطق الضيّق. من هنا، يفتح جان-لوك ماريون على عقلانيّة تفوق العقلانيّة في مفهومها السائد، عقلانيّة تفوق منطقنا ومبادئه المحدودة، وذلك لأنّها ليست عقلانيّة قصديّة تتوجّه نحو الظواهر، بل هي عقلانيّة تتلقّى فيض الحدس والعطاء في الظواهر عينها ومنها.

عيسى بنُ زُرعة († 1008م) ثلاث مسائل تفسيريّة كلاميّة

يعالج هذا المقال مسألة العلاقة بين الإله والإنسان. كيف يتَّصل الإله الخالق بالعالم المخلوق؟ ولماذا يتدخَّل في حياة الكون والبشر أحيانًا ويمتنع أحيانًا أخرى؟ هل الإنسان مختارٌ أم مجبَر؟ وإذا قلنا إنَّه حرٌّ، ألا يتعارض القولُ بحرِّيَّة الإنسان مع الإرادة الإلهيَّة؟ ناقش عيسى بن زُرعة (ت 1008م) هذه التساؤلات في مقالته خمس مسائل سُئل عنها عيسى بن اسحق بن زُرعة سألهُ عنها أبو حَكيم البُحَيريّ مِن أهْل مَيّافارِقِين في سنة ست وثمانين وثلثمائة، حيث أجاب على أسئلةٍ تختصُّ بتفسير آياتٍ من التوراة، هي:
– الآية: «وغَلَّظَ اللهُ قَلْبَ فِرْعَون ولم يُفْرِجْ عن بَني إسْرائيل» (سفر الخروج 10/20، 27؛ 9/12؛ 7/3؛ 10/1؛ 11/10.)
– قصَّة «بِلْعام» الَّتي وردت في سفر العدد (سفر العدد 22/20- 22).
– الآية: «فَنَدِمَ الرَّبُّ على أَنَّه صَنَعَ الإِنسانَ على الأَرض وتَأَسَّفَ في قَلبِه» (سفر التكوين 6/6).
يتألَّف المقال من قسمَين:
القسم الأوَّل: النصُّ المحقَّق.
القسم الثاني: دراسة أسلوب عيسى بن زُرعة في تفسير آيات التوراة، ومضمونها.
تحقيق الأب بيير مصري
دراسة د. نادين عبّاس

علاقةُ الفلسفة بالشريعة

إنّ مقالة عيسى بن زُرعة، وعنوانُها “مقالة عملها أبو عليّ عيسى بنُ إسحق بنُ زُرعة، لبعض إخوانه، يبيّن فيها براءة الناظِرين في المنطِق والفلسفة ممّا يُقرَفون من فساد الدين”، تدرس مسألة العلاقة بين الفلسفة والدِّين. وعيسى، في نصّه هذا، يبرهن خطأ الذين يعتقدون أنّ الفلسفة تُفسِدُ الدِّين.
ينقسم مقالُنا إلى قسمَين:
أ‌- دراسة
1- حياة عيسى بن زُرعة وآثاره.
2- النصّ: أصالتُه ومضمونه.
ب‌- نقد
1- وصف المخطوط ودراسته، وأسلوب نشره.
نصّ ناقد لعيسى بن زُرعة.

تقديم د. نادين عبّاس.

لاعقلانيّةُ العقلِ العربيّ الإسلاميّ عند محمّد عابد الجابريّ

لاعقلانيّةُ العقلِ العربيّ الإسلاميّ عند محمّد عابد الجابريّ

إنّ الفيلسوف المغربيّ محمّد عابد الجابريّ (1935- 2010) يبغي أن يشرح، في كتابه تكوين العقل العربيّ، العقلانيّة العربيّة بهدف نقدها وبنائها على أساسات عقلانيّة نقديّة ومنوّرة. فلا يكتفي إذًا بنقد الثقافة والفكر، بل ينقد العقل الذي يولّدهما. والدخول في هذه المقاربة هو بالفعل اكتشاف تيّارات فكريّة موجودة في التقليد نفسه، وكانت قد أدّت إلى إبطال العناصر الفكريّة. فيجب تسليط الضوء على تلك العناصر بالتحديد. وانطلاقًا من هذه الرؤية، وجدَ الجابريّ أنّ التقليد العربيّ الإسلاميّ كان قد عرف تيّارَين فكريَّين متعارضَين: العقلانيّة واللاعقلانيّة. وهذه الدراسة تحاول نقدَ هذه المقاربة نقدًا موضوعيًّا.

النَّفْس: المبدأ والمعاد في فلسفة يحيى بن عديّ

النَّفْس: المبدأ والمعاد في فلسفة يحيى بن عديّ

نعالج في هذا المقال مسألة النَّفْس عند يحيى بن عديّ: أصلها ومصيرها، وهذا في رسالتَين منسوبتَين إليه: “رسالة رؤيا في تعريف النفس”، و”مقالة بينه وبين إبراهيم بن عديّ الكاتب ومناقضة في أنّ الجسم جوهر وعرض. وهي نسخة مسألة وردت من الرَّيّ في ذي القعدة من سنة إحدى… وثلاثمئة”. وهكذا ندرس ثلاث مسائل: ثُنائيّة النفس والجسد، والمبدأ، والمعاد. ويُلحَق بمقالنا هذا الرسالتان السابق ذِكرُهما.

فلسفة المكان القدسيّ. الميثاق الروحيّ وتجلّياته بين الزائر والقدّيس

فلسفة المكان القدسيّ. الميثاق الروحيّ وتجلّياته بين الزائر والقدّيس

الغرض من هذا البحث هو توضيح حقيقة المكان المقدّس المتسامية وإبراز “العهد الروحيّ” الذي يبرم بين المزار والزائر وما يترتّب عليه من آثار أخلاقيّة.
يبدو لي أنّ كلّ كلمة قيلت عن جوهر ما هو مقدّس تؤدي إلى مفارقة معيّنة. فالمقدّس، بغضّ النظر عن قدسيّته، هو في حدّ ذاته مستقلّ ومميّز عن كلّ ما ليس من طبيعته. وفي سياق الدراسة هذه، يبدو أنّ المكان الذي يتمتّع بخاصيّة التقديس هو انحياز فرديّ في العالم الأرضيّ. فمن أجل فهم الواقع المقدّس، يجب على المرء أن يعيشه، ويكونه، أو بعبارة أخرى، أن يلاحظ قدسيّته برضى وخنوع، ويفهم المكان الذي يتواجد فيه ليكون فهمه نتيجة الملاحظة والفعل.
لا شكّ في أنّ “العهد الروحيّ” الذي يجب على الزائر إبرامه مع المكان المقدّس يجبره على الاستعداد للقاءٍ لم يقم به من قبل. سيتعيّن على الزائر أن يستعدّ لحوار لا يمكن أن يفعَّل إلا على المستوى الشخصيّ مع الحاضر في المزار. فالمكان المقدّس لا يقبل الحوار مع زائره إلاّ إذا جاء هذا الأخير بشكل فرديّ، على الرغم من عدد الزائرين الكبير. لكلّ زائر طريقة في الوصول إلى الموقع المقدّس. ولكنّ الشخص الذي يكتشف، نوعًا ما، سرّه، يمكنه وحده أن يصل إليه. ومَن يتمتّع بنيّة صادقة ويؤمن بالشخصيّة التي يحمل المزاؤ اسمها يكتشف السرّ ويدخل المكان بسلام. وهذا ما يسمّيه الحكماء “لحظة العماد” التي تعبّر في الواقع عن تجربة أخلاقيّة ونشوة روحيّة ى يحصل عليها إلّا مَن يعيشها.

ثلاث مقالات لاهوتيّة ليحيى بن عديّ (إضاءة على بعض القيم الأخلاقيّة في المسيحيّة)

ثلاث مقالات لاهوتيّة ليحيى بن عديّ (إضاءة على بعض القيم الأخلاقيّة في المسيحيّة)

تمّت مراجعة ثلاثة نصوص غير منشورة عن يحيى بن عدي في الدراسة هذه وهي التالية:
1- تعليق موجَز على كلمة الإنجيل المقدس: “وإِذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها، وإِذا كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها، لِأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ سَيُمَلَّحُ بِالنَّار”، وغيرها من الأسئلة.
2 – ملخّص خطاب يحيى عن خطأ من يزيل بعض التعابير من الصلاة الإنجيليّة: “إغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا”.
3- ملخّص إجابة يحيى عن السؤال المتعلّق بتوقير الصليب المقدس، وعن غيرها من الأسئلة.
تسبق النصوص مقدّمة تعرض محتواها، والقيم الأخلاقيّة التي يمكن استقئها منها، وكذلك الصفات الأخلاقيّة التي يتمتّع بها يحيى بن عديّ.

إبن رشد: الشارح الفيلسوف

إبن رشد: الشارح الفيلسوف

راجَ تقليدٌ بين القدماء من الشرّاح والفلاسفة بالتأليف الفلسفيّ على مستويَين: المستوى الأوّل اقتصرَ فيه هؤلاء على بلورة أفكار “المعلّمين” الأوائل مع إيراد بعضٍ من آرائهم ضمن الشروحات التي تعكس بذور نبوغهم. والمستوى الثاني شرحٌ فانتقالٌ إلى الخصوصيّات والعنديّات من تعليقات ومقالات ومؤلّفات تؤذِن بانبلاج فجر النبوغ والتفرّد بالرأي والعقيدة ونُضج المذهب. وهذه هي حال ابن رشد الشارح الأكبر لأرسطو وفيلسوف العقل الراجح.

“مختصَر مسألة في مخاطبة السيّد لأبيه الواردة في الإنجيل المقدَّس” ليحيى بن عديّ

“مختصَر مسألة في مخاطبة السيّد لأبيه الواردة في الإنجيل المقدَّس” ليحيى بن عديّ

إنّ مقالة يحيى بن عديّ المذكورة في العنوان تعالج مسألة طبيعة المسيح وعلاقة الابن بالآب. يثبت يحيى خطأ مَن يعتقد أنّ الآيتَين “أبي وأنا واحد” و”مَن رآني رأى الآب” تناقضان الآية “أبتِ، أبعِد عنّي هذه الكأس”، لأنّ الآيتَين الأُوليَين تُظهران أنّ الآب والابن هما من طبيعة واحدة، في حين أنّ الثالثة تبيّن الازدواجيّة من جهة، وعَجْز الابن من جهة أخرى.
بالفعل، يستند جواب يحيى على تبيان إمكانيّة مخاطبة الذات وفوائد هكذا مخاطبة، وهذا في قسمَين: في القسم الأوّل يثبت خطأ اعتقاد أنّ مخاطبة الذات أمرٌ غير معقول، ذاكرًا أمثلة من الكتاب المقدّس والأدب العربيّ. وفي القسم الثاني، يقدّم ستّ فوائد لمخاطبة المسيح أباه، ويستنتج من ذلك دروسًا أخلاقيّة من جهة، ونتائجَ لاهوتيّة من جهة أخرى (الثالوث الأقدس، التجسّد، الصَّلب).

الصداقة وتُراث مفهوم الفضيلة الأخلاقيّ في الثقافة الإسلاميّة

الصداقة وتُراث مفهوم الفضيلة الأخلاقيّ في الثقافة الإسلاميّة

يعالجُ المقال الطريقة التي اعتمدها بعضُ المفكّرين المسلمين من القرنَين الرابع والخامس للهجرة لدراسة موضوع الصداقة. وقد شهدت تلك الفترة انطلاقةَ النقاش بشأن هذا الموضوع في كنَف تجمّعات فكريّة متنوّعة. ولكنّ هذا المقال يركّز خصوصًا على ثلاثة مفكّرين كبار كانت لهم أيضًا نظرة مميّزة إلى الصداقة، وهم: أحمد بن مسكويه ( ت. 1030)، وأبو حيّان التوحيديّ (ت. حوالى 1023)، والماورديّ (ت. 1058). فما هي إذًا ألمع خصائص الصداقة، وطبيعتها، وعلاقتها ببلوغ الفضيلة، باتّجاه خير الإنسان ربّما؟

الجوانب الفلسفيّة في مقالة “ترك طلب النَّسل” ليحيى بن عديّ

الجوانب الفلسفيّة في مقالة “ترك طلب النَّسل” ليحيى بن عديّ

إنّ أهميّة كتاب يحيى بن عديّ ترك طلب النَّسل تظهر في فكرة أنّ الكتاب مؤسّس على الطريقة المنطقيّة، وخاصّةً القياس، في دفاعه عن معارضات الخصوم. في الواقع، هؤلاء قاموا بانتقاد تَرك بعض المسيحيّين الإخصاب. ويحيى بن عديّ، باعتماده على هذه الطريقة، استطاعَ تقديم براهين خصومه وإثبات ضعفها. فتطرّق إلى نظريّتَين فلسفيّتَين في بحثه: نظريّة خلق العالم، ونظريّة العقل. هكذا، يقتضي هدفنا الأساسيّ تبيان جوانب هذا البحث الفلسفيّة، بإظهار الطريقة المنطقيّة التي تبنّاها من جهة، والنظريّتَين الفلسفيّتَين من جهة أخرى.

مفهوم الألوهيّة عند يحيى بن عديّ في كتاب “الردّ على الورّاق” و”مقالة في الموجودات”

مفهوم الألوهيّة عند يحيى بن عديّ في كتاب “الردّ على الورّاق” و”مقالة في الموجودات”

يهتمّ هذا المقال بتفسير دلالات تعبير “الله” الستّ التي ذكرها يحيى بن عديّ في كتاب الردّ على الورّاق، ثمّ بمقارنة أربع دلالات هي الجوهر والآب والابن والروح القدس بتعريف يحيى للخالق (بارئ) في كتابه مقالة في الموجودات، مُظهِرًا أنّ الفرق ليس إلّا اختلافًا في التعبير؛ فعبارة “عاقل ذاته على غايةِ الحقيقة” في وصف البارئ تقابلها عبارات: “عقل”، و”عقل عاقل”، و”عقل معقول لذاته” عند الآب والابن والروح القدس. أمّا عبارة “علّة الوجود كلِّ موجودٍ غيره، وتكوُّن كلِّ متكوِّن” فتقابلها عبارات: “علّة وجود كلّ مخلوق، والدٌ غير مولود ولا منبعث” في وصف الآب، و”علّة وجود كلِّ مخلوق، مولودٌ غير والدٍ ولا منبعث” في وصف الابن، و”علّة وجود كلِّ مخلوق، منبعثٌ غير والدٍ ولا مولود” في وصف الرُّوح.

Share This