Salah Aboujaoudé S.J. t
Le Liban en turbulence : Naviguer entre identités confessionnelles et enjeux régionaux
1ère édition, 204 p. Beyrouth : Dar El Machreq, 2024
ISBN: 978-2-7214-7120-8
جميل أن تهتمّ الجماعات والرَّهبانيَّات والجامعة الخاصَّة بالشَّأن العامّ في لبنان لأنَّ معظم الجامعات اللُّبنانيّة أضحت معولمة، وتُعنى بتخريج أفواج من الطُّلَّاب المؤهَّلين للعمل في الخارج. والأجمل أنَّ أحد هؤلاء الرُّهبان الأب اليسوعيّ الدُّكتور صلاح أبو جوده، وهو مؤلِّف هذا الكتاب الَّذي نسعى إلى مقاربته، يجهد بمختلف الوسائل من أجل إيجادِ صيغةٍ صالحة لإرساء الاستقرار ومن ثمَّ الرَّخاء في لبنان. ولكنَّ المؤلِّف ما يلبث أن يجدَ نفسه في صميم صراع الآلهة – بحسب تعبير الجنرال شارل ديغول – ومصالح الجماعات وصراع الأصوليَّات والصِّراعات الإقليميَّة على السَّاحة اللُّبنانيّة. اصطدمَ الكاتب بمقولة جورج نقَّاش التَّاريخيَّة والَّتي أدخلته يومها إلى السِّجن: «مضادَّان لا يبنيان أمَّة» (Deux négations ne font pas une nation).
في الكتاب يطرح المؤلِّف دور الطَّائفيَّة وتأثيرها في مفهوم الدَّولة المُعاصرة، مُشدِّدًا على وجوب أن تندرج حقوق الطَّوائف في نطاقِ مصلحةِ الوطن.
«Cette pratique politique est forcément source de conflit et de problème. D’abord, elle est conflictuelle, car elle crée une situation de confrontation permanente entre les représentants des confessions les plus puissantes sur la base de la lutte pour les droits confessionnels au pouvoir. Cependant, les confessions moins puissantes se sentiront marginalisées et lésées… Mais comme il est difficile voire impossible de définir le bien d’une confession dans le contexte libanais, cette revendication se voit réduite aux intérêts personnels des dirigeants qui d’une certaine manière se transforme en symbole sacré des droits de leur confession»[1]. t
نتيجة لذلك، نشأت ديناميَّة صراعِ الطَّوائف الَّتي نظرت إلى مصلحة الطَّائفة قبل مصلحةِ الوطن. وقد دفعت النُّخب الفكريَّة ثمنًا باهظًا لهذا الصِّراع، بحيث أصبحت المراكز العامَّة حكرًا على المتشدِّدين والمتعصِّبين، وهم غالبًا لا يملكون الكفاءة، على حساب أهل العلم والاختصاص والنَّزاهة.
عوَّلَ المؤلِّف على ثورة السَّابع عشر من تشرين الأوَّل من العام 2019، وعلى دور الشَّباب في إحداث التَّغيير المنشود ولكن من دون طائل. انتهت الثَّورة كما ظهرت سريعًا، وعادت الإقطاعيَّات السِّياسيّ ة إلى سابق عهدها.
أثار المؤلِّف أيضًا موضوع التَّحالفات غير الطَّبيعيَّة بين مختلف الأحزاب السِّياسيَّة، والَّتي لم تُسفِر عن أيّ نتائج إيجابيَّة على الصَّعيد الوطنيّ. وهذا الأمر ليس غريبًا، حيث المصالح تتقدَّم على المبادئ، فالمصالح دائمة والصَّداقات مؤقَّتة،[2] وطرحَ بالمقابل موضوع تعميم الدِّيموقراطيَّة حلًّا للمعضلات المذهبيَّة والطَّائفيَّة المتحجِّرة.
«Quelle issue pour le Liban? Le début d’un changement résiderait dans l’acceptation d’une critique objective des expériences historiques des différentes confessions et de leurs doctrines théologico-politiques à la lumière des exigences de l’État démocratique; cela reste évidemment un défi énorme. Pourtant une deuxième issue existe aussi: c’est la diffusion systématique de la culture démocratique déjà présente dans la société libanaise»[3]. t
وللأسف الشَّديد، أظهرت تجربة الدِّيموقراطيَّة في العالم العربيّ من خلال «الرَّبيع العربيّ» خيبة أملٍ كبيرةٍ، بحيثُ إنَّ هذا الرَّبيع لفظَ أنفاسَهُ الأخيرة مع عودة ظاهرة الانتخابات الرِّئاسيَّة بمعدّلاتٍ تفوقُ التِّسعين بالمئة. أمَّا أسباب فشل هذه التَّجربة الفريدة، الَّتي لن تتكرَّر قبل وقتٍ طويلٍ، فتعود إلى أسباب ذكَرها الكاتب، وتعود إلى دور الدِّين في العالم العربيّ وتحكُّمِ الطَّبقات السِّياسيَّة (المتسلِّطة) وخوف الطَّبقات المتوسِّطة، الَّتي تُمثِّلُ الأمل الوحيد في التَّغيير، من التَّداعيات الفكريَّة والاجتماعيَّة والأمنيَّة على واقعها. وقد تخاذلت النُّخب الفكريَّة أمام الحركات الدِّينيَّة المتطرِّفة وأقنعت نفسها بما أطلقت عليه لقبَ الاعتدالِ الدِّينيّ الَّذي لا يُغيِّرُ شيئًا من واقعِ الحال[4]. وحاول المؤلِّف في مقاربتهِ النَّقديَّةِ إيجاد الحلّ من طريق الاستشهاد بالإرشاد الرَّسوليّ الَّذي أصدره البابا الرَّاحل القدِّيس يوحنَّا بولس الثَّاني:
«Parce qu’il est composé de plusieurs communautés humaines, le Liban est regardé par nos contemporains comme une terre exemplaire. En effet, aujourd’hui comme hier, sont appelés à vivre ensemble, sur le même sol, des hommes différents sur le plan culturel et religieux, pour édifier une notion de dialogue et de convivialité et pour concourir au bien commun»[5]. t
إنَّ نظرة نقديَّة إلى هذه الدَّعوة تُظهر أنَّ الطَّوائف اللُّبنانيّة تتعايش بشكلٍ جميلٍ على صعيد العمل، والعلاقات الاجتماعيَّة، ولكنَّ الأمور تتعقَّد كثيرًا عندما تصل إلى النَّواحي الدِّينيَّة والسِّياسيّ ة حيثُ تظهر خلافات جذريَّة بشأن الهويَّة الوطنيَّة.
ويرى المؤلِّفُ أنَّ الإرشاد الرَّسوليّ يدعو إلى التَّرقّي إلى حدود العمل للمصلحة العامَّة (bien commun) الَّذي هو مصدر شرعيَّة السُّلطة السِّياسيّ ة والأخلاقيَّة، والخضوع لدولة القانون.
«Somme toute le bien commun a pour fin et la personne et l’ensemble des hommes. En se souciant donc du bien de «tous», le bien du «particulier» n’est pas nié, bien au contraire, il se réalise pleinement dans le bien de tous. En dehors de ces fondements, toute pratique politique n’est qu’un malheur!»[6]. t
وبينما يشدِّد المؤلِّف على دور المواطنة في تحقيق الخير العامّ، تظهر مرَّة أخرى إشكاليَّة تحديد الهويَّة الوطنيَّة الَّتي نصَّ عليها الميثاق الوطنيّ، والَّتي عدَّلها اتِّفاق الطَّائف. وهنا نتساءل كيف يمكن وطنًا أن يكون ذا وجهٍ عربيٍّ ويُصبحَ عربيًّا أصيلًا في أقلّ من خمسين عامًا؟
مرَّة أخرى لم يتراجع المؤلِّف أمام صعوبة «الحالة اللُّبنانيّة» داعيًا إلى تحقيق العقل والمنطق وحُسن النَّوايا لإيجاد صيغة تعايش وطنيّ تخدم الإنسان.
«Cette évolution peut-être réalisée principalement par une critique objective, scientifique et audacieuse de l’histoire négative qui lie les différentes confusions ainsi que des conséquences néfastes de la coexistence actuelle»[7]. t
وفي إطار استشرافه الواقع اللُّبنانيّ، استعرضَ الكاتب، بمقاربة نقديَّة ثاقبة وبعيدًا من المجاملة، واقع الإسلام السِّياسيّ في المنطقة بدءًا من ابن تيميَّة حتَّى الثَّورة الخمينيَّة في إيران، مُظهرًا التَّحدِّيات الَّتي واجهت، وما تزال، العالمَ الإسلاميّ منذ البداية وإشكاليَّة العلاقة بين التَّقليد والحداثة، ودور الدِّين على الصَّعيدَين الشَّخصيّ والسِّياسيّ ، رابطًا التَّجدُّد الإسلاميّ بمقاربة الواقع الإسلاميّ النَّقديَّة من مختلف جوانبه.
«Quelle que soit la forme qu’il revit, l’islam politique est principalement une réaction, à la fois, à la modernité occidentale à la suprématie et à la politique étrangère, d’une part, et à l’échec politique des régimes locaux dans tous les domaines, d’autre part. Cependant, en tant que mouvement intellectuel, l’islam politique est resté prisonnier du cadre traditionnel de la pensée religieuse islamique. Or, aucune rénovation ou modernisation ne peut être obtenue sans une critique sérieuse de l’éthos islamique, c’est-à-dire l’ensemble des croyances des idéaux et des modèles de comportement qui forment l’esprit des gens»[8]. t
إنَّ إشكاليَّة بناء الدَّولة الحديثة مطروحة منذ استقلال بلدان العالم الثَّالث منذ أواخر خمسينيَّات القرن الماضي وصولًا إلى اليوم. وخلاصة القول إنَّ معظم هذه الدُّول أصبحت دولًا مارقة (failed states) ولم تتمكَّن من تأمين مستوى لائقٍ لمواطنيها. ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ أنماط تقدُّم الدُّول مرتبطة بالنَّموذج الأوروبيّ والغربيّ الَّذي تُجسِّده أدبيَّات العالِم الألمانيّ ماكس فيبير Max Weber الَّذي تحدَّث عن البيروقراطيَّة والتَّسلسل العاموديّ للدَّولة من الأعلى إلى الأسفل، والحياد الوظيفيّ، وهي غير متوافرة في بلدان العالم الثَّالث، حيث تسود العصبيَّة والقبليَّة وحُكمُ الأقليَّة المتسلِّطة على موارد الدَّولة للأكثريَّة. وعلى الرُّغم من وجود طبقة مثقَّفة وراقية في لبنان، فالوضع لا يختلف كثيرًا عن واقع الإدارة العامَّة مع معظم الدُّول النَّامية. أمَّا الأسباب فهي متنوِّعة، وأبرزها جنوح نظام التَّعليم في مختلف مراحله باتِّجاه القطاع الخاصّ، وإهمال كلِّ ما يتعلَّق بالقطاع العامّ الَّذي يُنظَر إليه بدونيَّة. لم تستطع هذه النُّخب الجامعيَّة أن تفهم أنَّ نجاح القطاع الخاصّ مرتبط بنجاح القطاع العامّ وثباته.
لقد طرحَ المؤلِّف الأب أبو جوده حلولًا عديدة للنُّهوض بالدَّولة وبالوطن، منطلِقًا من تعاليم الكنيسة والسِّينودس والتَّحليل العقلانيّ في مقاربةٍ مِلؤها الإيمان والمهنيَّة والعقلانيَّة ومحبَّة الغير والإخلاص للوطن. بيد أنَّ الطُّروحات تسقط أمام قلاع الجهل والتَّخلُّف والأنانيَّة ومصالح الطَّبقة الحاكمة والفاسدين والمُفسدين، مع ملاحظة أنَّ طروحات العلمانيَّة والقوميَّة العربيَّة والثَّورات الإسلاميَّة على نمط «الإخوان المسلمين» أو «الثَّورة الخمينيَّة» في إيران لم تؤدِّ إلى نهوض هذه الدُّول بل ازدادت تخلّفًا بالمعنى الحضاريّ للكلمة وتراجَع مستوى المعيشة فيها، وازدادَ شعور مواطنيها بالقهر الَّذي دفع بِخيرة الأجيال إلى الهجرة نحو الغرب، واضعين معارفهم وعلومهم في خدمة هذا الأخير. كما أنَّه لا يمكن تجاهل تأثير الدُّول الإقليميَّة السَّلبيّ في السَّاحة اللُّبنانيّة، حيث سارعت معظم الجماعات (communautés) اللُّبنانيّة إلى التَّودُّد إليها سعيًا إلى كسب صداقتها، وتوظيف ذلك في زيادة نفوذها في لبنان على حساب الجماعات والطَّوائف الأخرى في الوطن.
وفي هذا الإطار، فإنَّ الحلول قد تكون «عمليَّة» وليس أيديولوجيَّة. فاتِّفاقيَّة الطَّائف نصَّت على اعتماد اللَّامركزيَّة الإداريَّة على صعيد القضاء، والَّتي تشكِّل – بعكس الفيدراليَّة – مدخلًا لتخفيف الصِّراع والتَّشنُّج بين مختلف الطَّوائف في لبنان، لأنّه توجد ضرورةٌ ملحَّة إلى التَّخفيف من المركزيَّة الشَّديدة الَّتي تُعطِّل أقلّ القرارات أهمِّيَّة من خلال إدخالها في آتون الصِّراع بين هذه الطَّوائف على السُّلطة. أضف إلى ذلك أنَّ المسألة اللُّبنانيّة مرتبطة بقيام صحوة إسلاميَّة مُعاصرة عقلانيَّة ونقديَّة صارمة تُعيد قراءة الماضي في ضوء الواقع الحضاريّ المُعاصر. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ العمل من أجل تحديد الهويَّة الوطنيَّة اللُّبنانيَّة وقيام المواطَنة الصَّالحة يبقى من المحطَّات الرَّئيسة للإصلاح السِّياسيّ في لبنان.
يزخر الكتاب بالكثير من التَّحليلات العميقة والدَّقيقة، وأكثر ما نستشفُّه منه السَّعي الدَّؤوب لاستشراف الواقع اللُّبنانيّ، وإيجاد حلول تدفع بهذا الوطن نحو التَّقدُّم والرُّقيّ بحيث يُصبح وطنًا للإنسان وللإنسانيَّة.
[1] Salah Aboujaoudé, Le Liban en turbulence : Naviguer entre identités confessionnelles et enjeux régionaux (Beyrouth: Dar El Machreq, 2024), p. 44. t
[2] We have no permanent friends, we have no permanent enemies. We have permanent interests, https://www.quotetab.com/quotes/by-benjamin-disraeli. t
[3] Aboujaoudé, Le Liban en turbulence, p.61. t
[4] إشارة هنا إلى أنّ العديد من طلَّاب الدُّكتوراه العرب، الَّذين أشرف على أطاريحهم، يعارضون الدِّيموقراطيَّة، مفضِّلين عليها الأنظمة الدِّيكتاتوريَّة البائدة.
[5] Exhortation apostolique signée par Jean Paul II, citée dans: Aboujaoudé, Le Liban en turbulence, p.44. t
[6] Aboujaoudé, Le Liban en turbulence, p.45. t
[7] Aboujaoudé, ibid., p.14. t
[8] Aboujaoudé, ibid., p.150. t
الدُّكتور جورج لبكي: رئيس مجلس إدارة ومدير المعهد الوطنيّ للإدارة. حائز شهادة دكتوراه في القانون من السُّوربون، وأخرى في الأدب الفرنسيّ المعاصر من جامعة باريس XII. من مؤلَّفاته باللُّغة الفرنسيَّة: أنثولوجيا، والأدب اللُّبنانيّ باللُّغة الفرنسيَّة، ولبنان: قصص من حنايا بلاد الياسمين.