اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

ثاودورُس أبو قُرَّة

مَيمَر في الحرِّيَّة

قدَّم له الأب پيير مصري
ط.1، 94 ص. بيروت: دار المشرق، ٢٠٢٤
ISBN : 978-2-7214-5668-7

ثاودورُس أبو قرَّة المولود في الرُّها، هو أحد آباء الكنيسة الَّذي عاش ما بين أواسط القرن الثَّامن وأوائل القرن التَّاسع. اعتنق الحياة الرَّهبانيَّة في دير مار سابا (فلسطين) ثمّ أصبح أسقف حرَّان (تركيَّا حاليًّا) الملكيّ. كتب مؤلَّفاتٍ في اللُّغتَين العربيَّة واليونانيَّة للدِّفاع عن الإيمان المسيحيّ في وجه المسلمين واليهود والمانويِّين، وعن التَّعاليم الخلقيدونيَّة في وجه النَّساطرة والمونوفيزيِّين (أو أصحاب المشيئة الواحدة).

في هذا المَيمر – أو القصيدة التَّعليميَّة – المُدَوَّن بالعربيَّة والأوسع شهرةً من بين مؤلَّفاته، يدافع عن الموقف المسيحيّ في مسألة العلاقة بين قدرة الله وإمكانيَّة الإنسان على الاختيار، وكان «أوَّل من استخدم في اللُّغة العربيَّة لفظة الحرِّيَّة بالمدلول الشَّخصيّ، لا الاجتماعيّ» (ص.٦).

في الجزء الأوَّل، ينتقد القائلين في «الجبل»، أي أنَّ الله الخالق لم يمنح الإنسانَ الحرِّيَّة أو القدرةَ على الاختيار. يسأل الكاتبُ كيف يكون الله عادلًا في دينونة المخلوق إذا كانت حياةُ هذا الأخير مرسومةً مسبقًا؟ فيجيب في تشبيهٍ للدَّلالة على تفاهة آراء مخاصميه: «ما هذا إلَّا كمن يقول للحمار: يا حمار، طِرْ مُحلِّقًا في الجوّ كما يطيرُ العقابُ. فإذا لم يفعل ذلك، ضربه» (ص.٥٠). في الجزء الثَّاني، ينتقد أتباع ماني المُنادين بالقهر، أيْ أنّ «الجسد قد غلب على النَّفس وقهرها» (ص.٥٨)، فأصبحت مُضطرَّة إلى اتِّباع شهواته. وفي هذه المسألة، يرتكز المؤلِّفُ على عدالة ﷲ الَّذي أمر الإنسانَ بالخير ونهاه عن الشَّرّ. إذا كانت النَّفس عاجزةً عن الامتناع عن الشَّرّ، فالأمر يشبه «رجلًا عمد إلى عُقابٍ قد أُوثقت أجنحتُه بالحبال الثَّخينة إلى جنبه، فقال له: طِرْ! من غير أن يفكَّ عنه وِثاقَه» (ص.٥٩). في مقاربته يعتمد أبو قرَّة أوّلًا على الكتاب المُقدَّس، ويلجأ أيضًا إلى الصُّور الشِّعريَّة والفكاهة، ولا بدَّ للقارئ من أنْ يلمس شغفه بالإيمان بالمسيح. إنّها فرصةٌ ليكتشف القارئ العربيّ نصًّا مميَّزًا من التُّراث العربيّ المسيحيّ.

أمَّا أهمِّيَّة المؤلَّف فليست في مضمون صفحاته وحسب، بل في الدَّافع إلى طباعته. فهو نُشرَ في السَّابق مرَّتَين: المرَّة الأولى على يد الأب قسطنطين الباشا في العام ١٩٠٤، والثَّانية على يد الأب سمير خليل في العامَين ٢٠٠٥ و٢٠٠٦. أمَّا الطَّبعة الثَّالثة فحقَّقها وقدَّم لها الأب پيير مصري، خادمُ رعيَّة الملاك ميخائيل للرُّوم الكاثوليك في حلب، والباحث في حقل التُّراث العربيّ المسيحيّ، والأستاذ في جامعات عديدة. في الدِّراسة التَّمهيديَّة (ص.٥-٣٩)، فسَّر الأب مصري، الَّذي راجع المخطوط الأقدم في دير القدِّيسة كاترينا، الحاجة إلى طبعةٍ جديدة «لأنَّنا لا نزال نفتقر إلى نصٍّ مُحقَّقٍ بحسب القواعد المنهجيَّة لتحقيق المخطوطات العربيَّة» (ص.٩)، فإنَّ الأب الباشا لم يتردَّد مثلًا في تغيير النَّصّ الأصليّ بالحذف أو الإضافة أو التَّعديل في الصِّياغة أو تبديل المفردات. كشف الأب مصري عن التَّغييرات في نسخته وبرَّر خياراته في حالات التَّردُّد بين كلمتَين (مثلًا: بين الجَبْر والجَبْل، وبين صِبْغة أو صُنْعة) «من دون أن يعني ذلك نفي إمكانيَّة صحَّة القراءة السَّابقة» (ص.٢٨)، فأظهر في مبادرته في آنٍ عن الصَّلابة الأكاديميَّة في طلب الدِّقَّة العلميَّة، وعن تقدير أعمال مَن سبقوه من دون غضّ الطَّرف عن نواقصها، فكان نموذجًا في البحث الجدِّيّ عن الحقيقة.

الأب غي سركيس: حائز درجة الدُّكتوراه في اللَّاهوت من الجامعة اليسوعيَّة الغريغوريَّة الحبريَّة (روما). أستاذ محاضر في جامعتَي القدِّيس يوسف، والحكمة. وهو كاهن في أبرشيَّة بيروت المارونيَّة. له مجموعة من المؤلَّفات الدِّينيَّة والتَّأمُّليَّة والفكريَّة في اللَّاهوت المسيحيّ، وحوار الأديان والحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبعضها من إصدار دار المشرق (نوبل للسَّلام… لمن؟، أؤمن… وأعترف، قراءة معاصرة في الإيمان المسيحيّ، وإيمان في حالة بحث – النَّشاط اللَّاهوتيّ في المسيحيَّة، ودروس من الهرطقات، ودليل المنهجيَّة في أبحاث العلوم الإنسانيَّة – طرائق البحث الجامعيّ في اللَّاهوت والفلسفة).

[email protected]

Share This