اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

يوهان بابتيست ماتس

فقر الرُّوح، ألم البشر وآلام المسيح

تعريب الأب باسم الرَّاعي
ط.1، 88 ص. بيروت: دار المشرق، 2024
ISBN: 978-2-7214-5667-0

 

كُتيِّب صغيرٌ في حجمه، ثقيلٌ في مضمونه. جان بابتيست ماتس لاهوتيّ ألمعيّ مشهور، خصوصًا في مجال اللَّاهوت السِّياسيّ . وهذا الكتاب يضمّ نصَّين له. يقدِّم ماتس نصَّه الأوَّل الَّذي عَنونه: «فقراء الرُّوح» على النَّحو الآتي:

«هذا الكتاب هو بمثابة اختبار، بحكم أنَّه يجمع بين دفَّتيه نصَّين يعودان إلى ما يناهز الخمسين سنة، يمثِّلان بعضًا من منعطفات مسيرتَي اللَّاهوتيَّة، وهما من طبيعةٍ روحيَّةٍ تأمُّليَّةٍ صرفة، تتشابك فيهما وفي كلّ واحدٍ منهما خبرة الإيمان واللَّاهوت» (ص.19).

صدر هذا النَّصّ لأوَّل مرَّة في العام 1961، والنَّصّ المترجم إلى العربيَّة هو نسخة معدَّلة قام الكاتب بتعديلها لاحقًا، فحذف فيها «مبدأين قريبَين من سلوكٍ فرِّيسيٍّ – مسيحيٍّ نمطيّ» (ص.20).

أمَّا النَّصّ الثَّاني فهو أحدث، وتعود جذورُه، بحسب ما يقوله الكاتب، إلى العام 2006، وعنوانه «الألم والآلام» (العنوان في الطَّبعة العربيَّة: ألم البشر وآلام المسيح).

يبدأ النَّصّ الأوَّل بقصَّةِ تجارب يسوع كما وردت في إنجيل متَّى، ليعالج بعدها مسألة الوجود، والكينونة، والحرِّيَّة. عناصر ثلاثة موجودة في الإنسان في حالة صراعٍ غالبًا. فمِن تجارب يسوع يستخلص الكاتب صراع الإنسان مع ذاته ومع ﷲ بسبب صراع العناصر الثَّلاثة الآنف ذكرها؛ الإنسان يريد أن يكون محورًا لذاته، فيقع في فقرٍ مدقع. وبالمقابل، يقدِّم الكاتب يسوع، الشَّخص الَّذي اقتبل ذاته بفقرها، ووقف إلى جانبنا كي نصعد بجهد قلبه المحتوم إلى نور «النِّعم» الكبرى. يسوع الَّذي لا يقدّم إلينا ﷲ مُنافسًا للبشر بل ضامنًا وحيدًا لحالتنا البشريَّة.

الإنسان يختبر في حياته العَوز، ويسعى إلى سدِّه بطرائق مختلفة، والكاتب يُبيّن بطلان هذه الطَّرائق، ويدعوه إلى قبول العوز الَّذي فيه، فهذا القبول يسمح ﷲ بأن يسدَّ العوز بنِعمه. وهذا ما يُسمَّى باللُّغة الرُّوحيَّة: فقر الرُّوح.

«في فقر حالنا الإنسانيَّة الجذريّ هناك شيءٌ من مقاومة ذاتيَّة، بحيث يُترك الإنسان بدون سند وظهره للحائط، وتتصدَّع معاقل الحماية الذَّاتيَّة، وتُنْزَع عنه أفق حياته اليوميَّة المألوفة والموثوق بها والمختبرة طويلًا. لذلك لا يستطيع الإنسان العيش بعيدًا عن حقيقة كينونته، وإلَّا ابتعد عنها باعتبارها «شيئًا» أي يبتعد عن لا نهائيَّة فقره، اللَّامحصور والمُلِحّ» (ص.45)

بعد ذلك يستعرض الكاتب أشكال الفقر البشريّ، ويخصِّص لما يسمِّيه «فقر العبادة» مقطعًا كاملًا.

النَّصّ الثَّاني: «ألم البشر وآلام المسيح»، يعرض فيه الكاتب موضوع التَّعاطف والمؤازرة في الألم، ويبيِّن أنَّه يتطلَّب زُهدًا يجعل الإنسان يترك ذاته ويلتفت إلى قريبه ليسمع صرخة ألمه. وينطلق الكاتب من آلام المسيح ومعناها، ليصل إلى ما تُعلِّمنا إيَّاه هذه الآلام عن المؤازرة، وسماع صرخة المتألِّمين؛ ويُنهي بتساؤلَين موجَّهَين، واحد للكنيسة وآخر للمسيحيِّين، عن الموقف الَّذي يجب اتِّخاذه تجاه آلام البشر في عالمنا اليوم.

قلت في البداية، الكتيِّب صغير الحجم، ثقيل المضمون. ماتس ينتمي إلى جيل اللَّاهوتيِّين الأوروبيِّين الَّذين يدعون إلى ترك اللُّغة التَّجريديَّة الجافَّة، والمصطلحات العقلانيَّة الفكريَّة المعقَّدة، واستعمال لغة الواقع البسيطة السَّهلة. كان هذا حلمه، ولكنَّه، وكثيرين من أبناء جيله، لم يوفَّقوا في تحقيقه بكتاباتهم قطّ، أقلُّه العقائديَّة منها. فالفارق في سهولة الفهم، أو بالحريّ صعوبة الفهم، بين النَّصَّين واضحة. الأوَّل عسير على الرُّغم من الجهود المبذولة لتبسيط ترجمته، في حين أنَّ الثَّاني أبسط، أو بتعبير أدقّ، أقلّ عسرًا. وهذا يبيِّن ثمار جهود ماتس في إعلان حقيقة الإيمان ببساطةٍ ذروتها بساطة المسيح في تعاليمه.

الأب سامي حلَّاق اليسوعيّ: كاتب وباحث، ومدرّس في جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له مؤلّفات وترجمات عدّة منشورة، بالإضافة إلى مقالاتٍ بحثيّة في مجلّة المشرق.
[email protected]
Share This