تُعدُّ الحروب واحدةً من أقدم الظَّواهر وأبشعها الَّتي عرفتها البشريَّة، وتترك آثارًا عميقة على المجتمعات والأفراد. وعلى الرُّغم من التَّقدُّم الَّذي أحرزته البشريَّة في مختلف المجالات، إلَّا أنَّ الحروب لا تزال تفتك بالبشر وتدمِّر الحضارات. وما يجري على أرض لبنان وغزَّة وأوكرانيا والسُّودان وبلدان أخرى من تدميرِ الحضارات وعماراتها الثَّقافيَّة وتسويتِها بالأرض، عدا عن إزهاق الأرواح البريئة، يؤكِّد عبثيَّة الحروب وانتهاكها حقَّ الإنسان الأساسيّ في الحياة.

كلُّنا يعلم رأيَ الفيلسوف توماس هوبز في الطَّبيعة البشريَّة وفي منشأ الحروب. ففي كتابه الشَّهير «اللفياثان» (1651 – Leviathan) يصف الفيلسوف الإنجليزيّ حالة الطَّبيعة البشريَّة بأنَّها «حرب الكلِّ ضدَّ الكلّ»، حيث يسعى كلُّ فرد إلى تحقيق مصالحه الخاصَّة، وكلُّ جماعة من أجل الوصول إلى تحقيق مآربها الفئويَّة من دون قيود. ولتجنُّب هذه الحالة الفوضويَّة، يرى هوبز أنَّ البشر بحاجة إلى عقد اجتماعيّ لتكوين دولة قويَّة تحافظ على الأمن والاستقرار. وبينما يركِّز هوبز على دور الدَّولة في الحفاظ على السَّلام، ينفتح المجال على اندلاع العنف، فتسلِّط أفكارُه الضَّوء على العواقب الوخيمة للحروب والصِّراعات.

أمَّا الفيلسوف الألمانيّ إيمانويل كانط فيرى أنَّ الحرب هي حالة غير طبيعيَّة للإنسان، وأنَّ العقل يُملي علينا السَّعي إلى السَّلام، معتبرًا أنَّ «قانون الحرب» يتضمَّن إشكاليَّة مزدوجة من حيث أساسه. فالحرب لا تحدِّد القانون، ولا تملك قوَّة القانون – من حيث تطبيقه – لأنَّنا لا نستطيع أن نستنتج القانون من الواقع. ويقول إنَّ العقلانيَّة هي السَّبيل الوحيد لتحقيق السَّلام الدَّائم بين الدُّول. فهو يدعو إلى تأسيس مجتمعٍ دوليٍّ قائمٍ على القانون والعدالة، حيث تتمُّ تسوية الخلافات بالطُّرق السِّلميَّة.

أمَّا البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكيَّة، فيشدِّد باستمرار على أهمِّيَّة السَّلام والعدالة في العالم، معتبرًا الحروب عبثًا مطلقًا ومأساة إنسانيَّة وهزيمة للبشريَّة لا يمكن تبريرها، داعيًا إلى الحوار والتَّفاهم بين الشُّعوب. يرى البابا أنَّ كلَّ إنسان هو عطاء إلهيّ وذلك ما تقوله الأديان، وفي المسيحيَّة هو ابن الله، وبالتَّالي فإنَّ قتل أيِّ شخص هو انتهاك لحرمة الحياة. كما يؤكِّد ضرورة العمل من أجل بناء عالَمٍ أكثر عدلًا ومساواة، حيث يتمتَّع الجميع بحقوقهم الأساسيَّة، بما في ذلك الحقُّ في الحياة.

وهكذا فإنَّ الحروب، أكانت من الطَّبيعة أم لا، هي عبثيَّة لأنَّها لا تحقِّق أيَّ فائدة حقيقيَّة للبشريَّة بل تقضي على الحياة الفرديَّة والثَّقافات لا بل الحضارات، إذْ تدمِّر الممتلكات والبنية التَّحتيَّة، وتقتل الأبرياء، وتشرِّد الملايين، وتؤدِّي إلى الكراهية والانتقام. كما أنَّها تستهلك الموارد الَّتي يمكن استخدامها لتحسين حياة النَّاس. ويبقى القهر على مَن غادروا، ضحايا، من كلِّ وطنٍ وبلاد شاركوا في الحرب، بينما السَّعادة تغمر تُجَّار السِّلاح، وحدَهم، فاقدي الضَّمير والدِّين.

إنَّ الحقَّ في الحياة هو حقٌّ أساسيّ لكلِّ إنسان، وهو حقٌّ غير قابل للتَّفاوض. والحروب هي انتهاك صارخ لهذا الحقّ. فكلُّ إنسان له قيمة وكرامة، ويجب احترامهما.

وبما أنَّ الدِّين والفلسفة يتَّفقان على أنَّ الحروب هي شرّ، وأنَّ السَّلام هو الهدف الأسمى للإنسانيَّة، فعلى الجميع أن يعملوا على إنهاء هذه الحروب بالتَّربية. فالأديان السَّماويَّة تدعو إلى المحبَّة والسَّلام، والفكرُ الإيجابيّ وحده، ضمن الحوار واحترام القانون وأسس العدالة وتهميش العصبيَّات الدِّينيَّة والقوميَّة، يقدِّم إلينا أدوات التَّفكير النَّقديّ لمساعدتنا على فهم أسباب الحروب وإيجاد حلول لها.

 

الأب سليم دكَّاش اليسوعيّ: رئيس تحرير مجلَّة المشرق. رئيس جامعة القدِّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتِّحاد الدَّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز شهادة دكتوراه في العلوم التَّربويَّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، وشهادة دكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السُّوربون 1 (1988)، ويدرِّس فلسفة الدِّين والحوار بين الأديان والرُّوحانيَّة السِّريانيَّة في كلِّيَّة العلوم الدِّينيَّة في الجامعة اليسوعيَّة.

            [email protected]

Share This