اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

Ali Mostfa, Roula Talhouk, Michel Younès
Islam et altérité Analyses, réflexions et défis contemporains

ط.1، 292 ص. بيروت: دار المشرق، 2024
ISBN: 978-2-7214-6037-0

 

للأديان دور كبير في عصرنا الحاضر على الرّغم من انتشار العلمانيّة، بخاصّة في الدّول الغربيّة، وابتعاد الكثيرين عن تلك الأديان، والتّقدّم العلميّ والتّكنولوجيّ والانتشار الواسع للفكر النّقديّ. وأبرز أسباب انتشار الدّين الواسع أنّ الدّين يرسم تصوّرًا كاملًا لحياة الإنسان من وقت ولادته وحتّى موته وأبديّته. بالإضافة إلى أنّ الأديان التّوحيديّة تؤمّن بأنّها الطّريق الوحيد لنيل نعمة الخلاص. ولحسن الحظّ فإنّ نافذة صغيرة بدأت تنفتح وتدفع باتّجاه قبول الآخر وإقامة حوار معه، ومحاولة إيجاد قواعد مشتركة تسمح بِتلافي الصّراعات والإرهاب والتّقاتل الّذي يستعِر منذ مئات السّنين.

وقد كانت الكنيسة الكاثوليكيّة السّبّاقة في مدّ جسور الحوار بين الأديان من خلال المجمع الفاتيكانيّ الثّاني الّذي انعقد في ستينيّات القرن الماضي، وصدرت عنه تعاليم جدّدت التّعليم الكاثوليكيّ واعتبرت أنّ الأديان الأخرى يمكن أن تقود، ولو بطريقة تفتقر إلى النّعمة، إلى الخلاص. وتوالت بعد ذلك المؤتمرات وحلقات الحوار الّتي هدفت إلى إيجاد وسائل التّعاون والانفتاح بين الأديان. من هنا فإنّ مداخلات المؤتمر الّذي يحمل عنوان «الإسلام والآخر: تحليل، تأمّل، وتحدّيات معاصرة»، والتّي وثّقها هذا الكتاب، تهدف إلى دراسة العوامل الاجتماعيّة واللّاهوتيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والتّربويّة والتّاريخيّة الّتي طبعت رؤية الإسلام إلى الأديان الأخرى وبشكلٍ خاصّ المسيحيّة واليهوديّة وحتّى البوذيّة.

بدايةً، يؤدّي الآخر دورًا محوريًا في بناء الهويّة الذاتيّة، فهو الخصم والمنافس الّذي يحاول الفرد السّيطرة عليه أو إظهار التّفوّق على كلّ طروحاته.

“La construction de l’identité se fait alors dans un rapport d’altérité. Cette construction identitaire n’échappe pas à une logique d’opposition vis-à-vis de l’Autre. “Le Moi se pose en s’opposant”[1]. t

لذلك يمكن الاستنتاج أنّ مجد جماعة دينيّةٍ ما، وجزءًا كبيرًا من تاريخه،ا مرتبطان بصراعها مع الأديان الأخرى من خلال الشّهادة والاستشهاد، وما يتبعها من تمجيد للشّهداء وتضحياتهم وبطولاتهم الّتي تطبع الذّاكرة الجماعيّة. والدّليل على ذلك، أنَّ أبرز التّحدّيات الّتي يواجهها العالم الإسلاميّ اليوم ترتبط بنموذج الحضارة الغربيّة وأبرز صفاتها كالدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان والمواطنة والمساواة بين جميع المواطنين بالحقوق والواجبات من دون أيّ تمييز عرقيّ أو دينيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ، وحقوق المرأة ومساواتها بالرّجل والعلاقة بين الدّين والسّياسة والعلمانيّة وغيرها من إشكاليّات الحداثة الّتي انطلقت في أوروبا منذ القرن الخامس عشر. تناول المشاركون في المؤتمر كلّ هذه المحاور من خلال النّصوص الدّينيّة كالقرآن والسّنّة والأحاديث والفقه والاجتهاد والواقع السّياسيّ الحاليّ.

وقد شكّل موضوع الخلاص لغير المسلمين أحد المحاور الأساسيّة في المؤتمر من خلال ورقة بحثيّة تحمل عنوان: هل يمكن الكافر أن يخلُص ويدخل الجنّة؟ وما يزال هذا الموضوع مصدرًا للكثير من التّأويل لدى علماء المسلمين. ولعلّ الانتقادات الكثيرة، الّتي تعرّض لها المفتي السّابق للأزهر الشّيخ علي جمعة لقوله إنّ المسيحيّ يمكن أن يدخل إلى الجنّة، كادت أن تصل إلى حدّ تكفيره. وتناولت إحدى المداخلات موقف القرآن والفقه والاجتهاد ومواقف الفرق الإسلاميّة المختلفة كالمعتزلة وغيرها من هذا الأمر، وكذلك موقف ابن تيميّة والغزالي من الأمر الشّائك من دون أن يصل إلى نتيجة بسبب دقّة الموضوع والتّفاسير والمواقف الفقهيّة بهذا الشّأن ممّا يُبقي الأمر موضعَ نقاش في المستقبل.

“From the Qur’anic perspective, Christians are not to despair, they are to live (as Muslims are as well) in fear of divine judgment.”[2]

وقد شكّل موضوع العلاقات التّاريخيّة بين الإسلام والمسيحيّة محورًا أساسيًّا من محاور المؤتمر. في الواقع، اتّسمت هذه العلاقات بفترات من التّعاون وقبول الآخر تقابلُها فترات صراع لا تزال أصداؤها تتردّد حتّى يومنا هذا، من دون أن تفلح سياسة الانفتاح على الآخر في تجاوزها. من هنا ضرورة الغوص بعمق وعقلانيّة وإيجابيّة في هذه التّراكمات وتلافي التّنميق والتّجميل الّذي لا ينفع.

“Par-delà l’appel à la fraternité qui en soi est une bonne manière de considérer l’autre, il s’agit de décrypter et de déconstruire les regards négatifs vis-à-vis de l’autre, très souvent légitimés théologiquement pour asseoir une compréhension de soi, du monde et de Dieu. Si le défi est de transformer la logique de concurrence ou la prétention de rectifier les autres considérés comme hérétiques ou déviants, en entrant dans une logique d’enrichissement mutuel, impliquant d’effacer la prétention de connaître l’autre indépendamment de lui-même, et si l’enjeu est d’éviter de justifier ma vérité en dénigrant celle de l’autre, le moyen pour y parvenir réside dans le travail sur le statut que j’accorde à l’autre…”[3]. t

ومن جهةٍ أخرى، فإنّه من المهمّ التّركيز في العلاقة مع الآخر على موضوعات حقوق الإنسان، والمساواة بين الرّجل والمرأة، والمواطنة.

بالنسبة إلى حقوق الإنسان، وتحديدًا الإعلان العالميّ في هذا المجال، وهو يمثّل كُنه التّفكير الغربيّ المتقدّم، فقد حاول المفكّرون المسلمون، مثل محمّد البسيوني وطاهر القادري، إيجاد إعلان إسلاميّ لحقوق الإسلام بالعودة إلى التّعاليم الإسلاميّة لإيجاد شيء مشابه يستطيع مجاراة تقدّمِ الغرب في هذا الشّأن. ولكنّ كلّ هذه الاجتهادات في موضوع حقوق الإنسان والدّيمقراطيّة يجب أن تتوافق مع الشّريعة.

“In recent decades, several declarations on human rights from a Muslim perspective have been issued by Islamic Organisations. Such declarations aimed at doing justice to basic articles of Muslim faith as well as preserving Muslim identity in an increasingly globalised world. Without any exception, they present a limited approval of human rights. The Universal Islamic Declaration of Human Rights, adopted by the Islamic Council of Europe in September 1981, admits human rights only under the condition that they conform to the Sharia”.[4] t

ويتناول الموضوع الثّاني قوانين الأحوال الشّخصيّة وحقوق المرأة ولا سيّما موضوع الطّلاق، وتعدّد الزّوجات، والإرث وتقسيم الأموال، وقد جرت محاولات عديدة لتحديث هذه القوانين من دون أن تصل إلى نتيجة حاسمة لأسباب اجتماعيّة وسياسيّة ودينيّة.

“Debates around PSL show the tensions between the two contradictory forces in nation-state building processes in the MENA. National constitutions and international agreements that are signed to keep up with the modern world claim to provide equal ‘citizenship’ to all people living under their territories. At the same time, personal status laws that have been based on religion and cultural motives have stayed intact or reformed slowly as the governments try to fit in the demands of cultural authenticity”.[5]

أمّا الموضوع الثّالث فهو يتعلّق بالمواطنة وحقوق الفرد الّتي تشكّل أساس الدّولة الحديثة. وفي الواقع إنّ التّفريق بين النّاس في هذا الشّأن جعل من الأنظمة السّياسيّة في معظم الدّول الإسلاميّة أنظمة هشّة مع ما يرافق ذلك من الرّفض الّذي يقود إلى الثّورات الدّاخليّة، ويمنع تقدّم هذه الدّول. صحيح، أنّ معظم الدّول الإسلاميّة قد اعتمدت دساتير حديثة وأقرّت بالمساواة بين المواطنين أمام القانون تحت راية الشّريعة الإسلاميّة الّتي هي مصدر التّشريع، ولكنّ التّطبيق العمليّ لهذه المساواة لا يتوافق مع مبادئ الشّريعة تلك. لأنّ الكلمة الفصل تعود في النّهاية إلى الدّين، بحسب ما ورد في وثيقة الأزهر عن المواطنة والحرّيّة الدّينيّة. وفي النّتيجة فإنّ معظم هذه الدّول لم تستطع رفع مستوى حياة سكّانها والارتقاء إلى مصاف الدّول المتقدّمة.

“Al-Azhar’s declaration of citizenship and coexistence refers to (blasphemy) as an incompatible behaviour with the principle of citizenship; thus, blasphemy – according to this declaration – leads to discrimination between Muslims and non-Muslims (Among the works of the Al-Azhar Conference, 2017). This reference bears undemocratic aspects and contradicts to freedom of religion”.[6]

وقد حاول رئيس الجامعة اليسوعيّة الأب سليم دكّاش في مداخلته الختاميّة اقتراح حلول عمليّة لإشكاليّة الآخر في الإسلام، مركّزًا على التّعليم والتّآخي والمواطنة وتحديث البرامج التّعليميّة والانخراط بعمليّة إصلاحيّة شاملة، ومشدّدًا، في الوقت نفسه، على مركزيّة وتراتبيّة المنظومة القيّميّة.

“Il est bon de se pencher sur la centralité des valeurs, dans leur caractère commun ou spécifique, étant considérés des moyens termes qui assurent une position de médiation entre les finalités et les objectifs, aussi bien généraux que spécifiques, entre le projet éducatif et le projet pédagogique, entre l’individu et la collectivité, entre les communautés et la nation. Car ce sont les valeurs – ou ce qui a de la valeur pour chacun, ou bien ce qui donne sens à la vie de l’un et de l’autre et à l’engagement du groupe, qui doivent faire le lien entre deux termes dont le contenu est différent”.[7]

خلاصة

إنّ إشكاليّة معرفة الآخر مرتبطة بالصّراع بين الحداثة والتّقليد وإعادة قراءة النّصوص الدّينيّة في ضوء التّطوّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة الّتي تُميّز العالم اليوم كي لا تبقى معرفة الآخر في الإسلام – كما في الأديان الأخرى – مرتبطة بصورة نمطيّة متشدّدة لا تنظر إلى الآخر كما هو بل كما تتخيّله. إنّ إشكاليّة معرفة الآخر ترتدي طابعًا حيويًّا في عالمٍ يعاني من التّشدّد الدّينيّ الّذي يقود أحيانًا كثيرة إلى الإرهاب والعنف.

[1]  Ali Mostfa, Roula Talhouk, Michel Younès, Islam et Altérité, Beirut: Dar El Machreq, 1ère édition, 2024, p. 19. t

[2] Mostfa, Talhouk, Younès, Islam et Altérité, p. 114. t

[3]Mostfa, Talhouk, Younès, Ibid, p. 124. t

[4] Mostfa, Talhouk, Younès, Ibid, p. 139 t

[5] Mostfa, Talhouk, Younès Ibid, p. 167. t t

[6]      Mostfa, Talhouk, Younès, Ibid, p. 177. t

[7]      Mostfa, Talhouk, Younès, Ibid, p. 197. t

الدّكتور جورج لبكي: رئيس مجلس إدارة المعهد الوطنيّ للإدارة. حائز شهادة دكتوراه في القانون من السّوربون، وأخرى في الأدب الفرنسيّ المعاصر من جامعة باريس XII. من مؤلّفاته باللّغة الفرنسيّة: أنثولوجيا. الأدب اللّبنانيّ باللّغة الفرنسيّة. ولبنان: قصص من حنايا بلاد الياسمين.

       [email protected]

Share This