أنسلم غرون
متى صلّيتم فقولوا: أبانا الّذي في السّموات
نقله إلى العربيّة الأب باسم الرّاعي
ط.1، 116 ص. بيروت: دار المشرق، ٢٠٢٤
ISBN: 978-2-7214-5659-5
هو الكتاب السّادس في اللّغة العربيّة الذي تنشره دار المشرق للأب البندكتيّ الألمانيّ أنسلم غرون، المُلقَّب بـ «معالج النّفس»، الرّاهب الأشهر في العالم الّذي ألّف حوالى الثّلاثمئة كتابٍ في الرّوحانيّة تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، ارتكز فيها في آنٍ على آباء الكنيسة والعلماء في علم النّفس، مستشهدًا بالقدّيسين الأقدمين كغريغوريوس النّيصيّ ويوحنّا الذّهبيّ الفم وأوريجانوس، كما بالمفكّرين المعاصرين كمارتن بوبر ورومانو غوارديني توماس مان وكارل يونغ.
تمحور هذا الكتاب على صلاة الأبانا، أي الصّلاة الرّبّيّة الّتي تختصر الإنجيل (ترتليانوس)، وتلخّص العقيدة السّماويّة (قبريانوس القرطاجيّ)، وترشد إلى الحياة الرّوحيّة (غريغوريوس النيصيّ). منذ البداية، عرض المؤلِّفُ المفاتيح الثّلاثة المختارة لتفسير هذه الصّلاة الّتي علّمها يسوع لتلاميذه: أوّلًا، الاختبار الصّوفيّ في تلاوتها؛ ثمّ، اعتبارها تلخيصًا لبشارة يسوع؛ وأخيرًا، ربطها بعظة يسوع على الجبل. (ص.١٣).
قسم الكاتبُ مؤلّفَه فصلَين غير متوازنَين؛ شرح في الأوّل (٦٤ صفحة) كلّ عبارة من الصّلاة، كما وردت في إنجيل متّى، وتعمّق في الثّاني (٢١ صفحة) في سمات الصّلاة في إنجيل لوقا وكتاب أعمال الرّسل.
قدّم الأب غرون في القسم الأوّل تفسيرًا فريدًا للأبانا، غنيًّا بأبعاده الرّوحيّة واللّاهوتيّة والنّفسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة. قارب كلّ عبارة من الصّلاة من زوايا عديدة، فأكّد مثلًا أنّنا لا نخاطب ألوهةً مبهمة لأنّ كلمة «أب» تشدّد على علاقة مميّزة وشخصيّة (ص. ١٧)، وأنّ تقديس اسمه يتطلّب سلوكًا أخلاقيًّا كقول الحقيقة وممارسة العدل والطّموح إلى ما هو فوق (ص. ٢٨)، وأنّ مشيئته ليست اعتباطيّة، بل تهدف إلى العيش بتوافقٍ مع حقيقة جوهرنا (ص. ٤٩)، وأنّ الخبز الّذي نطلبه هو الآتي من السّماء ومانح الحياة الأبديّة (ص. ٦١)، وأنّ المغفرة تحرّرنا من البقاء رهائن الّذين أساؤوا إلينا (ص. ٦٥). إنّها عيّنة من الأفكار الواردة، ففي كلّ مرحلةٍ كان يذكر خواطر كثيرة. فالسّموات، مثلًا، تشتقّ في اللّغة الألمانيّة من كلمة «قميص»، وهي بالتّالي السّترة والحماية، ويسكنها ﷲ لأنّه أرفع من مستوى تفكيرنا، وهي ليست فوقنا ولا خارجنا، بل فينا لأنّ الخالق يُقيم في قلوبنا، وحيث يكون هو، نكون في مأمنٍ. (ص. ٢٢-٢٣). وفي كلّ مرّةٍ، كان يكشف عن المعنى من خلال عظة الجبل (متّى ٥-٧). فالتّجربة، الّتي نطلب من الآب ألّا يُدخلنا فيها، تأخذ وجهَين: أنْ نسلك الطّريقَ الرّحبة المؤدّية إلى الهلاك (متّى ٧، ١٣-١٤)، أو أنْ نرحّب بالأنبياء الكَذَبة الآتين بثياب الحِملان وَهُم في باطنهم ذئابٌ خاطفة (متّى ٧، ١٥).
وفي القسم الثّاني، توسّع في سِمات الصّلاة المسيحيّة في كتابَي القدّيس لوقا، الإنجيل وأعمال الرّسل. تأمَّل بدايةً بيسوع المصلّي في المنعطفات الأساسيّة في مسيرته على الأرض (ص. ٨٣-٨٨)، ومنها قبل دعوة التّلاميذ، لأنّ الصّلاة تُمكِّن من القيام بالخيارات الصّائبة؛ وفي وقت التّجلّي، لأنّها تُسقِط الأقنعة وتُظهِر جوهرنا الحقيقيّ؛ وعلى الصّليب، لأنّها تستودعنا بين يدَي ﷲ الرّؤوفتَين. ثمّ تأمّل في مكانةِ الصّلاة في حياة الجماعة المسيحيّة الأولى، مشيرًا مثلًا إلى أهمّيّة القيام بها في أوقاتٍ محدّدة، لأنّ الصّلوات المنتظمة تجعل من الزّمن العابر زمنًا مقدّسًا، فلا نعيشه وكأنّه زمنٌ ينهشنا، بل كأنّه زمن نعمة. (ص. ١٠٠).
يتّسم الأسلوب المتّبع بالسّهولة والجديّة، فهو كتابٌ في متناول الجميع يحثّ القارئ على السّير إلى العمق. يعالج إشكاليّات عديدة ويطرح أسئلةً جريئة، منها: كيف لمؤمنٍ توجّع من والدٍ قاسٍ أو غائبٍ مناداة ﷲ بعبارة الأب؟ كيف يطلب المرءُ مشيئة ﷲ إذا تعارضت مع إرادته أو رغبته؟ وهل ﷲُ يجرّب الإنسان؟
ثمّ أظهر الكاتب فرادة المسيحيّة من دون تفاخرٍ ولا تعالٍ، فشدّد مثلًا على أنّ الفلسفة الرّواقيّة طلبت محبّة الأعداء من منطلق الحرّيّة الدّاخليّة، فيما نادى المسيحُ بها لنكون أبناء أبينا الّذي في السّماوات والّذي يُطلِع شمسَه على الأشرار والصّالحين (ص. ٥٥).
من جهتي، أرى أنّه كان من الأفضل التّوقّف بدايةً على منزلة الصّلاة في المسيرة المسيحيّة، وبعد ذلك شرح صلاة الأبانا.
وفي الختام، أنوّه بفقرةٍ أراد الأب غرون من خلالها التّشديد على غنى الصّلاة الصّادرة عن يسوع المسيح، وقد أورد فيها: «حتّى لو قرأنا الكثيرَ عن صلاةِ الأبانا، لا يمكننا استنفاد سرّها، لأنّ يسوع وهبنا روحَه بهذه الصّلاة وجعلنا مُشارِكين في صلاته، وفي علاقته الحميمة بالآب، وفي توقه إلى جعل ملكوت ﷲ يأتي. قام بهذا ليجعل منّا أشخاصًا حقيقيّين. حين نردّد كلام يسوع نقترب منه، ومن رسالته، ومن شخصه، ومن محبّته للآب واتّحاده به، ومن ثقته، ومن إيمانه، وفي النّهاية من ﷲ الّذي يغلب الشّرّ ومن ملكوت ﷲ الّذي أتى» (ص. ١٠٥).
الأب غي سركيس: حائز درجة الدّكتوراه في اللّاهوت من الجامعة اليسوعيّة الغريغوريّة الحبريّة (روما). أستاذ محاضر في جامعتَي القدّيس يوسف والحكمة. وهو كاهن في أبرشيّة بيروت المارونيّة. له مجموعة من المؤلّفات الدّينيّة والتّأمّليّة والفكريّة في اللّاهوت المسيحيّ، وحوار الأديان والحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبعضها من إصدار دار المشرق (نوبل للسّلام… لمن؟، أؤمن… وأعترف، قراءة معاصرة في الإيمان المسيحيّ، وإيمان في حالة بحث- النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة، ودروس من الهرطقات).