الأب غي سركيس
دروس من الهرطقات
ط.1، 216 ص. بيروت: دار المشرق، 2024
ISBN: 978-2-7214-5643-4
الهرطقات كلمة تثير حفيظة مَن يسمعها وتجعله يتّخذ موقف الدّفاع. ومن عادة الكتب أن تكرّس محتواها للرّدّ على الهرطقات وتبيان ضلالها. لكنّ الأب غي سركيس يسلك في كتابه هذا مسلكًا آخر، ويقف من الهرطقات موقفًا إيجابيًّا، لا لموافقتها كمضمون، بل ليبيّن كيف أنّ صياغة العقيدة المسيحيّة وتحديد معالمها نَمَوَا بفضل ظهور الهرطقات. المهرطقون هم الّذين دفعوا الكنيسة لتحديد قانون الكتاب المقدّس، والعقائد الخريستولوجيّة والسّوتيريولوجيّة…
لا يبرّر هذا الكتاب الهرطقات ولا يدافع عنها، بل يعرض بهدوءٍ المنطق الّذي استعمله المهرطق لصياغة إيمانه، ويعرض في المقابل الثّغرات والإشكاليّات الّتي لم يأخذها المهرطق بعين الاعتبار، فلم يقده استطراده الفكريّ إلى التّعمّق في عقائد الإيمان، بل إلى الانحراف عنها.
يسلك الكتاب مسارًا كرونولوجيًّا. فبعد مقدّمة وجيزة تُعرّف ما هي الهرطقات المسيحيّة وما هو تاريخها، يقدّم الكاتب الهرطقات الواحدة تلو الأخرى كما ظهرت تاريخيًّا، بدءًا من مرقيون وآريوس وانتهاءً بليونارد فيني. لعلّ المطّلع يعرف آريوس، وسمع عن مرقيون، ولكن مَن هو ليونارد فيني؟ هذا السّؤال يعكس محتوى الكتاب. فهو يذكر هرطقات شائعة، وشهرتها تأتي من كونها كانت سببًا لالتئام مجامع مسكونيّة، وأخرى غير شائعة لكنّها دفعت بالكنيسة إلى وضع صياغاتٍ محدَّدة في مواضيع طرحتها الهرطقات، بيّنت فيها وبوضوحٍ موقف الإيمان المسيحيّ.
هذا الكتاب ليس إحصاءً لجميع الهرطقات الّتي عبثت بالكنيسة، بل باقة مختارة. يبدو لي أنّ الكاتب اختار باقته بحسب معيارَين: شهرة الهرطقة وأهمّيّة ما طرحته لكنيستنا اليوم. المعياران موجودان معًا الواحد في الآخر: مثلًا، تأكيد ألوهيّة المسيح ومساواته للآب للرّدّ على آريوس، وهو أمر مهمّ للمسيحيّين الّذين يعيشون في بلدانٍ إسلاميّة، لأنّه يشكّل إحدى نقاط الخلاف بين الدّيانتين. وفي بعضها الآخر، يطغى معيار الشّهرة على الآنيّة كمحنة تحطيم الأيقونات، أو العكس، الآنيّة على الشّهرة كهرطقة ليونارد فيني (1897-1978)، الّذي ذكرناه آنفًا، والّذي طرح مسألة اللّاخلاص لغير المسيحيّين. موضوع شائك، مطروح حتّى الآن وله مؤيّدوه ومعارضوه. واللّافت أنّ فيني عاش في القرن العشرين، وأيّده أستاذان لبنانيّان يدرّسان في أميركا: فخري معلوف، وريمون كرم.
قسم الأب سركيس عرضه للهرطقة قسمين: الأوّل يقدّم حياة الشّخص وأفكاره، والثّاني يشرح العقيدة المسيحيّة، وقد حلّل الأفكار المعروضة في القسم الأوّل. من ناحية الشّكل، حرص الأب سركيس على أن تكون الفصول قصيرة، واللّغة بسيطة، وزيّن بعض الصّفحات بالصّور، ما جعل قراءته ممتعة، فيستطيع أيّ إنسان أن يقرأه ويفهم محتواه، وفي الآن نفسه، يجد الباحث واللّاهوتيّ فيه ما يلبّي حاجته. فبساطة الأسلوب الّتي تبنّاها المؤلّف لم تكن مطلقًا على حساب عمق المضمون.
والفصل الأخير في الكتاب يُحاكي الأوّل. فالأب سركيس يعود إلى مفهوم الهرطقة، ولكنّه يحاول أن يبيّن ما يمكن تسميته: الخطأ المشترك. الأفكار الجديدة تثير الرّيبة من دون شكٍّ. ولكنّ الإسراع في إدانتها أو «شيطنتها»، من دون حوارٍ يستغرق الوقت الكافي لتنكشف الأمور في جوهرها للطّرفَين المتحاورَين، يؤدّي حتمًا إلى ظلمٍ معيَّن. وقد أعجبني كلامُه على المهرطقين أستلّ منه الاقتباس الآتي:
«المهرطقون بشرٌ أحبّوا المسيح حقًّا واجتهدوا في خدمة البشارة. وقد ظهر هذا الجانب من شخصيّاتهم في الصّفحات السّابقة. فالنّاس لا يُصنَّفون في خانة الأبرار أو الأشرار. لكنّ الإخلاص في التّصرّف وطيبة القلب لا يتماهيان والحقيقة؛ واحترام المرء وتفهّم نيّته لا يعنيان حتمًا الموافقة على قناعاته وتعاليمه. لقد انحرفوا عن الإيمان المستقيم، ليس بالضّرورة استنادًا إلى مبدأ خاطئ، بل بسبب المبالغة في تناوله، فرفعوا الحقيقة الجزئيّة إلى مقام الحقيقة المطلقة». (ص. 186).
الأب سامي حلّاق اليسوعيّ: راهب يسوعيّ، وأستاذ في جامعة القدّيس يوسف – بيروت. له مؤلّفات وترجمات عدّة منشورة، بالإضافة إلى مقالاتٍ بحثيّة في مجلّة المشرق.
[email protected]