الأب نادر ميشيل اليسوعيّ
منتصف الحياة – الولادة الجديدة
ط.1، 112 ص. بيروت: دار المشرق، 2023
ISBN: 978-2-7214-5658-8
هل من «منتصف للحياة»؟ من يحدّد توقيته؟ يُشير الكاتب إلى غموض الحدث على الرّغم من إشارته إلى ذكر هذه العبارة عند الإيطاليّ «دانتي» في «الكوميديا الإلهيّة»، وعند الرّاهب الألمانيّ «يوهانس تولر»، مرورًا بالعالِم النفسيّ كارل غوستاف (ص.7). تناول الكاتب تحديد «علماء النّفس منتصف الحياة بالفترة ما بين 35 و45 عامًا، ووضع «يونج» بدايتها في سنّ 32 عامًا، ومدَّها، على وجه حقّ، علماء آخرون إلى سنّ 65 عامًا». (ص. 8). يؤكّد الكاتب أنّ عرضه يشمل «بُعدًا نفسيًّا وأنتروبولوجيًّا، وآخر روحيًّا». (ص. 9). من هنا أورد بعد كلّ فصلٍ بحثيّ مجموعة من النّصوص للصّلاة والتّأمّل ليواجه القارئ نفسه في أسئلةٍ مطروحة للتّفكير الشّخصيّ والمشاركة الجماعيّة.
هذه المرحلة الحرجة، كما يشرح الكاتب، تبدو «كانهيارٍ، ما كان يسمح لنا بالوقوف على أقدامنا والسّير في طريق حياتنا، وكأنّ الأسس الّتي تقوم عليها قناعاتنا تقع الواحدة بعد الأخرى، وهي تشبه أيضًا خبرة رؤية معالم الحياة حولنا تتبخّر وتتلاشى من أمام عيوننا، وكأنّنا استيقظنا ولم نجد الدّنيا الّتي نعرفها ولا النّاس الّذين عهدناهم، ويمكن تشبيهها أيضًا بالرّداء الّذي نلبسه، وها قد بدأت خيوطه تنحلّ بعضها عن بعض وتتباعد فلا نجد ما يحمينا ويسترنا، بمعنى آخر، تمثّل أزمة منتصف الحياة نقطة فارقة تُحدث تغييرًا في مسيرتنا، فما نعيشه بعدها لا يشبه ما كنّا نحياه من قبل». (ص. 14)
بعد التّعريف بمفهوم «أزمة منتصف الحياة» يمضي الكاتب في تفكيك مفاصلها، فيبحث في التّوازن بين عناصر الحماية وضعف الشّخصيّة، وماذا وراء أزمة منتصف الحياة؟ (ص. 18) وماذا عن واقع العلاقات في هذه المرحلة؟ (ص. 19) وعن الحياة العمليّة والمهنيّة؟ (ص. 26)، وينتبه الكاتب إلى الأسباب الشّخصيّة الّتي تطال واقع الجسد ومتغيّراته (ص. 28)، والموت (ص. 33). هذه مواقف إنسانيّة ستُبرز، برأي الكاتب، أعراضًا نفسيّة ومَرَضيّة تتعلّق بأزمة منتصف الحياة، منها: الأعراض النّفسيّة: الاكتئاب (ص. 34)، والكآبة أو السّوداويّة (ص. 35)، والحنين إلى الماضي (ص. 36)، والتّراجع أو الانزواء (ص. 37). أمّا الأعراض المرَضيّة فمنها: وهْم المرض (ص. 39)، والاضطرابات النّفسيّة – الجسمانيّة (ص. 40)، واضطرابات الهوس (ص. 41)، واضطرابات جنون العظمة (ص. 42)، والاضطرابات الجنسيّة (ص. 43)، وسلوكيّات الإدمان (ص. 43)، والسّلوكيّات المُجرّمة (ص. 44).
ثمّ يبحث الكاتب في الفصل الثّاني في طريق الحكمة والعبور إلى الذّات (ص. 49)، انطلاقًا من «ثلاث مراحل فارقة: الولادة والطّفولة، والمراهقة، ومنتصف الحياة». (ص. 52)، وجب على المرء أن يُتقن الإنصات للذّات، وبخاصّة في مرحلة منتصف الحياة «وهي بالتّالي مسيرة استقبال وتصالح مع كلّ ما فينا وكلّ ما عشناه في تاريخنا وواقع المجتمع والنّاس من حولنا». (ص. 54). من هنا يبحث الكاتب في موضوع «الحياة في قبول التّناقضات»، والّذي بنتيجة الفهم الإيجابيّ لتفاصيل هذا العنوان «ينفتح أمامنا طريق يتّسع فيه القلب فيستقبل ولا يستحوذ، يستوعب ولا يُقصي، يُنصت ولا يخاف، يرحم ولا يحزن، ويحبّ ولا ييأس، قلب حاضر لمن يأتي إليه وينتظر الّذي ابتعد». (ص. 57).
يتابع الكاتب بحثه فيتوقّف عند الأسرار المرَضيّة (ص. 58) ليخرج الإنسان منها، بخاصّة وأنّ منتصف الحياة «فرصة سانحة لكي يرتّب أولويّاته ويستعيد زمام حياته». (ص. 59). ما يعني اكتساب الحكمة (ص. 60)، وأن نحوز الهويّة الجديدة حين «يحدث التّحوّل الإيجابيّ عندما يمكننا استيعاب ما أُجبرنا على تركه أو الانفصال عنه، وتوديعه بإرادتنا وحرّيّتنا». (ص. 61). إنّ طريق الحكمة يعني المضيّ في مسيرة نحو الذّات (ص. 63) ما يقود المرء إلى الاختيار: «بين طريق الأبوّة والأمومة في ابتكار متجدّد، وطريق الهروب من الذّات بأشكال مختلفة، الأبوّة والأمومة طريق صعب وبابه ضيّق لأنّه يسير ضدّ التّيّار، تيّار الثّقافة المحيطة بنا، وتدّعي أنّ الشّباب دائم وما العمر إلّا رقم». (ص66).
يقوم الفصل الثّالث على موقف واضح، حيث «تبقى إذًا مرحلة منتصف الحياة وقتًا مميّزًا للتّمييز الرّوحيّ». (ص. 85)، «معتمدين على كلمة يسوع: «لقد دعوت لك» لنسير في ضوء كلمة ﷲ نحو مستقبل لا نراه ولا نعرفه، ولكنّنا في اليقين بأنّ ﷲ معنا لا يتركنا أبدًا ويقودنا كلّ يوم في طريق الفرح والحبّ والحياة». (ص. 86). من هنا فإنّ الولادة الجديدة حاصلة في منتصف العمر، «فالأزمة لا تطرح علينا تساؤلات فحسب، بل تدعونا إلى شجاعة الرّدّ على التّساؤلات تلك، والسّعي بجدّيّة للوصول إلى وضوحٍ في ما يخصّ رغبتنا في الحياة والبحث عن معناها وتوجيهها بشكل حقيقيّ وبنَّاء لنا وللآخرين». (ص. 87). يورد الكاتب مثلًا في ثمار المعاناة الخلّاقة فيقول: «قد يشعر الأهل بالوحدة بعد ترك أولادهم البيت ليستقلّوا ماديًّا ومعنويًّا (…) يُقدم آخرون على خدمات اجتماعيّة وكنسيّة لم يسبق أن قاموا بها، وهكذا يستثمرون طاقاتهم المعنويّة وإمكاناتهم الإنسانيّة». (ص. 90). ستكون هناك تغييرات عديدة في حياة أناس منتصف العمر، وقد باتوا وحيدين، إذ بالفعل تختفي أنماط جميلة من العائلات الأسريّة والجماعيّة، لكنّ الحياة لا تنتهي عند هذا الحدّ. قد يتمكّن الشّخص من أن يغوص في ذاته ويكتشف جوهرته الثّمينة الكامنة فيه (…) تبقى هويّته الإنسانيّة، ويظلّ القلب حيًّا ما دام تيّار العطاء يتدفّق منه. (ص. 91).
هذه المستجدّات في أزمة منتصف الحياة تقود «إلى ولادة جديدة، عبر طريق نختبر فيه الطّفولة (…) نخرج من الأزمة وقد صرنا خدّامًا للحياة في محيطنا العائليّ والرّهبانيّ، الكنسيّ والاجتماعيّ». (ص. 100)، بمعنى أوضح، يخلص الكاتب إلى «أنّنا نخرج من الأزمة وقد ظهرت فينا إنسانيّة جديدة تنعشها مشاعر التّواضع والصّفاء، والطّيبة، والمغفرة والمسامحة، وتمتلئ بالحكمة وبالرّغبة العميقة في ﷲ، وقد ثبتت في المسيح، والمسيح فيها، لذا تأتي بثمر كثير». (ص. 101).
إنّه كتاب اختصر الكاتب مضمونه بعبارة للقدّيس أوغسطينوس يقول فيها: «لأنّك خلقتنا لأجلك، ولن يهدأ قلبٌ لنا حتّى يستقرَّ فيك». (ص. 5).
الدّكتور جان عبد الله توما: حائز دكتوراة في اللّغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللّبنانيّة. أستاذ محاضر في جامعات: القدّيس يوسف، واللّبنانيّة، وسيّدة اللويزة، ويشغل منصب رئيس قسم اللّغة العربيّة في جامعة الجنان. له أكثر من سبعة عشر إصدارًا يتراوح بين كتب أدبيّة، وشعريّة، ورواية، ودراسات تربويّة، وتحقيق مخطوطات.