ارتبط موضوع عذاب الأطفال ومعاناتهم، أكان ذلك بالمرض أو القتل، بقضيّة الشّرّ المطلق، وإنْ تحدّثنا عنهم في هذه المقالة الافتتاحيّة، فلأنّنا نفتتح نهارنا ونكمل ليلنا، بالقهر الّذي يطال المئات بل الآلاف من كلّ الفئات العمريّة الّتي لا حول ولا قوّة لها أمام الآلات الحربيّة الّتي تعدم الوجود وأوّل من تعدم أولئك الأبرياء المساكين.
يقول القدّيس أغسطين المؤمن ذو الصّوت العالي: «عندما نصل إلى أمر عذابات الأطفال فإنّني أجد نفسي في حرجٍ عميق وليس لديّ من جواب. تقتلهم الأمراض وتمزّقهم العذابات ويعذّبهم الجوع والعطش وتمحوهم الحروب. نعم، اﷲ هو الصّالح والعادل والضّابط الكلّ، ولا مجال للشّكّ في ذلك، إلّا أنّنا نقول لأيّ سبب يحكم الأطفال بالعذاب من جرّاء مختلف الشّرور الّتي تحيط بهم؟
القدّيس أغسطين لم يجد جوابًا عن تساؤلاته هذه. إلّا أنّ مجرّد السّؤال وعرض الفكرة بهذه الطّريقة تجعله يقول إنّ عذاب الأطفال هو شرّ مطلق وهو عيب لا يمحى في خلق اﷲ، بحيث من المنطق أن يتوسّع الحكم ليصل إلى مجمل الخلق. من هنا ميّز بعضُهم بين الشّرّ المطلق والشّرّ النّسبيّ، حيث إنّه لا تُرجى أيّ فائدة من الأوّل ويبقى شرًّا من جميع جوانبه، ومهما تفرّسنا فيه، في حين أنّ النّسبيّ ربّما أتى بفائدة على من يقوم به بحيث يرتدع ويتحوّل، أكان ذلك فردًا أم جماعة، في حين أنّ الشّرّ المطلق هو المرفوض جملة وتفصيلًا من أيّ حكمة بشريّة أو إلهيّة، فهي لا تريده ولا ترغب به ولا تقبل به إلّا لغاية أو مصلحة. وموت الأطفال الأبرياء هو في هذا الباب، وليس شائبة أن نقول إنّه خطيئة الخطايا.
ونزيد على ذلك أنّه في العديد من الأحيان لا مبرّر للشّرّ المطلق المتمثّل هنا في موت الأطفال وفي عذاباتهم. فالطّفل ليس لديه سوى المسؤوليّة النّسبيّة عن نفسه وعن غيره، وهذا ما يتحقّق بقوّة التّربية على كلّ ما هو خير وأمان. فالمسؤوليّة الأهمّ، إن لم نقل الكاملة، هي في يد الإنسان في غالب الأحيان، أي الإنسان العاقل والنّاضج والحكيم والطّيّب الّذي ينقلب إلى وحش يغلّب غرائزه على عقلانيّته، فيضع جانبًا حريّته المسؤولة عن ذاته وعن أخيه الإنسان، وكيف يستقبل اﷲ بذلك؟ أهو خلق وحشًا أم ماذا؟ إنّه في الواقع خلق مشروعًا بشريًّا للحياة وبناء الحياة، وبالتّالي هو وضع المحبّة الفضلى في مواجهة قساوة البشر، وإدانة القساوة المطلقة هي وجه من أوجُه محبّة اﷲ، فكيف لنا ألّا ننادي عاليًا بأنّ يتوقّف الإنسان عن ممارسة أعمال الشّرّ المطلق تجاه قريبه؟!
الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة.
[email protected]