اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

عبد الله بن مصطفى الدّملوجيّ الموصليّ الحنفيّ (ت.1843/1259).

تحقيق ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي

كَفُّ الـمُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض

ط.1، 224 ص.، بيروت: دار المشرق، 2023

ISBN: 978-2-7214-8187-0

يعود بنا المحقّقان ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي إلى موصل القرن الثّالث عشر الهجريّ، المشتعل بالنّشاط الفكريّ والعلميّ، والجامع الفكرَين الصّوفيّ والسّلفيّ، موصل الفكر والذّكر والحلقات العلميّة والشّروحات والتّفاسير. ويقدّمان لنا عملًا من الأعمال الشّاهدة على الثّراء العلميّ آنذاك لشيخ الموصل في زمانه عبد ﷲ بن مصطفى الدّملوجيّ الموصليّ الحنفيّ (ت. 1259/1843) مصحوبًا بدراسة تكشف عن السّياق الفكريّ في الموصل.

تتطرّق دراسة المحقّقين إلى موضوعات شتّى تمسّ الثّقافة الصّوفيّة، ومن أبرزها النّزعات السّلفيّة في الموصل في القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر الهجريّين/الثّامن عشر والتّاسع عشر الميلاديّين. وتكشف الدّراسة عن أعلام كُثُر وجّهوا سهام نقدهم إلى الطّرق الصّوفيّة وأعلام التّصوّف، وأعلنوا عن ضرورة مواجهة الفساد الّذي استشرى في المؤسّسات الصّوفيّة، وفي سبيل ذلك دوّنوا مؤلّفاتهم وردودهم ليتبرّأوا من البدع والمعتقدات الصّوفيّة الزّائفة. وهنا تُظهر الدّراسة أسماء أعلام لم يعرف قارئ اليوم عنهم شيئًا، من أمثال عثمان بك الحيّانيّ (ت.1245هـ./1829) الّذي كتب مقالات وتعليقات كثيرة عن المتصوّفة الّذين سخّروا الطّرق الصّوفيّة لمصالحهم الدّنيويّة، وألّف رسالة ردّ فيها على الشّيخ خالد النّقشبنديّ (ت.1242هـ./1826).

ويلفت المحقّقان أنظار القرّاء إلى الكتابات الّتي توجّهت بالنّقد والإنكار على أعلام التّصوّف من أمثال عبد القادر الكيلانيّ (ت.561هـ./1166) الّذي حظي - ولا يزال - بمنزلة رفيعة في تاريخ التّصوّف الإسلاميّ في بلاد العالم الإسلاميّ على امتدادها شرقًا وغربًا، والصّوفيّ الشّهير ابن عربيّ الّذي ملأ الدّنيا ولا يزال يشغل النّاس حتّى وقتنا الرّاهن.

تقف الدّراسة على أنماط ثلاثة من التّأليف المجسِّد الصّراع السّلفيّ الصّوفيّ (ردود انتقاديّة، وكتابات دفاعيّة، ومحاولات للتّوفيق والموازنة بين الطّرفين). وتقدّم الدّراسة شواهد عديدة للأنماط الثّلاثة، أغلبها لم يُحقّق بعد، لتنبِّه الدّارسين والباحثين في تاريخ التّصوّف إلى أهمّية هذه الأعمال، محيلةً على جريدة واسعة من المخطوطات والمراجع الأعجميّة الّتي تجعل الباحث يرتحل إلى بقاع شتّى من بلاد الأناضول إلى الشّام والموصل ومصر وبلاد الحجاز.

ويلفت نظر القارئ مناقشة الدّراسة مسألة طلب محمّد بن عبد الوهّاب (ت.1206هـ./1792) العلم في الموصل، لِما كان له من أثر وحضور فيما بعد على من وجّهوا سهام النّقد إلى التّصوّف. فهذا محمّد بن الكولة يوصف بأنّه «كان سلفيًّا ثائرًا على الصّوفيّة، وأنّه كان شديد الإنكار على جميع الأولياء. ويذكر سعيد الديوه جي أنّه رحل إلى بغداد في العام 1191/1777 وأنّه كان على اتّصال بالشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب»[1].

كما تُناقش الدّراسة تزايد التّأثير السّلفيّ في بغداد، لتضع كتابات الشّيخ عبد الله الدّملوجيّ في سياقاتها السّياسيّة والفكريّة. وتردف ذلك بحديث موسّع بشأن عائلة الدّملوجيّ الّتي ما زال نشاطها العلميّ مستمرًّا حتّى يومنا هذا من خلال أبناء العائلة من الكُتّاب والأدباء والفنّانين.

ابن عربيّ وابن الفارض موضوعًا للجدل

أُلّفت كتبٌ كثيرة في الرّدّ على ابن عربيّ، وشهد القرن التّاسع الهجريّ فتنة في مصر[2] كانت أشبه بفتنة خلق القرآن، وتزعّم برهان الدّين البقاعيّ (ت.885هـ.) حملة تكفير ابن الفارض وابن عربيّ؛ وتلقّف أبناء مصر في الوقت الرّاهن كتابات ابن عربيّ، فأُعيد نشر ما كتبه البقاعيّ ومَن وافقه باعتبار أنّ ما يقوله هو الحقّ. وعلى أساسه تمّ «فضح الصّوفيّة» و«مصرع التّصوّف»[3]. ومن مصر انتقلت رسائل البقاعيّ إلى بلاد الحجاز وأعيد نشرها من جديد وبحث الطّلّاب عن رسائل أخرى كُتبت زمن تلك الفتنة، فأعيد نشر وتحقيق بعض الرّسائل الّتي أُلّفت في ذمّ ابن عربيّ واعتبار أعماله «قبوحات هلكيّة» لا «فتوحات مكّيّة».

كُتب لرسالَتي البقاعيّ الذّيوع والانتشار بين خصوم التّصوّف، واعتُمدت آراؤه وأفكاره في مخالفة «التّصوّف الوجوديّ» الثّابت من عقائد الإسلام. على أنّه لم يتمّ الالتفات إلى صوفيّة البقاعيّ الّتي يظهرها كتابه عنوان الزّمان في تراجم المشايخ والأقران[4]، وكذلك تفسيره القرآنَ الكريم الّذي اعتمد فيه بشكل أساسيّ على مؤلّفات أبي الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَسَنٍ التُّجِيْبِيُّ الْحَرَالِّي (ت.638هـ.).

ويأتي تحقيق ونشر كتاب كَفّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض في وقت تشهد فيه السّاحة العربيّة استعادة للجدل الدّائر بشأن أفكار ابن عربيّ وابن الفارض. لذا نحاول في هذه السّطور أن نعرض مضامين كتاب كَفّ المُعارِض.

استند المحقّقان في تحقيق نصّ الكتاب إلى نسختين خطّيّتين، النّسخة الأولى والمرموز لها بحرف الدّال هي نسخة تملّكتها عائلة الدّملوجيّ في بيروت. ولم ينس المحقّقان أن يشيرا بعد ذكر أوصاف هذه النّسخة إلى كون الدّكتور إحسان عبّاس، رحمه الله، كان قد بدأ العمل على تحقيق الكتاب اعتمادًا على هذه النّسخة الّتي أهدته العائلة إيّاها، لكن للأسف ضاعت نسخة إحسان عبّاس ولم تصل إلينا. ورغم وثوقيّة المخطوطة الّتي تملّكتها عائلة الدّملوجيّ إلّا أنّ المحقّقَين اعتمدا نسخة أخرى من مجاميع تيمور باشا ليخرج نصّ الكتاب في صورة علميّة تناسب موضوعه. ولا يخفى على القارئ ما للمحقّقَين من تضلّع في العمل على أدبيّات التّصوّف الإسلاميّ، ويظهر ذلك بوضوح من المنهج الّذي رسماه لنشر هذا النّصّ من ترجمة لأعلامه وتخريج لنقوله ومرويّاته وفهرسة كاشفة عن كلّ صغيرة وكبيرة وردت في المتن المحقّق.

حكم إيمان الشّيخين الشّيخ الأكبر ابن العربيّ وسلطان العشّاق ابن الفارض وثناء العلماء عليهما

يبدأ الكتاب بالإجابة عن سؤال وقع عن إيمان الشّيخين، ويصدّر الدّملوجيّ جوابه بذكر إجماع أهل الإسلام على أنّ مذهب الحلول والاتّحاد كُفرٌ في الملّة، ومن اعتقد بهما فهو كافر مرتدّ عن الإسلام. ويلفت المحقّقان إلى أنّ الدّملوجيّ اعتمد في هذا الحكم على برهان الدّين البقاعيّ، وإن اعتبرا أنّ ذلك من غرائب هذا النّصّ إلّا أنّه يشير إلى فضيلة من فضائل الدّملوجيّ الّذي، رغم انتصاره لمذهب الدّفاع عن الشّيخين، لم ينصرف عن الاستفادة من أعمال المذاهب الأخرى، وهو ما انعكس في نقولاته الّتي يدعم بها دفاعه عن الشّيخين بخاصّة والفكر الصّوفيّ بعامّة.

يُتبع الدّملوجيّ اقتباسه عن البقاعيّ بنصوص أخرى تؤكّد ما جرى عليه «اتّفاق أهل الإسلام» بشأن اعتقاد الحلول والاتّحاد والتزام شرائع الله في القول والعمل، ويجري الاستشهاد بابن تيميّة وتقيّ الدّين السّبكيّ والقرطبيّ وغيرهم. ثمّ ينقل جزءًا من الفتوى الشّهيرة المنسوبة إلى ابن كمال باشا (ت.940هـ.) في حقّ الشّيخ الأكبر للاستشهاد على ولايته الكبرى، معضدًا إيّاها بما أورده ابن حجر الهيثميّ في فتاويه الحديثيّة. ولا تتوقّف النّقول والاقتباسات الّتي يوردها الدّملوجيّ والّتي تؤكّد ولاية الشّيخين وتحضّ على حسن الظّنّ بالمسلمين والابتعاد عن التّكفير. وفي غضون ذلك يتناول المؤلّف بالشّرح والإيضاح جملة من المسائل الصّوفيّة كالفناء والذّكر وفضل الصّلاة على النّبيّ ﷺ، مستندًا إلى عدد وفير من أقوال العلماء على اختلاف مشاربهم، ممّا يؤكّد ما أشار إليه المحقّقان في قسم الدّراسة أنّ «قائمة المصادر الّتي عاد إليها المؤلّف تكشف عن معرفة موسوعيّة متنوّعة، يظهر فيها اطّلاعه على جانب كبير من التّراث الإسلاميّ»[5].

من الدّفاع عن الشّيخين إلى نقد سلوك بعض المنتسبين إلى الطّرق الصّوفيّة

يذكّرنا الدّملوجيّ بالنّقد الذاتيّ الّذي قدّمه أعلام التّصوّف منذ وقت مبكّر إزاء بعض المفاهيم والأخطاء الّتي رأوا فيها ما يغبّش الرّؤية ويؤدّي إلى الخلط بين تصوّف صحيح وممارسات مغلوطة. ويسبق إلى الذّهن مباشرة صنيع السّرّاج الطّوسيّ في اللّمع[6] عند قراءة ما قدّمه الدّملوجيّ من نقد لما وصفهم بـ «جهلة المنتسبين» أو ما وصفه بـ «البدع المستحدثة»[7]. ويظهر نقد الدّملوجيّ موضوعيًّا منصفًا مهذّبَ العبارة، مراعيًا آداب الخلاف، حريصًا على هدي الكتاب والسّنّة، من دون ميل إلى الهوى أو العصبيّة.

وينتقل الدّملوجيّ من النّقد إلى إيضاح بعض المفاهيم الّتي تختلط على معارِضي التّصوّف، من ذلك مجاهدات الصّوفيّة وعقائدهم، ويوضّح أنّ كلّ فعل من الأفعال الّتي يرى فيها الآخر شططًا أو مخالفة ككثرة الصّيام أو الذّكر أو التّبتّل لها أصل في الكتاب والسّنّة وهدي سلف الأمّة الصّالح. ويختم عمله بخاتمة تتعلّق بمسألة الكرامات.

ويلفت نظر القارئ أنّ الكتاب، رغم جريدة مراجعه ومصادره الواسعة، يخلو من النّقل عن الشّيخين ابن العربيّ وابن الفارض، رغم كونه دفاعًا عنهما. وكأنّ الدّملوجيّ انطلق من الخاصّ إلى العامّ المؤسّس، فبدل أن يغرق في تفاصيل الخلاف والجدال في بعض الكلمات والمفاهيم، حاول أن يكون عمله مصحّحًا لكلّ ما تعلّق بالتّصوّف وأهله في زمانه، فنبّه على الأغلاط وأصّل للمجاهدات وعزا العقائد إلى مصادرها، مستفيدًا من التّراث الهائل المدوّن في هذه المسائل.


[1]       عبد الله الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، تحقيق ناصر ضميريّة وبلال الأرفه لي (بيروت: دار المشرق، 2023)، 17.

 

[2]       لم تخصّص دراسات عربيّة بعد عن فتنة ابن الفارض. وإن لقيت هذه المسألة اهتمامًا في دوائر البحث الغربيّ، راجع إيليّا باولويج بطروشفسكي، الإسلام في إيران، ص. 492، 493. وقد أشار وليد صالح في دراسته «الاعتراف بالموروث الدّينيّ القديم: أنموذج برهان الدّين البقاعيّ» في مجلّة التّفاهم في عددها التّاسع والأربعين، السّنة الثّالثة عشرة، صيف 2015، 247، إلى دراسة مفصّلة عن فتنة ابن الفارض يمكن الرّجوع إليها: TH. EMIL HOMERIN, From Arab Poet to Muslim Saint: Ibn al-Farid, His Verse, and His Shrine, columbia,1994, 55-75.

[3]       في العام 1952 نشر عبد الرّحمن الوكيل (عضو جماعة أنصار السّنّة المحمّديّة في مصر) رسالتين للبقاعيّ، هما: تنبيه الغبيّ إلى تكفير ابن عربيّ، وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتّحاد. وعنون نشرته بـ «مصرع التّصوّف»، جاءت هذه النّشرة إعلانًا عن موقفه إزاء التّصوّف، فبعد أن تلقّى تعليمه في الأزهر، أنعم الله عليه بصبح جديد كما يذكر في مقدّمة كتابه فتعرّف إلى الشّيخ محمّد حامد الفقيّ الّذي أحبّ من خلاله نصوص ابن تيميّة، وتبنّى موقفه العقائديّ من ابن عربيّ، كان عبد الرّحمن الوكيل من خصوم التّصوّف المشاهير في وقته، وتزامن مع نشرته لنصوص البقاعيّ إصدارُه كتيّبًا لنقد أفكار الصّوفيّة وإظهار معايبهم، حمل عنوان صوفيّات وسّعه فيما بعد نظرًا إلى إقبال النّاس عليه في مصر والشّام، وأصدره بعنوان جديد في العام 1955= =لخّص فيه رؤيته للتّصوّف «هذه هي الصّوفيّة»، وسرعان ما انتشر هذا الكتاب في مصر، وأعيد طبعه في سوريا ولبنان وبلاد الحجاز.

[4]       كتب محمّد فوقي حجّاج بحثًا عن تصوّف البقاعيّ بعنوان: «الشّيخ البقاعيّ ومدى خصومته للصّوفيّة ومقدار موالاته لهم»، نُشر في العدد الثّاني من مجلّة كلّيّة أصول الدّين بالقاهرة، ص. 167-180. وخصّص جودة محمّد أبو اليزيد المهدي مبحثًا في كتابه الاتّجاه الصّوفيّ عند أئمّة تفسير القرآن الكريم لمناقشة رؤية البقاعيّ للتّصوّف، استند فيها إلى بعض النّقولات الّتي أوردها البقاعيّ في كتابه مصاعد النّظر للإشراف على مقاصد الآي والسّور، راجع ص. 221-245. وخصّص محمّد عبد المنعم عبد السّلام الماجستير لدراسة الإمام برهان الدّين البقاعيّ وموقفه من التّصوّف. نوقشت رسالته وأجيزت في كلّيّة أصول الدّين بجامعة الأزهر في العام 2000.

[5]       الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، 55.

[6]       خصّصَ الطّوسيّ الكتاب الأخير من اللّمع لهذا الجانب النّقديّ في دراسة التّصوّف، وهو يربو على مائة صفحة، غير أنّه جعله على قسمين كبيرين، أوّلهما عن الشّطح والقسم الثّاني الّذي يختم به الكتاب فقد خصّصه لذكر «من غلّط من المترسّمين بالتّصوّف، ومن أين يقع الغلط، وكيفيّة وجوه ذلك». راجع السّرّاج الطّوسيّ، اللّمع (القاهرة وبغداد: دار الكتب الحديثة، 1960)، 453-515. وقارن الفصل الّذي خصّصه حسن الشّافعيّ في كتابه فصول من التّصوّف، بعنوان النّقد الذّاتيّ (القاهرة: دار البصائر، 2008)، 273-327.

[7]       الدّملوجيّ، كَفُّ المُعارِض ببراءة ابن عربيّ وابن الفارض، 136.

 

الدّكتور خالد محمّد عبده: باحثٌ وأكاديميٌّ. حائز شهادة الدّكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة، وهو باحثٌ في جامعة إشبيلية في إسبانيا. نشر مؤلّفات وتحقيقات وأبحاثًا عدّة منها: معنى أن تكون صوفيًّا (القاهرة: دار المحروسة، 2016). حضورُ الرّوميّ وشمس تبريزيّ في الثّقافة العربيّة (القاهرة: دار القدس 2020). الجدل الإسلاميّ المسيحيّ في القرن الثّالث الهجريّ (دار المدار الإسلاميّ: بيروت، 2022). الحكمة الخليقة للزّندويستيّ بالاشتراك مع د. بلال الأرفه لي (دار المشرق: بيروت، 2023).

[email protected]

Share This