اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

فؤاد حسّون

غَفرْتُ

ط.1، 248 ص. بيروت: دار المشرق، 2023
ISBN: 978-2-7214-5649-6

 

لم تكنْ طفولةُ فؤاد اسكندر حسّون مختلفةً كثيرًا عن طفولةِ أقرانهِ في قرية بريح الشُّوفيّةِ، الواقعةِ في جبلِ لبنانِ الجنوبيِّ. في تلك القريةِ المختلطةِ عاشَ مسيحيّونَ وموحّدونَ دروز «لعدّةِ أجيالٍ في وئامٍ تامٍّ» يقولُ حسّون في كتابه غفرْت (ص. 26) وهو ترجمةٌ لكتابه باللّغةِ الفرنسيَّة، عنونه بـ «J’ai
pardonné» وقد صدر في العام 2020 في باريس، وترجمه الخوري ميخائيل قنبر، فصدرَ عن دارِ المشرقِ في طبعتهِ الأولى في العام 2023.

الكتابُ أشبهُ بسيرَةٍ ذاتيَّةٍ يوثِّقُ فيها الكاتبُ مراحلَ حياتهِ لاسيَّما تلكَ الَّتي تحمِلُ قدرًا كبيرًا مِنَ العذابِ والمُعاناةِ في إثر تعرُّضِ منطَقَةِ فُرنِ الشُبَّاكِ في بيروتَ، إلى انفجارِ سيّارةٍ أمامَ منزلِ جدَّتِهِ حيث يتردّد في بعض الأحيان. حدث ذلكَ في 21 كانون الثّاني من العام 1986. يوثّق الكاتب إصابته نتيجةَ عصفِ الانفجارِ في وجهِهِ «.. كأنَّ سوطًا قد ضربني.. وقوَّةً رهيبَةً قذفتني، عندها لم أعد أرى شيئًا» (ص.12). وبعد عمليَّة جراحيّة في مدينةِ جنيڤ لمْ تتكلَّلْ بالنَّجاحِ، أبلغَهَ جرَّاحُهُ مباشرَةً «.. لقد أصبحتَ أعمًى» (ص. 8) ما أدَّى إلى ضياعٍ كاملٍ ترتَّبَ عليهِ في لحظَتِها حوارٌ مع الله:

– «… لماذا أنا؟ لماذا كلُّ هذا؟.. أخبرني أنَّ هذا ليسَ صحيحًا، ولا عادِلًا، نجِّني يا ربُّ.. خلِّصني… أنا أعمى والرَّبُّ الطِّيّبُ أصمُّ… إنَّها العبثيّة» (ص. 81.)

جثا بين يدي الله مُتضرِّعًا، يسألُه الشّفاء والرَّحمة… وفجأةً سَمِعَ همسًا بعيدًا كأنَّها مكالمةٌ داخليَّةٌ مع الله:

– «.. فؤادٌ هلْ تُحبُّني»؟

– «نعم أيُّها الرَّبُّ.. أعِدْ إليَّ نظري.. عينٌ واحدةٌ.. مِن أجلِ أمِّي»

– «.. إذا كُنتَ تُحِبُّني تقبَّلْ ما جَرَى..»

في هذهِ اللّيلَةِ الحواريَّةِ مع الله شعَرَ الكاتبُ بـ «شعاعٍ وسلامٍ داخليٍّ يسبرُني، سأبدأ مِن جديدٍ.»

من هنا تبدأ الحكاية. في مواجهة مرحلة جديدة من حياته، أخذ «حسّون» يتعلَّمُ القراءة والكِتابة وفقَ طريقَةِ «برايل»، وتمرَّس في كيفيَّةِ استخدامِ عصا المكفوفينَ وسائرِ مُتطلِّباتِ الكفيفِ. وإنجازُها كان يحتاجُ إلى سنةٍ كاملةٍ فأنجزها في ثلاثةِ أشهر. ومتخلّيًا عن فكرةِ دراسةِ الطُّبِّ بسببِ عدمِ الرَّغبةِ في العودةِ إلى بيروتَ اختارَ الحصولَ على دبلومٍ في علومِ الكومبيوتر مِن جامعةِ ليون الفرنسيَّةِ، ولكنّ حياته الجديدة حملت له المعاناة: «كنتُ أشعرُ بالوحدَةِ الرَّهيبةِ والهشاشةِ والهجرِ.. كانَتْ حياتي مُظلِمَة…» (ص.102). هذهِ الحالةُ جعلتْهُ يستذكِرُ في أمسيةِ صلاةٍ مِن أجلِ لبنان في( سان نيزيي – Saint_Nizier) حيث صورةُ السَّيِّدِ المسيحِ الّذي سقطَ ثلاثَ مرَّاتٍ تحتَ ثِقلِ الصَّليبِ، ومِن ثُمَّ قام…

يخبرنا الكاتب في تفاصيل الحكاية المؤلمة عن «التَّعزياتِ الصَّغيرةِ المُفرحَةِ الَّتي بلسَمَتْ جِراحَ تجاربي» وإن كانَ هناك شريكٌ يُعطيهِ الثِّقةَ للاستمرارِ، فهو ملاكُهُ الحارسُ المتمثّلُ بـ (سمعانِ القيروانِ) الّذي حملَ الصَّليبَ وراءَ السِّيدِ المسيحِ والّذي «ساعدَني في فتحِ بابٍ هُنا، وأخرَجَني مِن مأزقٍ هناكَ، وأعادَ تصويبَ مساري» (ص.105) .

كان يؤرِّقُهُ الحنينُ إلى الوطنِ، وكذلك الوحدة. فاستدعى أخاه من لبنانَ ليعيشَ ويتعلَّمَ معهُ. وحصلَ على منحةٍ تعليمِيَّةٍ، ودعمٍ من صندوقِ مساعداتِ الطُّلّابِ اللّبنانيّين في فرنسا. لكِنَّ المِنحةَ ما لبثَتْ أن سُحِبَتْ لأسبابٍ سياسيّةٍ، وتوقَّفَ الدَّعمُ، فوجدَ الكاتبُ نفسهُ وأخاه أمامَ خيارِ الأعمالِ الحرَّةِ…

مرّة أخرى وضعته الحياة أمام الاختبار، حينما تمّ الإعلان عن اكتشاف هويّة مفجّر العبوة، الَّتي تسبَّبَت بفقدانه البصر، واعتقاله في بيروتَ وإحالته إلى المحاكمةِ. تمنّى حينها لو يستطيع إلى الجاني سبيلًا ليقومَ بخنقِهِ، وتمزيقِهِ، واقتلاعِ قلبهِ وعينيهِ… وأمامَ ردَّةِ فعله تلك، استعادَ الكاتبُ مقطعًا مِن الإنجيلِ، يُذكِّرهُ بالتزامهِ الشُّروع بالمغفرةِ… «هل تُحبُّني؟»

عِندها انهارَ وجثا على ركبتيهِ وطلبَ الغفرانَ..

استمرَّ الكاتبُ على هذا المنوالِ إلى أن قرَّر التّواصلَ مع عرَّافِهِ، بهدفِ تقديمِ اعترافٍ شاملٍ دامَ أيّامًا، في دير سيّدة الثّلوج.. قالَ عنهُ: «.. تأثّرتُ جدَّا، فخررتُ ساجدًا عندَ قدمَي أمِّي العُلويّة.. توسّلتُها بلهفةٍ.. أرجوكِ ساعديني أريني الطّريقَ إلى المغفرةِ..» عندها شعر بانفتاحِ طريقٍ أمامَ ناظِريهِ وتوقَّفَ عن الاتّكاءِ قائلًا: «نعم سأنطلقُ في طريقِ المغفرةِ الطَّويلِ والصَّعبِ..» (ص132).

كان عليهِ أن يدركَ أنَّ الطريقَ سيكونُ طويلًا، فيما أوضاعُهُ الحياتيّة ستمنعه مِن الصّمودِ وبناءِ عائلةٍ.. الأمرُ الّذي جعلَ الكاتبَ يدعو السَّيّدةَ العذراءِ إلى مساعدَتِهِ في إيجادِ عملٍ. وما هي إلَّا أيّام قليلةٍ حتّى استُجيبَت دعوته … حملَ هذا الوضعُ الجديدُ، في مجالَي المغفرةِ والعملِ، الكاتبَ على الإحساسِ بأنّ «كلَّ أنواعِ الهمومِ والعقباتِ الَّتي تعثرتُ بها سابقًا وكأنَّها تنهارُ..».

وتتوالى الصّفحات وصولًا إلى ما أسماهُ «المشروعُ المزدوجُ : قبولُ حالتي، وعيشُ نعمةِ الغُفرانِ» (ص.148)، وقد استمرّ عشر سنواتٍ. أدركَ فيها ثمنَ الحياةِ وتعلَّمَ التَّوقّفَ عن إلقاءِ اللّومِ على عماه في كُلِّ مصائبهِ. تغيَّرتْ حياتُهُ بأسرها.. اكتشفَ «أنَّ الشَّرَّ غيرُ موجودٍ بالضّرورةِ، ودرب الاهتداءِ الّذي يُشبهُ النَّهرَ الجارفَ في طريقهِ كلَّ مشاعرِ الاستياءِ والغضبِ وجراحِ الماضي» (ص.159).

هذا التّصالح مع الحياة يسّر له باقي الطّريق. تابعَ عملهُ في برمجةِ الكمبيوتر، لاسيّما ما يتعلّقُ منها بأوضاعِ المكفوفينَ وحياتهم.. تزوَّجَ مِن امرأةٍ فرنسيّةٍ، ولأنَّه كانَ يعتبرُ أنَّ الانجابَ عطيَّةٌ مِن الله، ولنيل نعمةِ الأبوّة والأمومةِ راح يؤمّ الأماكنَ المُقدَّسةَ متوسّلًا، وأثناء زيارتِهِ مقام (سيّدة بشوات) في البقاعِ اللّبنانيِّ، رجا السّيّدةَ أن تحقّقَ رغبته في إقامةِ عائلة حقيقيّةٍ «أغدق عليه من نعمه، فرُزِقَ بثلاثِ بناتٍ وصبيٍّ على التَّوالي». وهكذا، تأكَّدَ أنَّ هناكَ مَنْ يرسمُ طريقَهُ وقد أظهرَ لي (مار شربل) أنّ الله ينظرُ إلينا كما نحن، فعيناهُ المغمّضتانِ في الأيقونةِ الَّتي تمثِّلُهُ تُعبِّرانِ عن ذلكَ.

أمامَ هذا التَّحوّلِ في حياةِ الكاتبِ، طرحَ سؤالَهُ الكبيرَ «ماذا سأفعلُ بكلِّ هذا؟» لقد ألقى الشّبكةَ حيثُ طَلَبَ مِنهُ السَّيّدُ المسيحُ، وقد حصلَ على الصّيد الوفير.. وخرجَ بخُلاصاتٍ، مِنها: أنَّه تعلَّمَ أن يعرِفَ نفسَهُ ويقبلَ بصفاتِهِ من دونِ أن يفتخِرَ بها، ونقائصِهِ من دونِ أن يشعُرَ بالذّنبِ، كما تعلَّمَ أن يجعلَ الله يحوِّل ضَعفَهُ إلى قوَّةٍ.. ويثبِّتُهُ على الإيمانِ والرِّضا.. ها هو يمضي حتَّى السَّاعةِ في الأداء بشهادةِ حياتِهِ وينشرُها في الكنائسِ وبين الشَّبيبةِ، وكِبارِ السِّنِّ، وكلِّ المجموعاتِ الرّسوليّةِ والإعلامِ.. فرسالتُهُ تؤثِّرُ، تغوي وتنتقل.

كانت هذه، إذًا، سيرة الكاتب فيما يتعلّق بظروف حياته في إثر خسارته بصره، وصراعه الرّوحيّ والأخلاقيّ والكيانيّ الّذي جعله يسلك طريق الصّفح والمغفرة لمن أساء إليه، والحبِّ الإِلهيّ لمن حرسَه، وقادَه، وحماه من السّقوطِ في براثنِ الضّغينة. وقد ترافقت هذه السّيرة مع بعض «القراءات السّياسيّة» و«الوقائع المادّيّة» الّتي حبّذا لو أنّ الكاتب دقّق في بعضها، ولاسيّما ما له صلة بالوضع الّذي كان قائمًا في قريته «بريح»، وقد شبَّهها بـ «جنّة عدن» (ص.30)، واصفًا ناسها بالأحرار في كلّ خياراتهم ولاسيّما الدّينيّة منها (ص.34)، ومعتبرًا أنّ العلاقاتِ بين الدُّروز والمسيحيّين جيّدة جدًّا، فهم يتقاسمون كلَّ أشكالِ الحياة من دون أن يعكِّرَ صفوها شائبة. ولكنّ التحوّل يحدث في السّرد عندما يتطرّق الكاتبُ فجأةً إلى مسألة استشهاد كمال جنبلاط، وما تلاه من ردَّات فعل ومواقف شجب وإدانة عامّة. فيختار أن يصف ما جرى في البلدات المحيطة ببلدته، لجهة سقوط الكثير مِنَ الأبرياء الّذين قتلوا بأبشع الطرق والوسائل..مستعيدًا بالذّاكرة حادثة الدّخول إلى كنيسة مار چرجس في «بريح» وقت القدّاس، عازيًا سبب هذه الحادثة إلى أنّ «قلوب المناصرين الدّروز الاشتراكيّين لم تهدأ»، بعد الاغتيال.

إنّ ملاحظاتي على هذه الواقعة المؤلمة في تاريخ حروبنا البغيضة أنّ الكاتب لم يأت من قريبٍ أو بعيد على محاوﻻتٍ بذلها أُناس كانوا يقدِّرون صيغة العيش المشترك في البلدة من الجانبين، وهم كثر وأنا من بينهم، وقد نجحوا في تخليصها مرارًا من تصادمات بين أهلها ومواجهات كان من الممكن أن تقضي نهائيًّا على تلك العلاقة الودّيّة بينهم. أمّا بخصوص الإشارة إلى أنّ تلك الحادثة المؤسفة أتت على خلفيّة تغييب الزّعيم كمال جنبلاط فهذا ليس واقعيًّا ودقيقًا، قد يكون أنّ الكاتب خلط بين أمرين (وللأمانة التّاريخيّة لا بدّ من بعض التّصويب، وأنا أبن بلدة بريح، وشاهد على ما حدث حينها): إنّ حادثة الكنيسة جاءت بعد مرور أربعين يومًا على استشهاد الدّكتور جورج شلهوب من بلدة بريح (وكان من النّخب اللّبنانيّة والعربيّة العاملة في الجزائر ضمن مجموعات عدم الانحياز) وقد اغتيل على يد أحد  الحواجز السّوريّة، في مدينة عاليه. وحينها أدان دروز البلدة الاغتيال، وشاركوا في تشييعه، فحملوه فوق أكتافهم من مدخل البلدة حتّى ساحة منزله، ولكنّ إصرار بعضهم على وجود أكاليل وشعارات لمنظّمات سياسيّة دخيلة على البلدة، دفع بالمشايخ الدّروز إلى الانسحاب.

واستدراكًا لعدم تعميق الخلافات، جرت مفاوضات لتهدئة الأجواء والسّعي إلى مشاركة الدّروز في أربعين «الشّهيد شلهوب»، ولكنَّ تلك المشاركة لم تلق التّرحيب، وقوبلت بالرّفض القاطع.. وحلَّ اليوم المشؤوم يوم الأربعين الّذي أراده بعضُهم مشحونًا بالتَّوتّر الشَّديد، فكان حادث دخول الكنيسة المُدان، ومقتل اثني عشر شخصًا وليس «العشرات» ص.(58)، كما ذُكر في الكتاب. لقد سقطت الضّحايا في تلك الحروب من الجانبين، مسيحيّين وموحّدين دروز، ولم تتمّ الإشارة إلى ذلك أيضًا.

قصدتُ من هذه المصارحة، وذكر بعض الحقائق وظروفها، أن أجعل الحقائق ساطعة، فسطوعها يحثُّنا على تنقية الذّاكرة، ومن ثمّ المسامحة والمغفرة واستكمال طريق المحبّة الّتي اعتمدها الكاتب، فحوّلت حياته ووجدانه، وهو أمر يُبنى عليه للمستقبل بهدف بناء عيش آمن ورغيد.

كتاب غفرْت للكاتب فؤاد حسّون يستحقّ القراءة، والغوص في تفاصيله، وتحليل أحداثه، وأخذ العِبر منه.. كيف لا، وقد طرح منحًى تغييريًّا  قلّما يحدث في حياة الأفراد الّذين عزموا على المسامحة والمضيّ بمحبّة إلى الأمام.

الأستاذ خالد العلي: حائز شهادة الماجستير في علم الاجتماع السّياسيّ – معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللّبنانيّة. مستشار سابق لوزير الثّقافة والإعلام، وكاتب في صحيفتَي السّفير والمستقبل.

[email protected]

Share This