الخوري ميلاد عبّود
ملامح وطن
ط.1، 220 ص.بيروت: دار المشرق، 2023
ISBN: 978-2-7214-5650-2
كلّ مبتدَأ الرّوايات اليوم يأتي من خارج حدود الوطن ليكون خبره في الدّاخل. فالمكان الأوّل في الكتاب هو «مقعد خشبيّ جلس عليه «راجي» في حديقةٍ بمدينة مونستر الإلمانيّة» (ص. 9). يصير المكان في الغربة محطّة انتظار للعودة إلى الوطن، بعد أربع عشرة سنة (ص. 9). يبدو مسقط رأس راجي في الشّمال مجهولًا إذ لم يسمّه الكاتب، بل ركّز على أنّ البطل «استوطن» بيروت (ص. 10). كأنّ بيروت تختصر للنّازل فيها الجهويّات والمسافات، فهي مدينة «انفتحت على الثّقافة الغربيّة، وبقيت حاملة راية العروبة واللّغة العربيّة، بيروت الّتي استقبلت كلّ من تشرّد من بلده لأسباب متعدّدة» (ص. 1). هي المدينة الّتي أطلقت شرارة حراك 17 تشرين، برؤيتها المجدّدة، ولكن أيضًا ببعض ممارساتها الميدانيّة المسيئة «والشّعارات والألفاظ المنافية للأخلاق». (ص. 14).
أقلقت البطل» راجي»، العائد بعد غربة، تداعيات تفجير مرفأ بيروت، وهالته أزمة اللّجوء السّوريّ، والتّهافت على فرز النّفايات في المستوعبات بحثًا عن طعام أو جمعًا لموادّ للبيع. (ص. 18). ما كان «راجي» يعرف من بيروت إلّا ترفها وحضورها الهندسيّ المتمايز، إلّا أنّ تفجير المرفأ جعله يشهد هشاشة البيوت القديمة وتساقط الأبنية التّراثيّة ، إضافة إلى أنّ سيره في الأزقّة لممارسة المشي قاده إلى الإدراك «بأنّ الفقر والإهمال ضيفان قديمان على بيروت العاصمة (…) وغياب مقوّمات السّكن الصّحيّة في الكثير من أحيائها». (ص. 35).
هذه المعاينة اليوميّة الميدانيّة دعته إلى التزامه الدّفاع عن قضايا التّراث والأصالة، فانصرف إلى العمل مسؤولًا في جامعة الحكمة الّتي تأسّست في العام 1875 (ص. 38)، فتسنّى له اكتشاف الازدواجيّة الّتي يعيشها شباب الوطن، إذ «رأى طلابًا يدّعون الإيمان، لكنّهم يكفّرون الآخرين أو يبتعدون عنهم ويتجنّبونهم ولا يقدّمون لهم الضّيافة» (ص. 45)، فبحث في مفهوم قبول الآخرين المختلفين شركاء في الحياة الجامعيّة والاجتماعيّة، وطبعًا الوطنيّة لتأسيس عيش مشترك روحيّ واجتماعيّ وسياسيّ.(ص.46)، ولأنّ هويّة «هذا الكتاب دعوة إلى متابعة المحادثة»(ص. 5) «كان «راجي» يلتقي الطّالب «داني» في مكتبه بالجامعة، وهو طالب مثقّف». (ص. 47) هنا بيت القصيد إذ يبدأ الكتاب بنشر حوار بين الاثنين في فترات متلاحقة يعرض فيه الكاتب آراءه ولو بأسلوب ذاتيّ وغيريّ، كأنّه يطرح نفسه أمام نفسه، بين دواخله الحقيقيّة وبين المؤثّرات الاجتماعيّة الّتي تطغى في كثير من الأحايين على أصالة الإيمان الأوّل، والبراءة الأولى، في تقبّل الآخر وتفهّم الاختلاف في الفكر الطّائفيّ، في الحضور المسيحيّ الكنسيّ، العيش المشترك، استراتيجيّة رفض الآخر، الانخراط في مشروع العروبة الوطنيّة، الرّجاء في مفاصل الحياة. يحمّل «راجي» حديثه مع «داني» استنارات المفكّرين أمام بحث الضّائعين عن الهويّات القاتلة، فهو يعيد التّوازن إلى العقل في زمن الانفعال فيقول: «إنّ المسيحيّين لا يعبدون وطنًا لأنّ كلّ أرض غريبة، بحسب كلام مسيحيّ قديم، هي وطن لهم، وكلّ وطن هو أرض غريبة عندهم، المسيحيّون يحجّون إلى الملكوت السّماويّ». (ص. 76).
من هنا ينطلق راجي ليؤكّد لـ «داني» أنّ هويّة لبنان الأساسيّة هي «الهويّة المنفتحة الّتي تُغني، أمّا الهويّة المنغلقة فتؤدّي إلى التّعصّب والموت» (ص. 75). كما شرح مفهوم الوحدة في التّنوّع «فالتّنوّع السّياسيّ (…) هو صحيّ وديمقراطيّ شرط ألّا يؤدّي إلى التّشرذم، التّنوّع هو دائمًا غنى وعلامة من علامات العمل السّياسيّ الدّيمقراطيّ (ويصبح هذا التّنوّع كارثيًّا عندما يتحوّل إلى صراع وشيطنة الآخر». (ص. 97) طبعًا عرضُ «راجي» و«داني» كثيرًا من الأحاديث وسردُها يحتاجان «إلى حبر كثير وورق وفير»، لكنّ الكاتب اكتفى بأهمّها وأعمقها، تاركًا للقارىء أن يفكّر فيها. (ص. 98).
وينتقل المؤلّف إلى محطّة أخرى حيث يلتقي «راجي» في جامعة الحكمة بـ «طارق». «إنّه قاضٍ ذو ثقافة وافرة (…) المسلم العارف جيّدا هويّته الإسلاميّة، والفخور والمتمسّك بها من جهة، والمنفتح على الهويّات وعلى الثّقافات والأديان من جهة أخرى» (ص. 99)، والّذي اكتشف في شخص راجي «إنسانًا مصغيّا منفتحًا على العالم العربيّ وعلى الإسلام والمسلمين من باب الاحترام والإنسانيّة والوطنيّة والتّاريخ المشترك». (ص. 100) تناولت أحاديثهما مفهوم العدل والحوار والتّعدديّة والأمانة والمسؤوليّة الشّاملة والعيش المشترك والمواطنة والحرّيّة الدّينيّة، بحثًا عن جواب عن سؤال: «كيف تقوم شراكة كاملة في مجتمعات تتلوّن بالأحاديّة، وتفقد شيئًا فشيئًا بريق وجمال التّنوّع الدّينيّ واللّغويّ والثّقافيّ؟» (ص. 135) من هنا خرج المتحاوران بأنّ «الميثاق هو العيش معًا شهادة ﷲ وخدمة الإنسان، أيّ إنسان. الميثاق والعيش المشترك ليسا أوّلًا دفاعًا عن حقوق الطّوائف، بل عن حقوق المواطنين، وخصوصًا المحرومين والفقراء والمهمّشين». (ص. 142).
ينتقل الكاتب إلى مرحلة متقدّمة، إلى الطّالبة «ديما» الّتي تسعى إلى تأسيس نادٍ طلّابيّ جامعيّ يحمل اسم «علمانيّون وعلمانيّات». (ص. 144) التقاها مرارًا مع زميلها «خليل» النّاشط، حيث أشار لهما إلى «أنّ العلمانيّة لا تستطيع أن تكتفي بذاتها ولا تملك الأجوبة على كلّ شيء» (ص. 166)، ردًّا على ما قاله أحد المحاضرين في ندوة للنّادي المذكور، متسائلًا «هل تستطيع العلمانيّة أن تتجاهل البعد الماورائيّ للإنسان؟ هل تستطيع أن تقفز فوق أسئلته الوجوديّة عن الألم والموت والحياة؟ هل تستطيع أن تكون العلمانيّة مشروعًا كاملًا ومتكاملًا على المستوى الفلسفيّ والأخلاقيّ والسّياسيّ؟» (ص. 167)، لذا دعا «راجي» الطّالبَين ومن معهما إلى «أن لا تنغلقوا على الحوار، لبنان والشّرق بحاجة إلى بناء مجتمع مدنيّ يضمّ الجميع، ويرحّب بالجميع. فالتّعدّدية غنًى، والعلمانيّة الإيجابيّة تودّي دورًا بنّاءً في قيام دولة المواطنة والمساواة». (ص. 187). قبيل انتهاء مضمون الكتاب يعود «راجي» إلى الأصول، حيث يستقبل صديقه القديم الّذي عالج في أطروحته موضوع «الرّحمة في الإسلام والمسيحيّة» ليخلص إلى التّذكير بالأصول: «علينا أن نرحم بعضنا بعضًا كما رحم يوسف إخوته، وغفر لهم، ورمّم بالتّالي ميثاق الأخوّة الّذي يساوي بين الجميع، وبالتّالي لا يعترف بسلطة القويّ على الضّعيف، بل يعترف بسلطة المحبّة. الرّحمة قادرة على تغيير القلوب وتوحيدها». (ص. 204).
في الفصل الأخير من الكتاب يسرد المؤلّف في ذاتيّته، متوقّفًا عند مدينته بيروت، متوغّلًا في ماضيها، في واقعها الحاليّ، مستذكرًا ما كانت عليه، شاهدًا لضرورة عودتها إلى حالتها الحضاريّة المعطاءة، بنسيجها الفريد، بشعبها الرّاغب بالحياة، «والسّؤال الّذي كان يطرحه «راجي» دائمًا: «هل ينسى اللّبنانيّون المنتشرون بيروت ولبنان؟ كيف يبقى لبنان وبيروت حيّين في قلوبهم؟ وأيّ صورة عن الوطن ستتلقّاها الأجيال القادمة؟ أهي صورة لبنان الرّسالة أم لبنان ملوك الطّوائف؟ لبنان المشرذم أم لبنان الواحد المتنوّع؟ لبنان الشّفافيّة والمحاسبة أم لبنان الفساد؟
من هذا الكتاب المنبر الثّقافيّ الحواريّ يترك الخوري الدّكتور ميلاد عبّود للقارىء تحديد الإجابات فيما يرسم «ملامح وطن».
الدّكتور جان عبدالله توما: حائز دكتوراة في اللّغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللّبنانيّة. أستاذ محاضر في جامعات: القدّيس يوسف، واللّبنانيّة، وسيدة اللويزة، ويشغل منصب رئيس قسم اللّغة العربيّة في جامعة الجنان. له أكثر من سبعة عشر إصدارًا يتراوح بين كتب أدبيّة، وشعريّة، ورواية، ودراسات تربويّة، وتحقيق مخطوطات.