الأب سامي حلّاق اليسوعيّ
مسألة الشّرّ والشّرير في الدّيانات القديمة والكتب المقدّسة
ط.1، 87 ص. سورية: دار الكتاب المقدّس، 2023
منذ فاتحة التّاريخ، أكبَّ الإنسانُ على البحث عن علّة وجود الشّرّ، وبخاصّةٍ ذاك الّذي لم يتولّد من قرارات بني آدم، فأضحى، منذ ذلك الحين، «معضلة البشر الكبرى» (ص. 9). في كتابه الجديد، يُطلِعنا الأب سامي حلّاق على الإجابات الّتي قدّمتها الدّيانات لمؤمنيها على مدار الزّمن عن هذه الإشكاليّة.
هو راهب يسوعيّ من مواليد حلب العام 1960، حاز إجازة في الهندسة الميكانيكيّة وماجستير في اللّاهوت. درّس اللّاهوت في جامعة القدّيس يوسف اليسوعيّة وفي مراكز أخرى، كما وعظ الرّياضات الرّوحيّة وأدار مشاريع الهيئة اليسوعيّة لخدمة اللّاجئين في مدينة حلب. صدرت له مؤلّفات وترجمات لاهوتيّة وروحيّة يربو عددها على الأربعين، ومنها عن دار المشرق: قدّيسون وشهداء يسوعيّون (2004)، مجتمع يسوع (2009)، أوراق البيئيّة (2011)، سبع هِبات من الرّوح القدس (2011)، الثّائر الأعزل أوسكار روميرو (2011)، لاهوت النّساء (2016)، لاهوت التّحرير الأورثوذكسيّ (2017).
يستهلّ الأب حلّاق جولته مع ديانات ما بين النّهرَين الّتي حثّت أبناءها على استرضاء آلهة الأوبئة والفيضانات بتقديم الذّبائح والصّلوات، قبل أنْ يحتجّ زرادشت على التّقليد مؤكّدًا أنّ العالم حلبة صراع مرير بين آلهة خيرٍ لا ترتكب الرّذيلة وآلهة الشّرّ.
تأثّر العهد القديم بالتّعاليم الزّرادشتيّة في فترة السّبي، فبعد أنْ علّم العبرانيّون أنّ ﷲ يبتلي البشر بالأمراض والكوارث عقابًا على آثامهم (ألم يدمّر الملاك مدينة سدوم؟) وعجزوا عن تفسير «ألم الأبرار»، أخبروا عن شيطانٍ يستأذن ﷲ لامتحان صدق المؤمنين، وفي طليعتهم أيّوب البّار، ثمّ تحوّل تدريجيًّا إلى كائنٍ مستقلّ. وفي القرن الثّالث قبل الميلاد، تشرّب اليهود الأفكار اليونانيّة الّتي أحضرها الإسكندر المكدونيّ وتبنّوا مصطلحاتها الفلسفيّة في ترجمة النّصوص ومنها كلمة «ديابولوس»، ومعناها «الّذي يرمي الشّقاق» (الّتي تحوّلت إلى «إبليس» في اللّغة العربيّة»).
في العهد الجديد، لم يتطرّق يسوع لأصل الشّرّير، بل حثّ على التّصدّي له، وكان هو نفسه نموذجًا للمؤمنين في مواقفه الثّابتة في رواية التّجارب الّتي هي، بحسب الأب حلّاق، اختصار للإغراءات الّتي تعرّض لها المسيح في أثناء رسالته التّبشيريّة، ومنها مثلًا السّعي إلى الشّهرة. أمّا بولس فيذكر تارةً الشّيطان وطورًا إبليس، مميّزًا بين هويّتَين، فيما الكتب الأخرى من العهد الجديد لا تفرّق بينهما. في الأحوال جميعها، إذا كان الشّرير هو مصدر الشّرّ، فالإنسان يبقى سببه في حال رضيَ بحيل المجرّب (ص. 55). يختتم المؤلّف جولته مع قصّة سقطة الشّيطان وعصيانه لأمر ﷲ في الإسلام.
في الفصل الأخير، ينكفّ المؤلّف عن دور المؤرِّخ الموضوعيّ، ليَشرق مكانه وجهُ المرشد الرّوحيّ الّذي يدعو المؤمنين إلى «معرفة العدوّ» المفتري الّذي يستخدم أسلحة كثيرة كالتّضليل. فالإنسان وحده يملك الحريّة لمقاومة الرّوح الشّرّيرة ولعدم الامتثال لغرائزه، مستندًا في كفاحه إلى المسيح الّذي هزم العدوّ بقيامته.
هذا الفصل الرّوحيّ، كشف عنه المؤلِّف في الصّفحات الأولى موضّحًا: «كي لا يستنتج القارئ في هذا الكتاب نوايا ليست لدينا» (ص. 11). هذه الحيطة لربّما – وقد أكون مخطئًا – سببها أنّ الاعتقاد بوجود الشّيطان أو عدمه أضحى، في رأي غالبيّة مسيحيّي المشرق، مقياسًا فاصلًا بين فئة أمينةٍ لوديعة الإيمان وفئةٍ أعرضت عن التّعاليم التّقليديّة. وللأسف، في الوقت الرّاهن، أصبح «الإيمان» بوجود الشّرّير المعيار الأوّل للبتّ في استقامة التّعليم المسيحيّ أو الخروج عنه، وهذا ما نلتمسه في السّجالات على مواقع التّواصل الاجتماعيّ مع ما يرافقها من حملات تشهيرٍ وترهيب وتضليل.
تكمن أهميّة هذا الكتاب في أنّه يضع في متناول الأفرقاء المعطيات التّاريخيّة واللّاهوتيّة من أجل مقاربة الموضوع بعيدًا من المواقف العدوانيّة أو الغرائزيّة. وفي رأيي، لا بدّ من أنْ يتبنّى الجميع مسبقًا مبدأَين راسخَين من تعاليم الكنيسة ارتكز عليهما المؤلِّف: أوّلًا، القبول بنموّ الإلهام في الكتاب المقدّس، أي أنّ أسفاره «تصحّح ذاتها باستمرار وتعيد النّظر بمواقف سابقة» (جان لوي سكا)؛ وثانيًا، القبول بأنّ الكُتَّاب المُلهَمين تأثّروا بحضارات الشّعوب المحيطة بهم فغرفوا من تراثها تعاليم تبنّوها بعد أن رفعوا عنها ما يتعارض والوحي الإلهيّ. والحال أنّ القسم الأكبر من مسيحيّي الشّرق لا يزال يتمسّك في تنزيل نصوص الكتاب المقدّس، وبالتّالي في قراءةٍ حرفانيّةٍ لها.
االأب غي سركيس : حائز درجة الدّكتوراه في اللّاهوت من الجامعة اليسوعيّة الغريغوريّة الحبريّة (روما). أستاذ محاضر في جامعتَي القدّيس يوسف، والحكمة. وهو كاهن في أبرشيّة بيروت المارونيّة. له مجموعة من المؤلّفات الدّينيّة والتّأمّليّة والفكريّة في اللّاهوت المسيحيّ، وحوار الأديان والحوار الإسلاميّ المسيحيّ، وبعضها من إصدار دار المشرق (نوبل للسّلام… لمن؟، أؤمن… وأعترف، قراءة معاصرة في الإيمان المسيحيّ، وإيمان في حالة بحث، النّشاط اللّاهوتيّ في المسيحيّة…).