ليس سرًّا أنّ المركز التّربويّ للبحوث والإنماء في لبنان، بتوجيه من وزارة التّربية والتّعليم العالي، قرّر أن يعيد النّظر بالبرامج المدرسيّة اللّبنانيّة الّتي كانت قد صيغت في العام 1994، وبالتّالي، وكما ينبغي، أصدر المركز، وبعد دراسة مطوّلة واستفسارات مستفيضة «الإطار الوطنيّ اللّبنانيّ لمنهاج التّعليم العامّ ما قبل الجامعيّ» الجديد في الفصل الأخير من السّنة الفائتة، وثيقةً رسميّة معدّة للاعتماد من السّلطات الرّسميّة المخوّلة بذلك.
وإن اخترتُ الكتابة في الموضوع، فلأنّ التّربية المدرسيّة اللّبنانيّة ساهمت وتساهم في بناء الرّأسمال اللّبنانيّ المثقّف والمتعلّم الّذي أثبت جدارته عبر السّنين الطّوال – هذا من ناحية – ولأنّ هذا الرّأسمال - المؤسّس، على صعيدَي الرّسميّ والخاصّ، أصيب إصابة بليغة مع تعدّد الأزمات السّياسيّة والماليّة والاقتصاديّة، بحيث إنّ انهيار اللّيرة اللّبنانيّة أمام الدّولار الأميركيّ انعكس شبه انهيار لواقع المدرسة في لبنان ولحالة التّربية المدرسيّة المرافقة، وواضحٌ أنّ سنوات جائحة الكورونا وما تركته من آثار تدميريّة، ثمّ انفجار مرفأ بيروت زعزعت أسس المدرسة الّتي كانت تعاني منذ صدور برامج الـ1994، والّتي لم تطبّق كما هو مطلوب، وقد أسفر ذلك الأمر عن سقوط متواصل لبُنية المدرسة ورسالتها، وأبلغ دليل على ذلك تراجع لبنان المستمرّ في تصنيفات الـ TIMSS والـ PIRLS اللّذين يقيِّمان مستوى النّجاح والتّقدّم أو التّأخّر في موادّ العلوم والرّياضيّات وغيرها، بحيث وصلت مرتبة لبنان إلى المؤخّرة بعد أن كانت لسنوات طويلة بين دول المقدّمة.
والسّؤال الّذي يُطرح هو الآتي: ما العمل لكي تستعيد المدرسة في لبنان ألق رسالتها التّربويّة؟
بصورة سريعة نتوقّف عند المتطلّبات الآتية:
أوّلًا: اعتماد مفهوم الإنصاف، وهو مشتقّ من مفهوم العدالة بحيث يكون التّعليم متوفّرًا للجميع، أكان ذلك في الرّسميّ أم في الخاصّ، في مواجهة اللّامساواة في الفرص الدّراسيّة من باب الكمّ والنّوع.
ثانيًا: للمدرسة دور أساسيّ في الاندماج الاجتماعيّ، لا في الانصهار الاجتماعيّ الاستبداديّ، بحيث يكون هناك سياسة تجمع بين الاختلاط والتّقارب وتكافؤ الفرص في إطار من الحوكمة المدرسيّة الرّشيدة مع الاعتراف الصّريح بدور لوزارة التّربية الحاضنة للنّظام التّربويّ بألوانه كافّة.
فإصدار المنهاج ليس مجرّد ترتيب إداريّ ظاهريّ بل هو دعوة للجميع لكي يعتمدوه إطارًا مرجعيًّا وتربويًّا لكلّ التّلامذة اللّبنانيّين.
ثالثًا: إذا كانت مهمّة المدرسة هي الاندماج الاجتماعيّ، فالجودة في التّعليم والتّربية تصبح هي أيضًا مطلبًا أساسيًّا للجميع؛ للمدرسة الخاصّة والمدرسة الرّسميّة على حدٍّ سواء.
وهنا ينبغي على المسؤولين في الدّولة والمعلّمين في القطاع الرّسميّ أن يتصرّفوا كما لو أنّ المدرسة الرّسميّة هي لهم ومنهم، فيعطوا الأفضل للتّلميذ في هذا القطاع بحيث يصبح منافسًا جيّدًا للقطاع الخاصّ.
من هذا المنظور، يصبح منطقيًّا وضروريًّا أن يمرّ التّغيير على مستوى مفهوم التّربية، بحيث لا يكون هناك جزر مقفلة تتمثّل في بعض الخاصّ والقليل من الرّسميّ، وحالة شبه عامّة تكتفي بالقليل من التّعلّم والاكتساب.
رابعًا: إن أردنا أن تكون المدرسة، أكانت رسميّة أم خاصّة، تلك المؤسّسة القويّة القادرة بين مؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة بحيث تمثّل الخير العامّ والمصلحة العامّة ونظام القيم العليا المشتركة، يصبح المنهاج العامّ الأساس في شرعتها التّربويّة والأوّل لا اللّاحق. وعندما تتسلّل مناهج رديفة تمثّل السّياسات الحزبيّة والطّائفيّة داخل المدرسة فذلك يُعدّ معاكسًا للخير العامّ، ومخالفًا لروحيّة الإطار الوطنيّ وصدقيّته.
صحيح أنّ المادّة العاشرة من الدّستور تعطي المدرسة مجالًا لإدخال مفاهيم إضافيّة على المنهاج العامّ، إلّا أنّ ذلك لا ينبغي أن يعاكس المناهج الوطنيّة العامّة الّتي تفرضها السّياسة التّربويّة العامّة.
خامسًا وأخيرًا: تتبوّأ المدرسة دورها المرموق، وتحقّق رسالتها في تربية الفرد والمواطن، عندما يقوم المعلّم بدوره الرّياديّ، ليس في التّلقين أو إعطاء المعلومة وحسب، بل في تربية التّلامذة، كلّ التّلامذة، على الحسّ النّقديّ، على معرفة التّحليل والتّصرّف الرّشيد بالمعلومات، بحيث يساعد التّلميذ على بناء ذاتيّته وشخصيّتِه المميّزة القادرة على استرجاع المعلومات كما يجب، وكذلك في التّفكيك والتّوليف، وهذا يتطلّب التّدريب الأوّليّ والمستمرّ للأساتذة لينجحوا في مهمّتهم التّعليميّة. ونضيف إلى الحسّ النّقديّ ضرورة التّكيّف مع اللّغات الأجنبيّة، وأقلّه مع لغة أجنبيّة واحدة يستطيع التّلميذ بواسطتها أن ينفتح على الثّقافة العالميّة وعلى الغيريّة بمفهومها الواسع، بحيث يتطلّب ذلك تمرّسًا على القيم الأدبيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة بمختلف تلاوينها.
إنّها المدرسة للبنان الغد كما بالأمس! إنّه التّحدّي لاسترجاع دور لبنان التّربويّ في بناء الرّأسمال الثَّقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.
الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة.
[email protected]