اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

سيباستيان غُونتر

ربّني وعلّمني،
دراسات في الخطاب التّربويّ والأخلاقيّ في الإسلام

ط.1، 480 ص. بيروت – لبنان : دار المشرق، 2023
(ISBN: 978-2-7214-8181-8)

أن يتوغّل مستشرق، إذا صحّ التّعبير، في الإرث الحضاريّ في هذا الشّرق، وأن يضيء أبعاد القول «أدَّبني ربّي فأحسن تأديبي»، أو في مرامي الآية القرآنيّة : ﴿فَتَعَٰلَى ٱللّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقۗ وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن يُقۡضَىٰٓ إِلَيۡكَ وَحۡيُهُۥۖ وَقُل ربِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا﴾ (طه 114)، فهذا يؤكِّد غنى هذا الإرث الدّينيّ الحضاريّ الّذي يحمل الكثير من الحضور المتنوّع على المستويات المختلفة ومنها التّربية والأخلاق.

يأتي هذا الكتاب ضمن سلسلة «نصوص ودروس، أبحاث إسلاميّة»، عن دار المشرق، في طبعة أولى، 2023، وقد أشار كاتب التّمهيد عبد الرّحمن السّالمي، من الجامعة الألمانيّة للتّكنولوجيا، سلطنة عمان، إلى أنّ هذا الكتاب «يصدر عن موضوع التّعليم الكلاسيكيّ في الحضارة الإسلاميّة، وهو مجموعة مقالات لأبحاث علميّة نشرت في مجلّة التّسامح/التّفاهم في خلال العقدين الماضيين، وتمّت إعادة صياغتها وترتيبها من جديد (…) وهي نقلة علميّة في تجسير الثّقافة الإسلاميّة في الأكاديميّات الغربيّة والعربيّة على السّواء» (ص8).

هذا، ورأى ماهر جرّار، من الجامعة الأميركيّة في بيروت، أنّ المؤلّف اشتغل «بمقاربته لمفهوم العلم في الإسلام كظاهرة حيّة، لها أبعاد مُحايثة تنهض على التّفاعل البيئيّ بين الأفراد (بين الطّالب والأستاذ، وبين الطلبة أنفسهم)، بين الفرد والنّصوص، وقد استطاع أن يضع تلك الظّاهرة في سياقها التّاريخيّ والمعرفيّ، بخاصّة على مستوى الدّوائر الاجتماعيّة الواسعة (المسجد والمدرسة وحلقات المذاكرة وغير ذلك) وشبكات المذاهب الفقهيّة والمؤسّسات الّتي ارتبطت بالسّلطة وأجهزتها، ويتمثّل الجانب الأهمّ من دراسات المؤلّف في أنّه حاول أن يقارب أكثر من مستوى في إطار بحوثه، فأوّلها التّعمّق في البحث بلحاظ كلتا البِنيَتين: الصّغرى الّتي تقوم على العلاقات الفرديّة للسّماع وتحمّل العلم، والكبرى الّتي تشمل الفضاء الثّقافيّ – المجتمعيّ الأوسع» (ص. 13).

يشكّل التّمهيد والتّقديم وكلمة المؤلّف خارطة ثقافيّة واضحة لا بدّ من مراجعتها بدقّة، لفهم مضمون الكتاب، الّذي راجع نصوصه العربيّة خالد الدّسوقي (جامعة الأزهر الشّريف)، بعد أن نقلها من اللّغتين الألمانيّة والإنجليزيّة، محمّد الشّيخ (جامعة الحسن الثّاني، دار البيضاء)، وفؤاد بن أحمد (جامعة القرويّين، دار الحديث الحسنيّة – الرّباط)، ورضوان ضاوي (جامعة محمّد الخامس، الرّباط). (ص. 24).

ومن المفيد الانتباه إلى أنّ المؤلّف اعتمد «المصادر العربيّة أو تلك الّتي كان لها أثر واضح في التّراث التّربويّ المكتوب والمتناقل باللّغة العربيّة. لذا، ومع التّأكيد أنّ كثيرًا من الأفكار والرّؤى الّتي نشأت في الفضاء الفكريّ والثّقافيّ للإسلام قد يكون لها صدى (أو أصل) في نصوص إسلاميّة مكتوبة بلغات أخرى، ولا سيّما باللّغة الفارسيّة في الفترة الكلاسيكيّة، وبالتّركيّة أو بلغات أخرى في مراحل لاحقة – فإنّ تركيزنا يبقى منحصرًا في المصادر المرجعيّة في الفكر الإسلاميّ، وهذا في الأصل هو مجال اختصاصي الأكاديميّ» (ص. 20). من هنا، برّر المؤلّف موقفه أنّه «لم يأتِ على ذكر نظريّات ومؤسّسات تربويّة وتعليميّة نشأت في أحضان الجماعات الإسلاميّة المختلفة، وخصوصًا تلك الّتي لا تزال غائبة عن اهتمامات كثير من الباحثين – من قبيل تقاليد التّربية والتّعليم عند الزيديّة، الّذين أسّسوا «معتزلات للتّعبّد والعلم» (…)، وأيضًا كأنظمة التّربية والتّعليم عند الإباضيّة (…) حيث برزت مثلًا جهود من عُرفوا باسم «نَقَلَة العلم» أو «حملة العلم»» (ص. 19). كما يبرّر المؤلّف سبب دراساته بأنّ «العلماء المسلمين انتهجوا طرقًا إبداعيّة مبتكرة في تطوير أساليب التّعليم والتّلقين بما يجعل «النّموذج التّربويّ» في الإسلام جديرًا بالتّوقّف عنده» (ص. 15).

لذا، درس المؤلّف «مباني خطاب التّربية والتّعليم في الفترة الإسلاميّة الكلاسيكيّة (المعرفة والتّراث العلميّ في الإسلام، المناهج والمؤسّسات، تلقّي المعرفة اليونانيّة القديمة، تصنيف العلوم وفروعها، النّهضة)، المدرسة كمؤسّسة للتّعليم العالي (دوافعها، مناهجها، تنظيمها، آدابها، توسّعها الجغرافيّ)، طرق التّعليم ومناهجه عند العلماء المسلمين (ابن سحنون، الجاحظ، ابن سينا، الغزالي)، التّربية الرّوحيّة عند جعفر بن منصور اليمن، والأبعاد الأخلاقيّة للمعرفة والعمل، آداب الدّنيا والدّين عند ابن قتيبة والماوردي، نقد الخطاب الدّينيّ في القرن الرّابع الهجريّ عند أبي سليمان الخطابيّ، التّربية الأخلاقيّة عند ابن مسكويه، حدود التّعلّم وآفاقه عند الغزالي وابن رشد، التّعلّم الذّاتيّ والتّطوّر الإنسانيّ عند ابن طفيل، آفاق التّربية الإسلاميّة عند مقاتل بن سليمان، الثّعلبيّ، الكسائيّ، الرّازيّ، أبو عبداﷲ القرطبيّ، ابن كثير الدّمشقيّ، السّيوطيّ، ابن تيميّة، القلقشنديّ، الخطيب التّبريزيّ، ابن خلدون، فخر الدّين الطّريحي.

خلاصة، يؤكّد المؤلّف «أنّ علم التّربية في الإسلام يعتمد على ثلاثة مكوّنات، أوّلها القرآن والسّنّة (…) إذ نجد آيات وأحاديث كثيرة تفصّل الكثير من قضايا التّربية والتّعليم، وتدعو لطلب العلم (…) والمكوّن الثّاني لعلم التّربية في الإسلام هو التّراث اليونانّي، وهو ما تلقّاه العلماء المسلمون منه، ثمّ أعادوا صياغته ليكون متوافقًا مع أسس الدّين الإسلاميّ، ويمكن اعتبار المكوّن الثّالث هو ما أضافه هؤلاء العلماء المسلمون من نتاج أفكارهم» (ص. 313)، كما يشير إلى مواقف الغزاليّ في «فضل العلم والتّعليم والتّعلّم» و«آداب المعلّم والمتعلّم» في كتابه إحياء علوم الدّين، مشيرًا إلى «أنّ الدّراسات التّربويّة الغربيّة المعاصرة تميل إلى إغفال النّظريّات والفلسفات الّتي لم تنبثق من حضارة الغرب وثقافته، ولذلك فإنّها تركّز عادة على أسس التّاريخ التّربويّ اليونانيّة والرّومانيّة واليهوديّة والمسيحيّة، بينما لا تولي تراث الحضارات الأخرى التّربويّ اهتمامًا كافيًا».

لذلك، يدعو المؤلّف «الغرب إلى دراسة نقديّة منصفة ومنظّمة لقيم الإسلام ومفاهيمه، بخاصّة ما يتعلّق منها بالنّظريّات والفلسفات الّتي وضعها العلماء المسلمون القدماء» (ص. 365)، كابن سحنون في كتابه آداب المعلّمين، وكتاب المعلّم للجاحظ، والفارابي في كتابَيه إحصاء العلوم ورسالة البرهان، كذلك ما ذكره ابن سينا بشأن تربية الأطفال في كتابه القانون في الطبّ، والغزالي في إحياء علوم الدّين، وغيرهم ممّن اطّلع المؤلّف على آثارهم ليترك، للتّراث البشريّ، كما يقول: «كنز الأفكار والرّؤى عن التّربية والتّعليم والتعلّم، الّتي كتبها علماء الإسلام منذ صدر الإسلام وحتّى العصر الذّهبيّ للحضارة الإسلاميّة في الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة». (ص. 358).

الدّكتور جان عبد اﷲ توما : حائز دكتوراه في اللّغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللّبنانيّة. أستاذ محاضر في جامعات: القدّيس يوسف، واللّبنانيّة، وسيّدة اللويزة، يشغل منصب رئيس قسم اللّغة العربيّة في جامعة الجنان. له أكثر من سبعة عشر إصدارًا يتراوح بين كتب أدبيّة، وشعريّة، ورواية، ودراسات تربويّة، وتحقيق مخطوطات.

[email protected]

Share This