الأب صلاح أبو جوده اليسوعيّ
الدَّولةُ الضَّائِعَة شروطُ التّحوُّل الدّيموقراطيّ في لبنان والعالم العربيّ
ط.1، 268ص. بيروت: دار المشرق، 2023
(ISBN: 978-2-7214-7116-1)
يذكّرنا كتاب الأب صلاح أبو جوده اليسوعيّ بالمسح الاجتماعيّ والاقتصاديّ الشّامل الّذي قام به الأب لويس – جوزيف لوبريه (Louis-Joseph Lebret) في ستّينيّات القرن الماضي، بتكليف من الرّئيس الرّاحل فؤاد شهاب، وقد كان أساسًا لسياسات التّنمية في ستّينيّات القرن الماضي. فكتاب الأب أبو جوده الّذي يحمل عنوان الدّولة الضّائعة: شروط التّحول الدّيموقراطيّ في لبنان والعالم العربيّ يتناول مفاهيم التّنمية الاقتصاديّة، وبناء الدّولة الحديثة، وإرساء حكم العدالة والقانون وحقوق الإنسان.
يتناول الأب أبو جوده في مقالاته المتنوّعة والغنيّة بالأفكار والطّروحات خبايا الواقع اللّبنانيّ السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والدّستوريّة، مستعرضًا الأسباب التي دمّرت الكيان اللّبنانيّ، وجعلت لبنان دولة ضعيفة شبه فاشلة[1].
توقّف الكاتب مطوّلًا عند مشكلة الطّائفيّة في لبنان، والتي تسبّبت، برأيه، بضعف الدّولة اللّبنانيّة وضياعها بين مختلف الطّوائف والجماعات والمذاهب والملل والإيديولوجيات المتصارعة والصّراعات الدّوليّة والإقليميّة وحروب الآخرين على أرض لبنان.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ إرساء قواعد دولة العدالة والقانون يحتاج إلى عقد اجتماعيّ صلب (contrat social) بين الشّعب والسّلطة تُحدّد فيها واجبات كلّ طرف وحقوقه.
ويمكن القول إنّ العقد الاجتماعيّ والسّياسيّ في لبنان قائم على الميثاق الوطنيّ اللّبنانيّ الّذي حاول إرساء الشّراكة السّياسيّة بنِسب متفاوتة بين مختلف الأطراف اللّبنانيّة تحت راية اللّيبراليّة الاقتصاديّة الّتي نادى بها ميشال شيحا. ويقول أبو جوده في معرض حديثه عن شيحا : «لم تكن خطوته البراغماتيّة نهائيّة، بل مرحليّة، فهو رأى في التّرتيب الطّائفيّ، انطلاقًا من الثّنائيّ المارونيّ - السّنيّ، ثنائيّة لا بدّ منها، إذ اعتبر أنّه من الأفضل أن يعيش لبنان أعوج من ألّا يسير البتّة […] ولكنّه لم يقطع الأمل في أن ينصهر اللّبنانيّون مع الوقت بهويّتهم الوطنيّة الواحدة.[2]
هذا الكلام في دلالته الواضحة لا يمكن البناء عليه لقيامة الأوطان. صحيح أنّ الدّعوة للاستقلال أمرٌ لا مفرّ منه ولكنّ مشروع بناء الدّولة بعد انتزاعه غير مضمون، وقد أدّى الأمر غالبًا إلى الفشل الذّريع ليس في العالم العربيّ فحسب، ولكن في معظم بلدان العالم الثّالث والّتي حصلت على استقلالها في الفترة اللّاحقة على تأسيس منظّمة الأمم المتّحدة وفي مرحلة ستّينيّات القرن الماضي.
شهدت هذه الدّولة الحديثة العهد انهيارًا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا شاملًا تجلّى في قوارب الموت الّتي يحاول راكبوها الوصول إلى شواطئ الدّول المتقدّمة في أوروبّا وأميركا.
وقد تحوّلت هذه الدّولة بسرعة البرق بعد نيلها استقلالها إلى نظام ديكتاتوريّ فاسد، يحكمه قتلة ومجرمون استفادوا من صراع القطبين: الاتّحاد السّوفياتيّ والولايات المتّحدة الأميركيّة للاستمرار في السّلطة.
يدلّ هذا الواقع على فشل الدّولة القوميّة (Nation state) الّتي نشأت في الغرب والّتي أرست قواعد الدّولة الحديثة.
لم تستطع دول العالم الثّالث بناء هويّة وطنيّة جامعة، بل على العكس شجّعت العصبيّات والقبليّة، وارتكبت غالبًا المجازر والتّصفيات ضدّ فئات واسعة من مواطنيها، فاعتبرها قسم كبير من هؤلاء عدوّة لهم، ودعوا إلى قتالها ومعارضتها بكلّ الوسائل المشروعة وغير المشروعة للدّفاع عن هويّتهم ووجودهم.
ينطبق هذا التّوصيف بدقّة على الواقع اللّبنانيّ الفئويّ الّذي يُضعف، برأي الكاتب، الشّعور بالانتماء الوطنيّ، وهنا أصل كلّ العلل، ويضيف الكاتب أنّ إحدى الدّلالات على ذلك الفساد المستشري في الدّولة.
وفي الحقيقة، تعاني الإدارات العامّة من فشل بنيويّ مرتبط بمفهوم الدّولة القوميّة، فالإدارة العامّة المعاصرة قامت على أسس البيروقراطيّة الّتي وضعها المفكّر الألمانيّ ماكس فيبر (Max Weber) وهي تنصّ على مبادئ التّسلسل الإداريّ الصّارم من الأعلى إلى الأسفل، والتّوصيف الوظيفيّ، وبخاصّة الحياد الوظيفيّ. وعلى عكس ذلك سادت المحسوبيّات، وانعدمت المساءلة والمحاسبة. فالإدارات العامّة أدّت دورًا تقسيميًّا وليس جامعًا من خلال حجبها خدماتها عن مجموعة كبيرة من المواطنين. ويتابع الكاتب تحليله، من هذا المنطق، بالقول إنّ الطّائفيّة تُضعف الشّعور بالانتماء الوطنيّ الجامع، كما يفضي استمرار الإقطاعيّة السّياسيّة «الّتي تنطبع بالنّزعة الفطريّة الشّائعة في المجتمعات التّقليديّة إلى إلغاء الآخر.»[3]
وبالمقابل، وإنْ سلّمنا جدلًا بأنّ الطّائفيّة هي أساس كلّ العلل، فهل الحلّ يكون بالعلمانيّة، وأيّة علمانيّة؟ الفرنسيّة أم الأميركيّة؟ فإذا اتّخذنا العلمانيّة الأوروبيّة أساسًا للحلّ، فقد أظهرت قصورها عندما فشلت في استيعاب ملايين المهاجرين الجدد ذوي الأصول غير المسيحيّة. وقد وصل الأمر بالدّولة الفرنسيّة إلى إعلان تمسّكها بالجمهوريّة الفرنسيّة ورفضها كلّ طرح يعيد تكوين السّلطة على أساس الجماعات العرقيّة أو الفئويّة(Secteriorism) .
أمّا بخصوص الدّيموقراطيّة والإصلاح السّياسيّ في العالم العربيّ فلم تكن النّتائج أفضل من التّجربة اللّبنانيّة. استعرض الكاتب، بمقاربة نقديّة، مؤلّفات بعض المفكّرين العرب بشأن موضوع الدّيموقراطيّة، ولكنّ النّظرة إلى الواقع تؤكّد فشل كلّ محاولات الإصلاحيّين لتغيير الأنظمة ونشر الحداثة، لأنّ العوامل الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة وقفت حاجزًا أمام التّغيير.
وقد تناول الكاتب موضوع الرّبيع العربيّ، مراهنًا على اندفاعة الشّباب وقوى التّغيير، ولكنّ الواقع السّياسيّ أظهر فشل كلّ محاولات الإصلاح لأنّها جاءت مدعومة من الخارج. فالنّظام العالميّ الجديد الذّي تزعّمته الولايات المتّحدة الأميركيّة بعد انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ قام على معيارين: اللّيبراليّة الاقتصاديّة والدّيموقراطيّة.
نجح الغرب في إدخال الدّيموقراطيّة إلى وسط أميركا وجنوبها وجنوب الصّحراء الأفريقيّة وأوروبّا الشّرقيّة، ولكنّه فشل في الشّرق الأوسط، حيث نلاحظ عودة الأنظمة الدّيكتاتوريّة إلى السّلطة تحت شعار تفضيل الأمن على فوضى الدّيموقراطيّة المزعومة.
وقد تناول الكاتب بالنّقد نظريّة فرنسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) المتهوّرة بشأن سيطرة اللّيبراليّة علامةً لنهاية التّاريخ. والواقع، أنّ قوى الحداثة في العالم العربيّ لم تفلح في بناء أنظمة ديموقراطيّة بسبب ضعف الدّعم الشّعبيّ، وسيطرة الأنظمة، والعقليّة البطريركيّة القائمة على الولاء للحاكم مقابل بعض الخدمات الاجتماعيّة.
وقد أفضى فشل تجربة الدّيموقراطيّة في أفغانستان إلى تحوّل كبير في المقاربة الغربيّة موضوع الدّيمقراطيّة حيث أيقنت أنّه لا يمكن فرض الدّيموقراطيّة من الخارج بل يجب أن ينبع من القاعدة الشّعبيّة. وماذا عن الحلول، بخاصّة في الشّأن اللّبنانيّ؟ يقول الكاتب إنّه «ليس من مخرج سليم لهذا المأزق إلّا بإعادة النّظر في التّصميم التّأسيسيّ، بحيث لا تُنفى ثنائيّته التّاريخيّة ودورها في قيام لبنان المستقلّ. ولكن تُرسَم طرق لتجاوزها، ليس بمعنى أن تُخلق ديناميّة تشرّعها إلى مثالثة، هي أمر واقع، ومن ثمّ على مرابعة محتملة، وهكذا دواليك، بل بمعنى فكّ رباطها بالخلفيّة الدّينيّة الطّائفيّة، وبالتّالي تحرير الخطاب الدّيموقراطيّ تدريجيًّا من العامل الدّينيّ المصطبغ بالطّائفيّة، وهو عامل يجرّد الدّيموقراطيّة من مضمونها.»[4]
تناول الأب أبو جوده الموضوعات المتعلّقة بالدّيموقراطيّة وحقوق الإنسان ودولة القانون بمقاربة معمّقة تنمّ على ثقافة واسعة، جاهدًا في رسم خطّة طريق لدفع عجلة التّطوّر في لبنان وفي الشّرق الأوسط، لذلك فإنّ هذا الكتاب هو إضافة إيجابيّة وفعّالة في موضوع النّقاش الفكريّ بشأن السّبل الكفيلة بوضع الشّعوب على مسار التّقدّم والانفتاح والازدهار.
[1] هناك تمييز بين الدّولة المنهارة (collapsed state) حيث تنهار كلّ المؤسّسات العامّة والأمن وتسود فيها العصابات المسلّحة، والدّولة الضّعيفة (weak or fragile state) حيث تتواجد بعض مظاهر السّلطة العامّة وبعض الخدمات.
[2] الأب صلاح أبو جوده، الدّولة الضّائعة، ص، 26.
[3] أبو جوده، المصدر نفسه، 56.
[4] أبو جوده، الدّولة الضّائعة، 27-28.
الدّكتور جورج لبكي : رئيس مجلس إدارة المعهد الوطنيّ للإدارة. حائز شهادة دكتوراه في القانون من السّوربون، وأخرى في الأدب الفرنسيّ المعاصر من جامعة باريس XII. من مؤلّفاته باللّغة الفرنسيّة: أنثولوجيا. الأدب اللّبنانيّ باللّغة الفرنسيّة. ولبنان: قصص من حنايا بلاد الياسمين.