أثارت الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة وقضيّة ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل مسألة أساسيّة أبعد من موضوع استخراج المنتوجات البتروليّة والغازيّة، واستهلاكها:

ما هو موقع النّفط في تاريخ الشّعوب والدّول لتكون له هذه القيمة، وليكون له ذلك الدور؟ فإذا كانت الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة، بحدّ ذاتها، هي العنوان الأوّل في الإعلام، فإنَّ العنوان الموازي هو انقطاع الغاز عن أوروبّا والمحور الغربيّ، وارتفاع الأسعار الجنونيّ. وإذا كانت الأزمة الاقتصاديّة الاجتماعيّة هي خبز اللّبنانيّين اليوميّ، فإنَّ موضوع ترسيم الحدود وانفتاح الطّريق نحو إنتاج الغاز من حقل قانا لهو الجديد في تاريخ لبنان الحديث، اللّهمّ إلّا إذا كان ذلك مجرّد وهم وسراب؛ وبالتّالي فإنّ سحر اليوم سوف ينقلب على السّاحر والسّحرة؛ فالطّاقة النّفطيّة والغازيّة، من حيث إنتاجها وبيعها وتصنيعها ليست عمليّة تجاريّة فحسب، بل هي ومنذ وقتٍ طويل نتاج “السّياسة والتّوازنات الدّوليّة”. إنّه تاريخ علاقات القوّة والسّيطرة، بالعسكر والمال والسّياسة، على أجزاء واسعة من الكرة الأرضيّة بين معسكر وآخر، لأنَّ الاقتصادات العالميّة الرّئيسة في الشّرق والغرب، إنّما تعتمد بدرجةٍ عاليةٍ واستراتيجيّة على الطّاقة واستهلاكها مختلف الحاجات المنزليّة والصّناعيّة. وهذه الطّاقة أساسيّة في نموّ الاقتصادات، وبالتّالي في تعزيز الثّروات والمداخيل الوطنيّة.

إنّ تاريخ الطّاقة، في العديد من صفحاته، تاريخ عنيف تتخلّله حروب بين الدّول (الكويت والعراق على سبيل المثال)، أكان ذلك في الشّرق الأوسط، منذ حرب قناة السّويس، إلى حروب أخرى في أفريقيا وأميركا اللّاتينيّة (قضيّة فنزويلا). الواقع، إنَّ هذه الحروب، وإن انتهت أحيانًا برابح وخاسر، فإنَّ من نظّمَ الأمور هي تلك العلاقات الدّوليّة، أو ما بين الدّول، الّتي بشكل براغماتيكيّ، تعمد إلى الحلول والتّنظيمات السّياسيّة لأنَّ إنتاج الطّاقة والتّداول بها إنّما هو بحاجة إلى حالة سلام وأمان. ولذلك فإنّ الكثير من المحلّلين السّياسيّين والدّبلوماسيّين إنّما يرَون أنّ الأزمة الحاليّة بشأن الطّاقة لن تثير الحروب، بل إنّ هذه الحرب ليست حتميّة، لأنَّ ما تريده القوى العظمى هو الأمن والسّياسة لتستطيع الوصول إلى ذلك.

إلّا أنّ للأزمة وجهًا آخر له أهمّيّته الاستراتيجيّة. فالدّور المهيمن في مجال الطّاقة اليوم هو للوقود الأحفوريّ أي النّفط والغاز والفحم، وهو، من ناحية، ملوِّثٌ كبيرٌ للأرض وفضائها، ومحفِّزٌ على الحرارة المتزايدة ممّا يشكّل أزمة شديدة البطش، ألا وهي أزمة المناخ الكونيّ، ومن ناحية أخرى، وبحسب تقدير الخبراء في ظلّ الاستهلاك العالميّ الحاليّ، ومع تزايد معدّلات هذا الاستهلاك، فإنَّ الاحتياطات القابلة للاستغلال ستكون محدودة، إذ إنّ النّفط مخزونه سينضب بعد أربعين أو خمسين عامًا على الأكثر، والغاز بعد حوالى السّتّين أو السّبعين عامًا، في وقت سيستمرّ الفحم في وتيرة استهلاكيّة أكثر من 230 عامًا.

وهنا نطرح الأسئلة الإشكاليّة، كالآتي:

أ – كيف يتمّ ضمان الاستهلاك المتواتر مع الحفاظ على البيئة والسّلامة العامّة، وكيف يتمّ تأمين الطّاقة أيضًا للبلدان النّاشئة والفقيرة لتنمية اقتصادها، وفي الوقت عينه ضمان استهلاك الدّول المتقدّمة لتستمرّ في مستوى معيشتها الحاليّ؟

ب – كيف تتمّ حماية أمن الطّاقة في سياق دوليّ منافس أكثر فأكثر، وفي ظلّ أوضاع محليّة وإقليميّة متفجِّرة ومتعارضة للغاية. ربّما في نموذج التّرسيم، الّذي حصل بين لبنان وبلد لا يعترف به هذا الأخير لا بل يعتبره عدوًّا، مثالٌ يُحتذى به لتأمين الطّاقة وإنتاجها قبل أيّ أمر آخر؟

ج – وأخيرًا كيف يتمّ التّوفيق بين عولمة سُوق الطّاقة كالاستثمارات والنّقل والأسعار إلخ… مع تأكيد سيادة الدّول الّتي تريد بدورها الاستفادة من ثروتها، وبالتّالي تحديد سياساتٍ محافظة على الطّاقة، مع العلم بأنّ احتياطات الهيدروكاربون هي في يد الشّركات الوطنيّة؟

لا شكّ في أنّ الأجوبة عن هذه الأسئلة ليست في متناول اليد. وحدها الدّيبلوماسيّة الصّامتة والصّبورة تستطيع حلحلة العقد الموجودة اليوم، والّتي ستزداد غدًا مع ثروة يبدو أنّها ليست أبديّة. وبالتّالي، فإنّ التّفكير ينصبّ أيضًا على أمور أخرى أساسيّة حيال الطّاقة:

أوّلًا: تغيير السّلوكيّات في الاستهلاك، وفي هذه الحالة دعوة إلى إعادة التّركيز على الأخلاقيّات الحميدة في الاستهلاك.

ثانيًا: العمل على تطوير الطّاقات البديلة، وخصوصًا تلك النّظيفة منها، سعيًا إلى احترام نظام الأرض وتوازناتها البيئيّة.

ثالثًا: العمل على تجديد السّياسات الخاصّة بالطّاقة للحدّ من أزماتها، لأنّ تفاعلها إنّما يؤدّي إلى حروب ونزاعات، الإنسانيّة اليوم هي بغنى عنها.

وهكذا، هل سيكون تاريخ الطّاقة متلازمًا مع الحروب والعنف، أم سيكون انقلابًا في المفاهيم والسّلوكيّات ليصبح تاريخ الدّيبلوماسيّة الهادئة؟!

 

الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة.
[email protected]

Share This