تفيدنا دراسة الدّكتور بطرس لبكي في «هجرة اللّبنانيّين بعد 1990» الّتي تستهلّ هذا العدد من «المشرق» في أنّ ما يقارب المليونين والنّصف من اللّبنانيّين غادروا بلادهم حتّى نهاية السّنة 2021. من الأسباب الرّئيسة لذلك التّخبّط المستمرّ في النّموّ الاقتصاديّ، ذلك أنّ البلاد تعيش أزمات سياسيّة متلاحقة تمنعها من التّنفّس بصورة طبيعيّة. فإذا كان السّبب هو البحث عن عمل منتج ومردود ماليّ ملائم، فإنّ آثار تلك الهجرة تبدو سلبيّة وعلى أكثر من مستوى: فالمجتمع اللّبنانيّ تسوده الإناث، بما أنّ ما يقارب الثّلثين من المهاجرين هم من الذّكور، وكذلك فإنّ البلاد تخسر نصف متعلّميها من الجامعيّين الموصوفين بالأدمغة المبدعة، بالإضافة إلى سُلّم الأعمار الّذي يُظهر مجتمعًا متقدّمًا في العمر. يبقى أنّ الهجرة الدّائمة والمرحليّة تتقاسمان الصّورة في حين أنّ مردود المهاجرين الماليّ صوب بلادهم الأمّ ليس من أهداف الدّراسة، مع العلم أنّ مدخول المهاجرين اللّبنانيّين المالي هو جوهريّ قياسًا إلى حاجات المجتمع اللّبنانيّ.
هذه الصّورة المختصرة الّتي تطلع بها الدّراسة بشأن الهجرة الإراديّة في الانتقال من بلد المصدر إلى بلدان أخرى في مختلف أصقاع الأرض ترشدنا إلى حالة أشدّ مأساويّة هي الهجرة غير الشّرعيّة في قوارب الموت، وخلسة عبر الحدود، ممّا يتسبّب في غالب الأحيان بوقوع العديد، لا بل المئات، من الضّحايا، ولنا في القارب الذي غرِقَ بمن فيه في مياه شماليّ لبنان منذ بضعة أشهر نموذج للمأساة الّتي تعيشها طبقات اجتماعيّة فقيرة معوزة، لا أمل لها سوى في الذّهاب في مغامرات غير محسوبة النّتائج. وإنْ نجحت المغامرة، فإنّ الابتعاد عن الجذور والعادات والتّقاليد إنّما يؤسّس ليس لمجرّد هجرة من الهجرات بل لغُربة قاسية عن الوطن، ولنا في ذلك مثال، السوريّون الّذين غادروا إلى دول أخرى لاجئين تسكنهم مرارة الانفصال والإحباط، حتّى ولو وجدوا في أوطانهم الجديدة حكومات يهمّها اندماج اللّاجئين في مجتمعاتهم الجديدة وإلّا أصبحوا خطرًا على ذواتهم وعلى تلك المجتمعات المضيفة.
يقول أحدهم : إن أردت أن تفهم طعم اللّجوء من بعد الهجرة، عليك أن تعيش ولو لأيّام مع اللّاجئ والمهاجر والنّازح في خيمة أو في مكان إقامته، حتّى ولو أصبح وجودهُ شرعيًّا ومشروعًا. إذّ ذاك تفهم الألم الّذي يعصر ذلك اللّاجئ بفعل الحرب أو بفعل سياسة الأرض المحروقة والبيوت المهدّمة أو بفعل سياسة إحلال سكّانٍ جدد مكان السّكّان الأصليّين.
وإذا كان أصحاب الهجرة الشّرعيّة العاديّة بحاجة إلى مَن يساعدهم من الأهل والأصدقاء في التّكيّف مع الواقع الجديد، فإنّ أصحاب الهجرة الشّرعيّة، إن وصلوا إلى أرض الميعاد الجديدة، بحاجة إلى الاهتمام على أكثر من صعيد، من الإقامة البِدائيّة إلى المأكل والمشرب، وتحضيرًا إلى الدّعم النّفسيّ والتّعليم لأبنائهم وبناتهم. وهذه العمليّة لن تكون على مرحلة قصيرة بل إنّ التّجربة تقول بأنّ المساعدة في هذه الحالات هي لأكثر من سنة وربّما تمتدّ لسنوات.
وبمختصر القول، أكان الأمر يتعلّق بالهجرة الشّرعيّة أو غير الشّرعيّة، وكذلك بالنّزوح الكثيف، كما رأينا منذ زمن قصير، وما يتبعه من عمليّة لجوء مقدِّمةً للاغتراب والعيش في ما يشبه المنفى، فإنّ ما يجدر العمل عليه بصورة جدّيّة على مستوى السّياسات الشّاملة والخاصّة ببعض المناطق، هو معالجة أوضاع تلك الأوطان البائسة وإحلال السّلام مكان العنف، والتّنمية والإنماء المُستدام مكان التّخلّف ونهب الثّروات.
قال البابا فرنسيس كلمته في هذه الأوضاع بأنّ كرامة الإنسان هي القيمة الفضلى الّتي ينبغي الدّفاع عنها في كلّ حال وحين، وبأن لا سلام من دون توجيه السّياسة نحو أهدافها السّامية في خدمة الوطن والمواطن.
الأب سليم دكّاش اليسوعيّ : رئيس تحرير مجلّة المشرق. رئيس جامعة القدّيس يوسف. رئيس رابطة جامعات لبنان. عضو في الاتّحاد الدّوليّ للجامعات (منذ العام 2016). حائز دكتوراه في العلوم التّربويّة من جامعة ستراسبورغ – فرنسا (2011)، ودكتوراه في الآداب – الفلسفة من جامعة بانتيون - السّوربون 1 (1988)، ويدرّس فلسفة الدّين والحوار بين الأديان والرّوحانيّة السّريانيّة في كلّيّة العلوم الدّينيّة في الجامعة اليسوعيّة.
[email protected]