اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

الدّكتور عبد الرّؤوف سنّو

دولة لبنان الكبير 1920-2021.
إشكاليّات التّعايش والحياد والمصير.

480 ص. ط.1. بيروت: دار المشرق، 2021
(ISBN: 978-2-7214-7112-3)

في الذّكرى المئويّة الأولى لإعلان دولة لبنان الكبير، وفي خضمّ الأوضاع المأساويّة الّتي يعيشها اللّبنانيّون، يستعرض الدّكتور عبد الرّؤوف سنّو أبرز المراحل الّتي مرّ بها لبنان، متوقّفًا عند ثلاث إشكاليّات: التّعايش والحياد والمصير.

لم يعتمد الباحث تسلسل الأحداث الزّمنيّ في توزيع فصول الكتاب، لأنّ هدفه الأساس ليس تأريخ الأحداث، بل طرح المواضيع والإشكاليّات من مختلف وجوهها، ودراستها بمنهجيّة تحليليّة تساعد في استخلاص العبر، ورسم معالم مستقبل أفضل، وهي تتوزّع على ثمانية فصول وملاحق.

في الفصل الأوّل، مقاربة تقويميّة وبيانيّة للمئويّة الأولى مع أبرز التّحدّيات الّتي واجهها اللّبنانيّون: النّظام الطّائفيّ، وموقع لبنان الجيوسياسيّ الذي جعله قبلة التّجاذبات الإقليميّة والدّوليّة، ما انعكس سلبًا على سيادة الدّولة. ويتصدّر الفصلَ رسم بيانيّ يؤشّر إلى تذبذب استقرار لبنان، وتأثّر سيادته به.

الفصل الثّاني، يطرح إشكاليّة التّعايش المأزوم، من الميثاق الوطنيّ إلى سقوط حكومة الرّئيس سعد الحريري في العام 2011، مرورًا باتّفاق الطّائف، والإحباطات المسيحيّة، واغتيال الرّئيس رفيق الحريري.

ويستعرض الفصل الثّالث التّداعيات الدّاخليّة للنّظام الطّائفيّ، والّتي سمحت للخارج بالتّدخّل في شؤون لبنان.

فيما تشكّل «الانتفاضة اللّبنانيّة» في 17 تشرين الأوّل 2019 موضوع الفصل الرّابع، مع عرض دوافعها ومظاهرها، متطرّقًا إلى تصعيد المطالب والمواجهات القاسية بين الثوّار وبعض أزلام النّافذين المعارضين لها.

ويتمحور الفصل الخامس على حياد لبنان وصعوبة تحقيقه، بسبب النّظام الطّائفيّ، وانقسامات الدّاخل الّتي تسمح لفريق بخرْق الحياد، والاستنجاد بالخارج لتحقيق مصالحه والاستقواء على «الآخر». وتبلغ ذروة المعالجة في الفصل بدعوة البطريرك الرّاعي إلى حياد لبنان، وعرض أزمته على مؤتمر دوليّ.

أمّا الفصل السّادس فيتناول الأزمة الاقتصاديّة الخانقة الّتي يكابد اللّبنانيّون قساوة تداعياتها، نتيجة فساد الطّبقة السّياسيّة، ونهبها ماليّة الدّولة وأموال المودِعين، مع عرقلة التّحقيق العدليّ في انفجار مرفأ بيروت، وفي محاسبة المنظومة الحاكمة ومَن سبَقها من المسؤولين (التّحقيق الجنائيّ).

يتطرّق الفصل السّابع إلى الفدراليّة وأخواتها: «ديمقراطيّة الأكثريّة» (الإسلاميّة) و«المثالثة»، ويدعو إلى إقامة الدّولة المدنيّة الّتي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات.

ويركّز الفصل الثّامن على خطورة المرحلة الرّاهنة وتحدّياتها، حيث تتلاشى مقوّمات الصّمود، وتتصاعد احتمالات التّفكّك، بسبب استمرار هيمنة أرباب الميليشيات على الحكم، وانفراد «حزب الله» بحمل السّلاح، ونظام المحاصصة بين الزّعامات الطّائفيّة. ويشير إلى تآكل الطّوائف من الدّاخل نتيجة الصّراعات بين زعمائها على المناصب والنّفوذ. في المقابل، تمكّنت «الثّنائيّة الشّيعيّة» الممثّلة بـ «حزب الله» و«حركة أمل» من الإمساك بالطّائفة الشّيعيّة، باستخدام سياسة «العصا والجزرة». كما تمكّن هذا الحزب من خرق الطّوائف اللّبنانيّة باتّفاقات وتفاهمات وتسويات، ما جعل الطّوائف الأخرى عاجزة عن التّصدّي لمشاريعه فرادى، أو مجتمعة على أُسس وطنيّة.

تتميّز طروحات الدّكتور عبد الرّؤوف سنّو بالمواقف الوطنيّة الجريئة الّتي يتخطّى فيها الولاءاتِ الطّائفيّة وحساسيّاتها، رافضًا الاستزلام السّياسيّ أو الاصطفاف التّبعيّ للزّعامات. وهو يعبّر عن رأيه من دون مواربة، وبالخطّ العريض الجليّ اللّون، لا الرّماديّ الباهت الحائر بين الأسود والأبيض.

ويظهر واضحًا في الكتاب قلق الكاتب من أخطار التّحدّيات الّتي يواجهها اللّبنانيّون، وهاجسُه العميق مستقبل لبنان والعيش الكريم الحرّ فيه، معيّبًا على المسؤولين اللّبنانيّين عدم تطويرهم صيغة الميثاق الوطنيّ. وهو يعتبر أنّ الصّراعات الطّائفيّة لم تكن وحدها المسؤولة عن الأزمات المصيريّة، ويشير إلى دور إسرائيل والنّزاعات العربيّة - العربيّة، والعربيّة - الإيرانيّة على أرضه، مع المدّ النّاصريّ وسياسة الأحلاف في عهد الرّئيس شمعون في الخمسينيّات، ودعم المسلمين واليسار اللّبنانيّ المقاومة الفلسطينيّة في السّتّينيّات للإمساك بالسّلطة في لبنان على حساب السّيادة الوطنيّة.

عن اختلاف اللّبنانيّين في النّظرة إلى الهويّة الوطنيّة، يشير المؤلّف إلى أنّ الخلاف في الماضي كان بين الهويّة اللّبنانيّة والعروبة المتأسلمة، بعد أنْ كرّس «اتّفاق الطّائف» عروبة لبنان. ومع انعكاسات الصّراعات الإقليميّة على الدّاخل، أضحى الخلاف بين الهويّة العربيّة والهويّة الإسلاميّة الّتي تنادي بها «داعش» السّنّية وولاية الفقيه الشّيعيّة. مع العلم أنّ الهويّة المدنيّة الّتي ينادي بها الكاتب ليست من جوهر غيبيّ ثابت، بل هي معطى تاريخيّ متحوّل وفقًا لمفاهيم اجتماعيّة وثقافيّة وأنثروبولوجيّة وجغرافيّة، وهي متلازمة مع حركة التّاريخ وتطوّر الحضارة البشريّة. وهذا ما يعكس موضوعيّة المؤلّف ونهجه العلميّ الجريء.

الكتاب غنيّ بوفرة المصادر والمراجع المعتمدة وتنوّعها. ويتميّز بمنهجيّة تحليليّة وأمانة وموضوعيّة بعيدًا عن الأفكار المسبقة والإسقاطات الإيديولوجيّة. وينتهي كلّ فصل فيه باستنتاجات يركّز فيها الكاتب على استخلاص العبر وضرورة استشراف الحلول، وإلّا سيبقى لبنان مفتوحًا على المجهول.

 

د. جوزيف أبو نهرا:  مؤرّخ، وعميد سابق لكليّة التّربية في الجامعة اللّبنانيّة. حائز دكتوراه دولة في التّاريخ من جامعة ستراسبورغ. شارك في العديد من المؤتمرات الدّوليّة في لبنان والخارج، وله أبحاث وكتب باللّغتين العربيّة والفرنسيّة. [email protected]m

Share This