Georges T. Labaki
Liban: Contes du pays du jasmin
324 p. Liban: Imprimerie Byblos, 2019
(ISBN: 978-2-7214-1208-9)
«لبنان حنايا من بلاد الياسمين»، وضعه بالفرنسيّة البروفسور جورج لبكي. كتابٌ ينسحب على ستٍّ وثلاثين قصّة مستوحاة من الحياة في القرية اللّبنانيّة، جبلًا وساحلًا، كاشفًا حنايا روحانيّة تسكن المواطن اللّبنانيّ الّذي عاش على مرّ التّاريخ فترات ازدهار وفترات صعبة معًا، علّمته الحذر والمثابرة، ولكن أعطته في الوقت نفسه روح الصّلابة والضّيافة والفكاهة.
يحتوي الكتاب أنواعًا عدّة من القصص؛ منها ما يدور على البطولات والقِيم والتّقاليد والعادات، وأخرى مشحونة بوصف دقيق للشّخصيّات، فترانا نجد في حنايا الجبل الأبطالَ وأصحاب الرّوح الفكاهيّة، من دون إغفال المساومين والمتلاعبين بمشاعر النّاس.
إلى جانب القصص المأخوذة من واقع الحياة، قصص يحفل بعضها بخيال متوقّد وتشويق suspense ممّا جعل الوقائع، الّتي سردها الكاتب، متتابعة، متصاعدة وصولًا إلى الخاتمة.
أمّا لغة الكتاب فهي سلسة وجزلة معًا، يسهل فهمها، والاستمتاع بألفاظها وعباراتها وصورها السّخيّة، ممّا يتيح لها جواز مرور سهل إلى المثقّف، كما الطّالب في المدرسة أو الجامعة.
لقد أراد د. لبكي من خلال كتابه إحياءَ ذاكرة بلاد الياسمين والأرز، تلك الذّاكرة الّتي تختزن في طيّاتها الأساطير والحكايات والبطولات، وكذلك الأحزان والآلام والمعاناة.
وللياسمين حكاية طويلة مع أهل لبنان، فقد كان يزِّين ويُعطِّر بأريجه مداخل المنازل «والسّطيحات» الّتي كانت تستضيف الأهالي في ليالي الصّيف الحالمة تحت ضوء النّجوم والقمر، متسامرين، مستذكرين البطولات وأخبار أحبّة غابوا إذ تشردّوا في ديار الله الواسعة، بعد أن ضاقت فسحة العيش والأمل في مسقط رأسهم.
تحمل القصّة الأولى من الكتاب عنوان «أبو يوسف وحبّ الأرض». فيها سرد بطريقة مشوّقة، حيث تتصاعد الحركة في النّص رويدًا رويدًا. أبو يوسف، الجبليّ العتيق صاحب العضلات القويّة، والعامل في الأرض الّتي ورثها عن أجداده من دون كلل أو ملل، بحيث أنّه كان يَعطِفُ عليها عطفه على من يُحبّ. كان أبو يوسف صديقَ الخيوط الأولى لشمس الصّباح ، يغدو باكرًا ليستدرك الوقت قبل أن يفوته، فأراضيه واسعة تمتدّ من أعلى الجبل إلى أسفلِه، ولتثبيت الصّورة في الذّهن، تخيّلوا أنّ الثلج يُغطّي القمم، فيما ترتع الشّمس في أسفلها في عمق الوادي، حيث الأشجار والزّهور محميّة من الزّمهرير. ولكن سرعان ما لحقت الحياة الصّاخبة بالقرية، فشُقّت فيها الطّرقات وبيعت الأراضي من دون رحمة أو شفقة، وسويّت بالأرض. وامتدّت هذه الظّاهرة (الحضاريّة) بحيث وصلت إلى منزل أبو يوسف، كيف لا، وقد وقف أولادُه، بدعم من زوجته، ضدّ خاطره: لماذا الحفاظ على الأرض، فقد تغيّرت الأيّام، وأصبح المجتمع استهلاكيًّا، تحكمه ماديّة المدينة. لأوّل مرّة استسلم أبو يوسف، وبعد معاناة طويلة، بيعت الأرض، ولمّا لم يُطق فراقها لحقها بعد أسبوع واحد فقط، مفضّلًا الموت على الحياة من دون مَن أحبّ وخدم وربَّى.
تتوالى القصص المنسابة من بلاد الياسمين. تقع الحرب فجأة، جالبة ويلاتها وقسوتها، فتدمّر بيئة متجانسة، وتقضي على الطّبيعة، وما فيها من بشر وحجر. وتبدأ معاناة جديدة فيضطرّ أصحاب الأرض إلى تركها والهرب، في اللّيالي المظلمة والباردة، إلى حيث لا يدرون.
تُهجَر القرى من أهلها وقاطنيها من دون أمل بالعودة القريبة، ولكنّ إرادة الحياة والقدر وديناميّة التّاريخ ينتصرون مجدّدًا، فيعود الأهالي إلى أرضهم حيث الأمان والحياة، والبناء من جديد بإرادة وأمل، متشبّهين بسيزيف sysiphe صاحب الأسطورة الّذي ينزل إلى أسفل الجبل ليحمل صخرته ويصعد بها إلى القمّة، وعندما تصل الصّخرة إلى أعلى نقطة تتدحرج ثانية إلى الوادي، فينزل سيزيف من جديد ويحملها إلى فوق.
نعم، إنّ معاناة أهل بلاد الياسمين مكتوبة على جبينهم، ومتوارثة في جيناتهم وجينات وطنهم الّذي كان على الدّوام هدفًا للطّامعين والغزاة.
تكرّ مسبحة القصص، فإذا بمشهد يُصوّر سائق شاحنة، متوثّبِ الذّاكرة، يحفظ الآلاف من أبيات الزّجل، يلقيها على سامعيه بفرح وغبطة وإباء. فالزّجل في بلاد الياسمين يحاكي زمن البطولات والصّولات والجولات و«العنتريّات الشّعريّة»، والسّهر في ضوء النجوم، والحياة المنطلقة، والحبّ العُذريّ، والكرم والضّيافة… فلكلّ مناسبة عنده، قصيدة: الزّواج، الولادة، الوفاة، الانتقال إلى العيش تحت قناطر، حجارتُها معقودة من مقالع بلاده.
وفي مكان آخر، حكايةُ ولد فقير دفعته ظروف العيش الشّاقّة، واضطهاد الأغنياء له إلى الهجرة على درب طويل، كان يُدرك بدقّة خفاياه وتعرّجاته وصعوباته.
فإذا بهذا الشّاب يصبح على موعد مع الثّروة، ويعود ناقمًا غازيًا إلى بلاده، فيشتري كلّ أملاك الإمارة القديمة المتجذّرة في التّاريخ، ويطرح أسيادها خارجًا.
وعلى صفحات أخرى، نرى بعض المهاجرات، وقد وجدن وسيلة ذكيّة لجني ثروة كبيرة من خلال بيع «لقش» أشجار الصنوبر، بعد أن أقنعوا أهل البلاد بأنّها ذخائر وصلت من البلاد المقدّسة في الشّرق.
إذًا، كتاب لبنان، من حنايا بلاد الياسمين يتناول موضوع الانتماء والأصالة والحنين إلى الماضي الجميل لبلاد الياسمين في زمنٍ تداعت فيه هذه القيم، وتنكّر معظم سكان بلاد الياسمين لروحانيّة هذا الانتماء وهذه الأرض، مفضّلين الحياة في المدن، والهجرة والعيش في مجتمع استهلاكيّ. إنّ هذا الأمر لخطير جدًّا. فالتّنكّر للقيم les valeurs والأسس التي قامت عليها الأوطان يشكّل بداية الانحطاط la décadence الّتي تقضي على الأوطان والشّعوب.
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكتاب يندرج في إطار الأدب اللّبنانيّ النّاطق بالفرنسيّة الّذي يظهر مرونة وثباتًا في الإنتاج والعطاء. والأهمّ من ذلك، أنّ اللّغة الفرنسيّة جسّدت وتجسّد من خلال أسلوبها البديع الرّوحانيّة الّتي تسود بلاد الياسمين.
يقول الرّئيس غالب غانم في مقدّمة الكتاب: «إنّ كتاب لبنان من حنايا بلاد الياسمين هو أكبر من قصص. إنّه إعلان حبٍّ للأرض… إنّه أكثر من لُغة … بل إنّه اللّغة … إنّه، كما يقول رولان بارت Roland Barthes قيمة Valeur. وأنا أدعو القارئ الباحث عن الكنز Trésor في مجموعة القصص هذه، أن يستكشف الكنوز المخفيّة فيها، والّتي تفوق الظّاهرة منها».