الدّكتور غي سركيس
نوبل للسّلام.. لمَن؟
بين الأوجاعِ والتّناقضات، حضاراتٌ تولَد
376 ص. ط.1 بيروت: دار المشرق، 2021
(ISBN: 978-2-7214-1213-3)
«نوبل للسّلام… لِمَن؟ محاكمةُ التّاريخ وقلقُ المستقبل
إذا كان الحائزون جوائز نوبل مرايا عصورهم، ويعكسون اتّجاهات البشر أو يصنعون جزءًا لا بأس به من تطوّر مجتمعاتهم، فإنّ كتاب نوبل للسّلام… لمن؟ هو بلا مغالاة مرآة مختصرة لمئة عام مضت. فحين نطوي صفحة الكتاب الأخيرة من الثّلاثمئة وسبعين صفحة، نُدرك أنّ المؤلِّف والكاتب الموسوعيّ والإنسانيّ بامتياز الأب الدّكتور غي سركيس، تمايز عن جلّ مَن تناول هذه الجائزة العالميّة والفائزين بها، بأنّه لم يضع نوبل هدفًا لبحثه العلميّ والتّاريخيّ والاجتماعيّ الدّقيق، بل غاص في تقلّبات الماضي لاستشراف توجّهات البشريّة جمعاء.
هو كتاب ندُرَ مثلُه في العالم العربيّ حاليًّا؛ بحثًا وتوثيقًا وتحليلًا واستشرافًا، ذلك أنّه من خلال الأسماء السّتّة عشر الّتي اختارها الكاتب من بين الحائزين جوائز نوبل، لأسباب «غير موضوعيّة وغير عشوائيّة»، كما يقول، يُشرّح بمِبضَع الباحث الأكاديميّ، وخصوصا مبضع الإنسان الحقيقيّ المهجوسِ ببناء إنسانيّة فُضلى، مئة عام من الحروب والأزمات والاكتشافات والقوانين والرّجال الّذين مهما اختلفت الآراء بشأنهم، تركوا بصماتهم على جبين البشريّة.
لا يستخدم الكاتب مصطلح «التّطوّر»، بل يؤثرُ مصطلح «التّبدّل»، ولا يكتفي بسرد الوقائع وسيَر حيوات الحاصلين على جائزة نوبل، وإنّما يَدخلُ من أبواب كثيرة، في علوم السّياسة والاجتماع والفلسفة والتّاريخ وتحليل الخطاب، حتّى يكاد يختصر أبرز الأفكار الكُبرى والفلسفات الوجوديّة لقرن وعشرين عامًا خلت.
من عنوان المقدّمة استشراف الماضي يضع الكاتب إشكاليّة الأقسام اللّاحقة، فهل الماضي يُستشرف؟ يبدو نعم. إذا كانت دراسته ليست هدفًا في ذاتها، بل جسر لفهم الحاضر وتوقّع المُستقبل، ذلك أنّه: «من الخصائص الّتي يتفوّق بها البشرُ على الكائنات الأخرى، قدرةٌ على إنجاز القراءة الاستعاديّة (Retrospection)». هنا بالضّبط تُصبح الشّخصيّة المُختارة من الشّخصيّات الّتي حازت جائزة نوبل، مِسبارًا للإطار العامّ الّذي عاشت فيه هذه الشّخصيّة، وسياقات الأحداث الّتي عاصرتها، أو ساهمت فيها، أو تسبّبت بحدوثها (نلسون مانديلا، هنري كيسنجر، ميخائيل غورباتشوف، رالف بونش الوسيط بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين… إلخ).
تحت عنوان فرعيّ في المقدّمة المعرفيّة والتّحليليّة الطّويلة الذّاكرة المُتلاعب بها، يُصبح بعضُ العودة إلى الماضي موضع انتقاد واتّهام عند الكاتب، ذلك أنّ تلك العودة لم تَستخدِم الماضي كجسر إلى المُستقبل، بل اختارته لتبرير العجز البشريّ والتّخلّف في الحاضر. وهذا ما يقوده إلى تسليط الضّوء على هذه الآفة عند الشّرقيّين الّذين يشتهرون «بحنينهم إلى الأزمان الماضية واتّباع السّلف بمثلنتِه، لأنّ هذا التّصرّف يسمح لهم بحياكةِ الأساطير لكسب الفخر أو للتّعويض من انحطاطهم».
يعترف الكاتب بأنّه لم يختر الأكثر استحقاقًا لهذه الجوائز، ولا الأوسع شهرة، ولا الأكثر تعلّقًا بالسّلام، بل اختار «الّذين يعكسون بوجه أفضل جِدّة أزمنتهم»، ذلك لأنّ «التّاريخ ظالم التّفرقة بين النّاس، قد نثمّن بعضهم (أي من الحائزين نوبل)، ونحتقر آخرين، ولكن لا يمكننا إنكار عبقريّة أيّ منهم». فهو حين يُسلّط الضّوء مثلًا على الألمانيّ هاينز كسنجر، (وهو الاسم الحقيقيّ لهنري كيسنجر)، يعود إلى تاريخ العائلة اليهوديّ، وما تعرّضت له في الحرب العالميّة، وهجرتها إلى الولايات المتّحدة، ثمّ يفنّد إطار المناصب العامّ والّتي تقلّدها كيسنجر، والدّبلوماسيّة الّتي خاضها في مناطق النّزاعات من فيتنام وكمبوديا وباكستان والهند إلى الشّرق الأوسط فالصّين والاتّحاد السّوفياتيّ.
يفعل كلّ ذلك ليس للقدح أو المدح، بل للوصول من خلال تلك السّياقات إلى خلاصة مفادها أنّ النّجاحات والأخطاء الكثيرة الّتي حقّقها أو ارتكبها كيسنجر في مسيرته الطّويلة لا تُلغي أبدًا أنّه «بفضله تفوّقت الدّبلوماسيّة على السّلاح»، لكنّ «السّياسة الواقعيّة» الّتي تميّز بها «تُعاب بأربع: التّفرّد في صنع القرار، وحصر الوظائف في يد واحدة، وانعدام المناقشة الجديّة قبل اتّخاذ القرار، وتخطّي الموظّفين في الإدارات».
نُلاحظ في سرد الكاتب سياقات حياة وأحداث شخصيّة كيسنجر أو الشّخصيّات الأخرى أنّ الميل إلى تحليل ما حصل في زمنه بالاستناد إلى الوقائع، يُراد منه ليس شرح الماضي كهدف، بل وضع الإصبع على جرح الماضي، لجعل المُستقبل أقلّ وطأة، وأكثر إنسانيّة. ولذلك غالبًا ما نجد أنّ الإنسانيّ في تحليل السّياقات الدّقيق هذا، يتقدّم على السّياسيّ أو الاجتماعيّ، فلا يُمكن أن نفهم شخصيّة كيسنجر من دون العودة إلى تأثير محارق اليهود، وحياة العائلة، وتربية أعرق الدّبلوماسيّين الأميركيّين وتعليمه، هو الّذي صعد سلّم المجد الدّبلوماسيّ في بلاده والعالم، وهو في مقتبل الشّباب، وأراد إعادة جائزة نوبل لأنّه شعر بعدم استحقاقه لها.
السّياق (Le contexte) يبدو في الكتاب متقدّمًا على السّرد، أو أسماء وسِير الحائزين نوبل، وهذا مهمّ جدًّا، ففي نظريّة تحليل الخطاب البراغماتيّ، يكون السّياق هو الحامل كلّ التّأثيرات والمؤثّرات على الأشخاص والأحداث، وهو الدّافع باتّجاه الكثير من أفعالهم أو ردود أفعالهم. هذا بالضّبط ما يدفع قارئ الكتاب إلى طرح السّؤال الآتي: «هل أراد الأب سركيس الحديث فعلًا عن الحائزين جوائز نوبل أم كلّ ما أحاط بهم من أحداث، لرصد الدّوافع الخفيّة للأحداث الكُبرى، وإشكاليّة الحداثة وما بعدها؟» وسرعان ما يأتي الجواب بأنّ السّياق أهمّ من الجوائز.
غاب عن الكتاب ياسر عرفات وإسحق رابين أو شيمون بيريز أو الأمّ تيريزا وغيرهم، ليس لأنّ خيارات الكاتب «غير الموضوعيّة» لا تُريد الدّخول في متاهات ودهاليز لا نهاية لها وحسب؛ مثلًا في الصّراع العربيّ الإسرائيليّ (ولذلك اختار الوسيط رالف بونش) بل لأنّ له رأيه الخاصّ في هذا الصّراع، وفي شخصيّاته والمؤثّرين فيه. ولعلّه أراد تجنيب القارئ تلك الشّخصنة بالرّغم من حضورها في بعض الأقسام.
أمّا عربيًّا فيُشير الأب غي سركيس إلى أنّ العشرة الحائزين جوائز نوبل إنّما حصلوا عليها بفضل الجنسيّة الأخرى الّتي يحملونها، ما يؤشّر إلى «افتقار دولهم إلى مؤسّسات تسمح للعالِم بالقيام بأبحاثه وتطوير نفسه، كما أنّ عدد الجوائز الغالب لذوي الأصول العربيّة إنّما مُنح من أجل السّلام، ما يؤشّر إلى واقع الاضطرابات الدّائمة في العالم العربيّ».
لا بدّ من التّوقّف عند جرأة الكاتب في مواضع عديدة، وبينها مثلًا رأيه بالحاج أمين الحسينيّ والثّورة العربيّة الكُبرى، الّتي يقول إنّها ألحقت الأذى بالعرب أكثر منه باليهود:
«ضحايا عرب كثيرون يُقدّرون بـ 10 بالمئة من الرّجال الفلسطينيّين بين قتيل وجريح وسجين ومنفيّ، واقتصاد عربيّ كارثيّ، إذ فرض الثوّار الضّرائب على مواطنيهم الأثرياء، وبطالة طالت العمّال الفلسطينيّين الّذين استغنى اليهود عن خدماتهم».
ونكتشف مع الكاتب أنّ اسم فلسطين لفظةٌ استُخدمت في الغرب أساسًا، وهو يؤكّد أنّ «أوّل مَن تصدّى للصّهيونيّة في العالم العربيّ وخطرها هم المسيحيّون؛ فقد أثار المارونيّ القوميّ العربيّ نجيب عازوري (+1916) مؤلّف يقظة الأمّة العربيّة والخطر اليهوديّ العالميّ خطورة الحضور اليهوديّ في الأرض المقدّسة، أمّا المسلمون فدأبوا على انتقاد أسسها ابتداءً من العام 1918، ففنّد الإصلاحيّ السّوريّ المصريّ محمّد رشيد رضا (+1935) الأسس الدّينيّة في الحركة الصّهيونيّة، بأنّها لا تُبقي لا على مسلمين ولا على مسيحيّين في أرض الميعاد الّتي لم تُعط في الحقيقة لليهود حصرًا، بل لأبناء إبراهيم جميعًا».
لا ينسى الكاتب وطنه في هذا الدّفق التّاريخيّ والتّحليليّ والاستشرافيّ الغزير، فيدخل لبنان من بوّابة المقارنة مع جنوب أفريقيا ونلسون مانديلا، ليروي كيف تصالح أهل جنوب أفريقيا، بينما «أبناء المجتمع اللّبنانيّ لم يتصالحوا، وأضاعوا فرصة البحث عن الحقائق بابتداعهم شعار لا غالب ولا مغلوب، فانتهت الحرب بأنْ حكم أفراد الوطن معًا، بعد أن تقاتلوا مدّة سنوات، ولعلّ في ذلك ما يفسّر العجز عن تأليف كتاب تاريخٍ موحّد يروي الأحداث الّتي حصلت منذ إعلان استقلال لبنان في العام 1943».
وكما بدأ الأب غي سركيس مؤلّفه هذا بمقدّمة تحليليّة مستندة إلى التّوثيق المعرفيّ واقتباس الشّهادات وإلى عشرات المراجع العالميّة، يختم بعنوانين: الأوّل عبارة عن سؤال: «والآن؟» والثّاني: «العبور من الحداثة إلى ما بعد الحداثة» فيرى: «أنّ زمن ما بعد الحداثة يشكّك في محوريّة الشّخص البشريّ، وفي مطلقيّة القيم الأخلاقيّة والسّياسيّة كما قدرة العقل البشريّ ومبادئ أخرى كثيرة، كانت في صلب الحداثة».
إذا كانت الموضوعيّة المُطلقة غير موجودة في تعامل البشر مع أيّ شيء ممّا يحيط بهم، فلا شكّ في أنّ الأب الدّكتور غي سركيس، يعكس، عن قصد أو من دون أن يدري، كثيرًا من شخصه وإنسانيّته وآرائه وهواجسه عن الكون والإنسان والحاضر والمستقبل والحياة وماهيّتها وجدواها وما بعدها بشفافيّة عالية، وذلك في إطار تحليله سياقات الشّخصيّات الّتي اختارها؛ التّاريخيّة منها والاجتماعيّة والنّفسيّة والإنسانيّة والسّياسيّة. كيف لا يفعل، وهو الّذي نذر حياته للرّهبنة وعلم اللّاهوت والتّعليم، وله في رصيده حتّى الآن ستّة مؤلّفات.
إنّه كتابٌ غنيٌّ بالمعلومات، شيّقٌ ورشيقُ الأسلوب، عميقُ التّحليل، يتمحور على سؤال وجوديّ كبير: «هل الإنسان يتطوّر فعلًا؟». وربّما نضيف سؤالين آخرين أقلّ أهميّة: «هل الإنسان يتعلّم من تاريخه؟ وهل إذا تعلّم من تجارب الماضي، يُصبح أكثر إنسانيّة وأقلّ همجيّة وجشعًا في هذه الحياة العابرة؟» ليس مؤكّدًا.
الدّكتور سامي كليب
الدّكتور سامي كليب : باحث وكاتب وإعلاميّ. حائز دكتوراه في علوم الإعلام والاتّصال من الجامعة اللّبنانيّة، وماجستير في تحليل الخطاب السّياسيّ من جامعة السّوربون الثّالثة في فرنسا. أستاذ محاضر في الجامعة اللّبنانيّة، وفي كليّة أركان الجيش اللّبنانيّ. مؤسّس ورئيس تحرير موقع «لعبة الأمم»، ومقدّم برنامج «حوار سامي» عبر يوتيوب. له العديد من الكتب والمقالات السّياسيّة والثّقافيّة.