Frank Darwiche
Le Liban ou l’irréductible distance
135 p. Redlands, CA: Elyssar Press, 2020
(ISBN: 978-1-7334529-5-3)
«شي مش قليل أن يكون المرء لبنانيًّا». مقولة تحمل في طيّاتها الكثير عن بلادٍ، شكلّ الحرّيّة والحلم والخيال والطّموح أبرز حناياها منذ البدء، ومنذ أن كانت الكلّمة وكان النّور .وما عنوان الكتاب «لبنان أو البُعد غير القابل للاختزال» إلّا خير دليل على ذلك.
حاول المؤلِّف تأطير أفكاره الفلسفيّة والشّعريّة والأدبيّة والعاطفيّة والوجوديّة للولوج إلى كينونة وطنه، مستكشفًا طريقه بين جبال لبنان السّاحِرة، ووديانه العميقة، ومدنه العابرة، وقُراه المعلّقة بين الأرض والسّماء. والدّلالة على ذلك، ظاهر النّصّ الّذي لا ينتمي إلى نوعٍ أدبيّ معيّن، وقد امتزج فيه الشّعر والأسلوب القصصيّ والفلسفة والرّومانسيّة والتّاريخ وحتّى الجغرافيا. بيدَ أنّ هذا الأسلوب الـمُـشتّت ظاهريًّا يُؤشّر إلى حيرة الكاتب أمام وطنٍ لا ينام ولا يرتاح، بل يعيش منذ فجر التّاريخ مع التّحدّيات والمخاطر والمحن الّتي تأتيه من كلّ حدبٍ وصوب، بدءًا من محيطه القريب، وصولًا إلى أقاصي الكون.
يحاول الكاتب سبر أغوار وطنِه الأمّ المترسِّخة في التّاريخ، مع كلّ ما يذخر به من بطولات وتناقضات وحتّى انقسامات، كما ورد في مقدّمة الكتاب، والّتي تحمل عنوان «الانقسام منذ البدء» أو L’origine divisée [1]. فالتّاريخ يصنِّف الشّعوب على قاعدة مدى مساهمتها في بناء الحضارة الإنسانيّة أو هدمها.
وهكذا ينطلق الكاتب في رحلته الطّويلة من مدينة طرابلس، حيث يتوقّف طويلًا، صعودًا إلى منطقة الكورة بصحبة بطله سجعان ذي الاسم الفينيقيّ الأصل، كما يقول، والّذي يبحث عن حبيبة لا يدركها، ويبدو أنّه لا يعرف عنها الكثير، كما يوحي ظاهر النّصّ.
ماذا لو كانت هذه الحبيبة تمثّل علاقة الحبّ الخياليّة الّتي تربط الكاتب بوطنه المنزلق بين يديه، ولا يستطيع الإحاطة بكلّ معانيه وحناياه، فلا يدرك تمامًا خفاياه وتعقيداته الغائصة في التّاريخ، على صورة تلك الحبيبة الغامضة الّتي لا يعرف عنها الكثير؟
حاول الكاتب البحث عن هذا الحبّ الدّفين. فقادته مسيرته الطّويلة إلى كلّ أرجاء الوطن من الشّمال الخالد بأرزه، مرورًا بوسط البلاد قلب لبنان، وصولًا إلى الجنوب بلاد البشارة والزّيتون والعطور.
توقّف صاحب الكتاب في رحلته عند محطّات عديدة تناول فيها العلاقات الاجتماعيّة والتّاريخ، ودخل في حوارات مع العديد من الأشخاص الّذين استوقفوه طويلًا، مرحّبين به أطيب ترحيب، ومتبادلين معه المواضيع كافّة، تلك الّتي تدور عن الوطن وعاداته وتقاليده.
إنّ هذه الرحلة الطّويلة غنيّة بمعانيها ورمزيّتها. فالانطلاق نحو الآخر في رحلة الألف ميل يحمل في طيّاته البحث عن جوهر الأمور، وسرّ الوجود، وعن الوطن وصيرورته الماضية والحاضرة والمستقبليّة، إذ إنّ الانطلاق نحو البعيد يحرّر الإنسان من هموم الحياة الّتي تقيّده، فيصبح قادرًا على الاستماع وفهم جوهر الأمور. وهنا يحضر أمامنا «كنديد» Candide بطل القصّة الّتي تحمل نفس الاسم، وقد كتبها الفيلسوف العظيم ڤولتير Voltaire، وحاول فيها البطل استكشاف أسرار ومعاني الوجود من خلال رحلتِهِ حول العالم. ولكن هل وصلت مسيرة الكاتب إلى نهاية الطّريق أم تدور على نفسها وتعود إلى نقطة الانطلاق؟
تسلّح الكاتب في سيرته بالتّاريخ والعقل والمنطق، متدخّلًا مباشرةً في النّصّ من خلال الهوامش الّتي سرد فيها معلومات تاريخيّة مفصّلة عن المناطق الّتي مرّ فيها، وهذا خفّف من شاعريّة النّصّ ومن جمال السّرد، لأنّه عزّز الجانب التّاريخيّ على حساب الجانب الأدبيّ.
يشير هذا المنحى في الكتابة إلى أنّ الكاتب يريد أن يُعلِم القارئ بأنّه وطنيّ مخلص، ويعرف تاريخ بلاده وعاداتها وتقاليدها، محاولًا العبور من المنظور المادّيّ إلى اللّامنظور، ولكنّ الواقع الجغرافيّ شيء، وما وراءه شيءٌ آخر.
لا شكّ في أنّ الطّبيعة اللّبنانيّة الخلّابة تذخر بالرّموز والمعاني والقداسة والبطولة، لأنّ كلّ حبّة تراب فيها تشهد على صراع شعب، جابه القدر وتغلّب عليه. فمنظر البحر مثلًا ينقل الكاتب إلى المحيطات الّتي وصل إليها يومًا الفينيقيّون، هذا الشّعب الأسطورة الّذي اقتحم المجهول، ونقل الحضارة والأبجديّة إلى العالم، كما يقول الكاتب:
“Sur le vaste horizon des gens bleus de Sajân la mer posait ses rides, se calmait, un “calme d’huile” comme on dit au pays du Mont Blanc. Les choses se dessinaient sur la pupille, essayaient de s’immiscer dans son horizon, mais elles se trouvaient repoussées constamment par les images de l’histoire: Sidon, Europe, puis le lointain: le tour de l’Afrique et ses côtes puniques… autour des paradigmes du commerce, père et mère du mot, et de la guerre inévitable”.[2]
أمّا الجبل فهو رمز الشّموخ والرّأس المرفوعة والحرّيّة والصّمود. وقد تحصّن وراءه اللّبنانيّون منذ القدم، مدافعين عن حريّتهم الّتي أبَوا أن يعيشوا يومًا من دونها. وهذا الأمر، جعل لبنان واحة خضراء عطرة ومعطاءة في محيطٍ تميّز بشظفه وقساوته وقلّة سعة صدره. وقد دفع اللّبنانيّون ثمن هذه الحرّيّة على مدى العصور وحتّى هذه اللّحظة. هذا الواقع زاد من إباء الكاتب، ولكن طرح عليه إشكاليّات جديدة باطنُها عدم الاستقرار، والخوف من المستقبل، كما يحدث اليوم، وعدم الثّقة باستمرار الأعجوبة اللّبنانيّة الّتي لا يمكن اختزالها.
فيما يشكّل السّهل بمسطّحاته، الّتي تجاور الأفق البعيد، الانفتاح على المشرق بكلّ تعقيداته وازدواجيّته وكثبانه الرّمليّة الملتهبة.
تصارعت كلّ هذه المتناقضات في ذهن الكاتب، فولّدت شلّالًا فكريًّا من الفرح والعنفوان والألم والفراق، والبحث عن الجذور، عبر تاريخٍ صاخب لم يعرف الهدوء والسّكينة يومًا. كيف لا والشّعوب الّتي لا تاريخ لها تعيش على هامش الحضارة في غيبوبةٍ مملّة. وقد عبّر الكاتب عن هذا الصّراع من خلال استعمال كلمات ترمز إلى الجروح العميقة والألم والخوف من المستقبل، والعودة مجدّدًا إلى الحياة في وطنٍ لا يمكن اختزاله، على غرار أرزه الخالد.
“Sur le blanc céleste, il porte la blessure du départ marin et le portail d’un temple hostile. Il dissout la colère dans la vacuité humide où ses racines, dans un réel insoumis, Ecoutent le devenir.
Il supporte le Nom d’une patrie qu’il dissout dans les premières nuits d’été.
Pour décerner aux côtes
Leurs traits et leurs visages[3].
في الواقع، إنّ العلاقة بين الإنسان والوطن علاقة حبّ متبادل، كما يقول إرنست رينان Ėrnest Renan، يتداخل فيها الواقع والأسطورة والخيال، ليشكّل مدماكًا صلبًا، يتحصّن خلفه المواطن، ويدافع عنه حتّى الرّمق الأخير من حياته.
إنّ ثقافة المؤلّف الواسعة جعلته يُدرك أنّ كلّ محطّة من محطّات رحلته زاخرة بالبطولات والمآسي والعظمة والكفاح والمجد. لقد تناول الكاتب في كتابه موضوعات تتناول الانتماء والعلاقة بالوطن ومآسي الماضي وصراع البقاء، وقد سبقه إليها الكثير من الكتّاب اللّبنانيّين. نذكر على سبيل المثال الشّاعر اللبنانيّ هكتور خلاط الّذي يعبّر في شعره عن المشاعر نفسها.
“Que dira le courant double qui me gouverne,
Ce qui fait mon délice ensemble et mon tourment
Mon âme est un musée étrange et composite.
Riche des souvenirs, des siècles traversés
Chaque sentiment et chaque pensée…
Je les dois à cette union passée”[4].
جاهَر الكاتب بحبّه العميق لوطنه الأمّ، ووفائه لتاريخه العظيم. وقد حاول أمام المحنة الوجوديّة الّتي تهدّد وجوده وكيانه أن يستشرف هذا الماضي من خلال الشّعر والقصص وأدب الرّحلة والتّاريخ. إنّها مقاربة فريدة originale من ناحية الشّكل والمضمون غير المألوفَين، يبدّ أنّه كان من الأفضل أن يبقى الكاتب في سرده مُستلهمًا الأسطورة والخيال والجمال من دون الاستشهاد بمعلومات تاريخيّة جامدة، لا تتناسب مع سرديّة تضجّ بالشّعر والخيال والحلم أمام وطنٍ فريد، ملأ الدّنيا ولم يقعدها، وهو أمام المحن كطائر الفينيق يتلاشى، ثمّ يعود ويُبعث حيًّا من الرّماد.
[1] Frank Darwiche, Le Liban ou irréductible distance (CA, Redlonds: Elyssar Press, 2020), 7.
[2] Darwiche, Le Liban ou irréductible distance, 23.
[3] Darwiche, ibid, 55.
[4] Hector Klat, Le cèdre et le lys (Beyrouth: Editions de la Revue phénicienne, 1935), 10, 12.
الدّكتور جورج لبكي : رئيس مجلس إدارة المعهد الوطنيّ للإدارة. حائز دكتوراه في القانون من السّوربون، ودكتوراه في الأدب الفرنسيّ المعاصر من جامعة باريس (XII الثّانية عشرة). من مؤلّفاته باللّغة الفرنسيّة: أنثولوجيا. الأدب اللبنانيّ باللّغة الفرنسيّة. ولبنان: قصص من حنايا بلاد الياسمين.