اللاّهوت السّياسيّ في الكنيسة المارونيّة

سعيد أبو زكي

مشيخة عقل الدّروز في لبنان
بحث في أصولها ومعناها وتطوّرها

392ص. ط.1 بيروت: دار المشرق، 2021
(ISBN: 978-2-7214-6035-6)

«ما هو الكتاب الّذي تنصحني به كي أفهم المجتمع الدّرزيّ بشكل أفضل؟»

سؤالٌ كثيرًا ما يُطرح عليّ. وبصفتي باحثًا يعمل في جغرافيا المجتمع الدّرزيّ السّياسيّة، أجد نفسي عاجزًا دائمًا عن الإجابة. سبب ذلك أنّ معظم الكتب الّتي قرأتها عن تاريخ الدّروز السّياسيّ والاجتماعيّ وتراثهم الدّينيّ يعاني من إشكاليّات متنوّعة تُضعِف قيمتَها العلميّة، وتقلّل من فائدة القارئ المعرفيّة. أخطر تلك الإشكاليّات يظهر في ضعف المنهجيّة العلميّة المتّبعة في معالجة الموضوعات المختارة، وفي التّعامل مع المصادر المتوفرة عنها. فقد وجّه كثير من الباحثين تحليلاتهم ومقالاتهم وفق آرائهم الخاصّة، وتصوّراتهم المسبقة بشأن تراث الدّروز الدّينيّ، وتاريخهم السّياسيّ والاجتماعيّ، فيما حصر آخرون روايتهم في الجانب العسكريّ من تاريخ الدّروز، متجاهلين تاريخهم الاجتماعيّ والدّينيّ.

بفضل كتاب سعيد أبوزكي الجديد بات لديّ، أخيرًا، إجابة واضحة ومفيدة: «مشيخة عقل الدّروز في لبنان: بحث في أصولها ومعناها وتطوّرها.»

هذا الكتاب نسخة منقّحة عن أطروحة أعدّها المؤلّف لإتمام شهادة الماجستير في الآداب بدائرة التّاريخ في الجامعة الأميركيّة في بيروت. يُتيح عنوان الكتاب الفرعيّ فهم حجم المشروع الفكريّ الّذي طرحه المؤلّف، إذ يتخطّى مجال التّاريخ ليشمل البحث في أصول مشيخة العقل في لبنان، ومعناها، وأبرز مراحل تطوّرها؛ فيعالج موضوعَ البحث ضمن سياقه الدّينيّ، أي مسلك العقل والولاية الدّينيّة لدى الدّروز. ينتج من ذلك بانوراما تاريخيّة شاملة ومبتكرة لحقبتَيْن رئيسيّتين من تاريخ الدّروز في لبنان، تشمل الأولى القرنين الخامس عشر والسّابع عشر، وقد شهدت حركة إصلاح دينيّ فعّالة بدأها الأمير عبد اللَّه التّنوخيّ في خلال القرن الخامس عشر في بلدة عبيه جنوبَ العاصمة اللّبنانيّة بيروت، وشملت مناطق تواجد الدّروز كافة في بلاد الشّام، وثبّتها الشّيخ الفاضل محمّد أبي هلال لاحقًا في القرن السّابع عشر. أمّا الحقبة الثانّية فتبدأ في الرّبع الثّاني من القرن التّاسع عشر، عندما بدأ نفوذ الدّروز السّياسيّ يتراجع في جبل لبنان.

خصّص المؤلّف الفصلين الأوّل والثّاني من كتابه لنقد المراجع الحديثة المتّصلة بالموضوع، والتّعريف بالمصادر الأساسيّة المتوافرة لدراسته. فاعتبر أنّ المعرفة الّتي تعطيها تلك المراجع عن تاريخ مشيخة العقل «هزيلة» (ص. ١٩). ويسلّط أبو زكي الضّوء على مشكلة كبيرة تعاني منها غالبيّة الدّراسات الحديثة عن الموضوع، وتتمثّل باعتمادها على المراجع الدّرزيّة الحديثة حصرًا، ما يؤدّي إلى تكرار الأخطاء الجسيمة الّتي حفلت بها تلك المراجع. ويوضح البحث أنّ المراجع الدّرزيّة غير موثوقة بسبب «الأخطاء المنهجيّة» (ص. ٣٥) و«فوضى التّواريخ والأسماء» فيها (ص. ٤٩). ويشير كذلك إلى مشكلة المؤرّخين الّذين كتبوا عن الموضوع من دون الاعتماد على أيّ مصدر تاريخيّ . أحد هؤلاء كمال الصّليبيّ، من أهمّ المؤرّخين اللّبنانيّين، الّذي زعم أنّ ‘الرّؤساء الدّروز الرّوحيّين (أي: شيوخ العقل) في جبل لبنان، خضعوا مبكرًا لسلطة زعماء طائفتهم الإقطاعيّين’ (ص. ٢٤)، ولكنّه لم يُسند مقولته الخطيرة هذه إلى أيّ مصدر أساسيّ من مصادر تاريخ لبنان السّياسيّ!

وللتّغلّب على هذا النّقص في المصادر الأساسيّة، قام أبو زكي بعمل أكاديميّ رصين، بدأه ببحث ميدانيّ دام سنوات عدّة، مكّنه من الوصول إلى أرشيفات محلّيّة نادرة ومفيدة للغاية، بالإضافة إلى مصادر متنوّعة: تاريخيّة وأدبيّة ووثائقيّة وشفهيّة وأثريّة. أجاد المؤلّف في تعامله مع تلك المصادر، مع أنّ كثيرًا منها لا صلة له مباشرة بموضوع البحث، مستعملًا في تحليلها منهجًا واضحًا ومتماسكًا، أتاح له السّير المنتظم في مجاهل بحثه الدّقيق؛ وقدّم تعريفات أصيلة لمفاهيم رئيسيّة تتّصل بتنظيم عقّال الدّروز الدّينيّ، وطرُق عبادتهم، ومسلكهم في الحياة. وقد استغلّ جيّدًا ما تقدّمه المصادر تلك من معلومات وأدلّة، وبخاصّة الوصايا الشّخصيّة الّتي جمعها، لتحديد أسماء رؤساء الدّين الدّروز وكبار عقّالهم، ابتداءً من القرن الثّامن عشر.

يسمح لنا الكتاب بفهم أفضل لحقبة تاريخيّة أساسيّة في تاريخ الدّروز الدّينيّ والاجتماعيّ، وهي حقبة الإصلاح الدّينيّ المشار إليها أعلاه. وذلك من خلال قراءة المصادر الأساسيّة المتّصلة بالأمير السّيّد عبد اﷲ التّنوخيّ والشّيخ الفاضل محمّد أبي هلال، بدقّة. وبخلاف الكثير من المؤلّفات الّتي كُتبت عنهما، يكشف الكتاب عن أبرز معالم حركة الإصلاح تلك، ويشرح مرتكزاتها الدّينيّة وأغراضها، مظهرًا التّجانس القائم بين تعاليم الأمير السّيّد والشّيخ الفاضل، وإنْ فصل بينهما قرن من الزّمن. وقد أظهر المؤلّف في هذا المجال، كما في سائر أجزاء البحث، حرصًا واضحًا في اختيار المصطلحات وإيضاحها للقارئ المتخصّص وغير المتخصّص على السّواء، لتبرير استخدامه إيّاها. على سبيل المثال، استعمل أبو زكي مصطلح «الإصلاح الدّينيّ» بديلًا من «النّهضة الدّينيّة» للدّلالة على ما قام به الأمير السّيّد من تنظيم مسلك العقّال الدّروز وتوضيح معتقداتهم، وذلك لأنّ الحقبة الّتي سبقت بروز الأمير السّيّد شهدت اضطرابًا دينيًّا واجتماعيًّا كبيرًا جدًّا، أدخل الخلّل إلى معتقدات الدّروز وطرق عبادتهم. وقد شملت حركة الأمير السّيّد الإصلاحيّة إيضاحًا مفهومًا لـ «الولاية الدّينيّة»، وهو مفهوم أساسيّ يرتبط عضويًّا بموضوع البحث (ص. ١٩٢). فاستخلص المؤلّف من تراث الأمير السّيّد وغيره من مصادر بحثه الأساسيّة الشّروط التّسعة لتحقيق «الولاية الدّينيّة».

كما أوضح المؤلّف التباسًا شائعًا في الدّراسات الدّرزيّة عمومًا، يتّصل بتعريف «العقّال» و«الجهّال» لدى الدّروز، حيث تمّ حصر الاختلاف بين طبقتَي الدّروز الاجتماعيّتين بالنّطاق المعرفيّ، أي اطّلاع الأولى على تعاليم مذهبهم الدّينيّة، وجهل الثّانية تلك التّعاليم . فبيّن المؤلّف أنّ العقل في مصطلح رجال الدّين الدّروز هو طريق عبادة كليّ، يشمل مجالَي العلم والعمل معًا؛ وبالتّالي، لا يقتصر على اكتساب المعارف الدّينيّة وحسب، بل يتطلّب انضباطًا مسلكيًّا أخلاقيًّا صارمًا. ويستند المؤلّف إلى مفهوم مسلك العقل الّذي أوضحه ليقدّم تعريفًا أساسيًّا للقب «الشّيخ» لدى الدّروز، فهو «المُربّي والمُرشد للجماعة» (ص. ١٤٥).

وكان لافتًا التّحليل الدّقيق لآيات من القرآن الكريم، ومدى الاستفادة منه لإظهار أصالة المرتكزات القرآنيّة لنظرة العقّال الفريدة للعبادة والآداب المرتبطة بها؛ وهو أمرٌ غير مألوف في الدّراسات الحديثة عن الدّروز، والّتي تتقصّد في غالب الأحيان إبراز الاختلافات الكثيرة بين المعتقدات الدّينيّة الدّرزيّة والأصول الإسلاميّة. يُظهر تحليل أبو زكي مسلك العقل، باصطلاحه الخاصّ برجال الدّين الدّروز، مفهومًا روحيًّا مبنيًّا على قواعد قرآنيّة واضحة (ص. ١٢٨). وعلى المنوال نفسه، يعالج المؤلّف موضوع الوقف، وهو أمر مهمّ جدًّا وحاضر للغاية في النّقاشات الدّرزيّة الدّاخليّة في وقتنا، ليفتح الطّريق أمام الباحثين لاستكشاف تاريخه ومعالمه وأغراضه.

وسيتفاجأ القارئ بأنّ لقب شيخ العقّل غير مذكور في أيّ من المصادر الدّرزيّة الّتي تعود إلى ما قبل القرن التّاسع عشر .إذ إنّ استعماله لم يصبح شائعًا بين الدّروز إلّا في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر. ‎هذه الفترة هي أيضًا محوريّة في تاريخ لبنان السّياسيّ التّأسيسيّ . وإذا كانت كتب التّاريخ قد ركّزت كثيرًا على التّنافس بين الأمير بشير الشّهابيّ الثّاني والإقطاع الدّرزيّ وعلى رأسه آل جنبلاط وآل عماد؛ فهناك صمت بشأن العلاقة بين الأمير والعقّال، مع أنّها لا تقلّ أهمية عن الأولى. فقد لعب العقّال دورًا مهمًّا في رفض الخضوع للأمير في العام ١٨٢٥. كما كان لهم دور عسكريّ، ليس ثانويًّا على الإطلاق، ولديهم القدرة بشكل خاصّ على حشد الدّروز ليس في جبل لبنان وحسب، ولكن في حوران السّوريّة.

يرجّح المؤلّف أنّ دور العقّال في ثورة الدّروز على الأمير بشير الثّاني في العام ١٨٢٤ كان السّبب الّذي أدّى بالأمير، بعد أن هزم الإقطاعَ الدّرزيّ عسكريًّا، في سعيه بأن يكون له موقع مهيمن على عقّال الدّروز. فعيّن الامير بشير شيخًا للعقّل يمثّل الجنبلاطيّين، وشيخًا آخر يمثّل اليزبكيّين، واستمرّ هذا التّقسيم بشكل خاصّ مع متصرّفيّة جبل لبنان (١٨٦١-١٩١٦)

وقد أصبح منصب شيخ العقل بمثابة «وظيفة إداريّة» منذ نهاية القرن التّاسع عشر (ص. ٢٩٧). استمرّ هذا التّرتيب مع ولادة لبنان الكبير، ولا يزال حتّى يومنا هذا. الآن تعترف الجمهوريّة اللّبنانيّة رسميًّا بمنصب شيخ العقل، ولكنّه لم يعد مرادفًا للرّئاسة الرّوحيّة الّتي انفصلت عنه في خلال القرن التّاسع عشر. ومع أنّ عمل سعيد أبو زكي أكاديميّ يتطرّق الى الأمور المنهجيّة والدّينيّة قبل كلّ شيء، فقد أضاف على مؤلّفه الأصليّ تمهيدًا عالج فيه المجال السّياسيّ في أثناء المدّة الّتي أعدّ فيها بحثه. تقصّد الكاتب إبراز الإشكاليّات الّتي ظهرت في تلك الفترة من خلال تعاطي السّياسيّين الدّروز مع الموضوع. ويُظهر التّمهيد اختلاف مقاربة هؤلاء في العقود الثّلاثة الماضيّة عن مقاربة سلفهم مسألةَ مشيخة العقل في القرن العشرين.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ترك كمال جنبلاط، وكان مثقّفًا حاذقًا قيَّمَ التّاريخ على المدى الطّويل، كبارَ عقّال الدّروز يختارون اسم شيخ العقل الجنبلاطيّ في العام ١٩٤٩. فتمّ انتخاب محمّد أبو شقرا لمشيخة العقل عن المقعد الجنبلاطيّ بتأييد من منافسه السّياسيّ التّقليديّ الأمير مجيد أرسلان، مكرّسًا بذلك إجماعًا درزيًّا دينيًّا وسياسيًّا على اختيار المرجعيّات الدّينيّة. بينما شهدت العقود الثّلاثة الماضية صراعًا حادًّا على تكريس نفوذ زعماء الدّروز السّياسيّ باختيار شيخ العقل، وتوجيه سلوكه الاجتماعيّ والسّياسيّ؛ وهو أمرٌ يتعارض مع التّراث الدّينيّ الدّرزيّ الّذي يكرّس استقلاليّة العقّال في عملهم، واختيار مرجعيّاتهم. قد يكون ذلك نتيجة النّظام الطّائفيّ اللّبنانيّ الّذي يعزّز رغبة زعماء الطّوائف السّياسيّين في السّيطرة على الهيئات الدّينيّة. غير أنّي أوافق أبوزكي قوله بأنّ أحد أسباب الإشكاليّات المذكورة، كان ولا يزال، غياب فهم تاريخ منصب شيخ العقل بشكل صحيح ؛ وربّما يكمن جوهر المشكلة بالتّحديد في عدم فهم معنى «الولاية الدّينيّة» الحقيقيّ، وإدراك ماهيّة الوظيفة الدّينيّة والاجتماعيّة الّتي تؤدّيها. وهذا بالنّسبة إليّ أحد أهمّ إسهامات الكتاب الفكريّة. فدراسة تنظيم عقّال الدّروز على النّحو الّذي نقرأه في الكتاب يساعد في الحصول على معرفةٍ حقيقيّة للتّاريخ الدّينيّ والسّياسيّ للدّروز في لبنان. وما يزيد من أهميّة المساهمة تلك، قيام العديد من المؤلّفين السّابقين، سواء كان ذلك بقصد منهم أو من دونه، بتشويه الكثير من معالم تراث الدّروز الرّوحيّ وتعاليمهم الدّينيّة؛ والمنشورُ من كتبهم في متناول الجميع.

كتاب أبوزكي مرجع مفيد للباحثين في تاريخ الدّروز عمومًا، وتنظيمهم الدّينيّ خصوصًا. هو أيضًا مرجع مهمّ للباحثين في تاريخ لبنان السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. فهو يقدّم معلومات قيّمة، وفي كثير من الأحيان غير معروفة على نطاق واسع، عن العديد من خصائص التّاريخ الدّرزيّ المهمّة. ومع ذلك، تترك دراسة أبوزكي لدى القارئ رغبة في معرفة المزيد عن تاريخ مشيخة العقل في القرن العشرين، إذ يقف نطاق بحثه عند انتهاء حقبة المتصرّفيّة في جبل لبنان في العام ١٩١٦. من جهة أخرى، يمكن أن تكون منهجيّة أبو زكي مثالًا يحتذى به لكلّ من يرغب في الكتابة عن تاريخ الدّروز.

سيكون الكتاب أيضًا بمثابة بوصلة للقارئ العاميّ الّذي يرغب بمعرفة المزيد عن تاريخ المجتمع الدّرزيّ وخصوصيّاته.

الأستاذ رامي خطّار أبو ذياب : حائز ماجستير في القانون من جامعة السّوربون باريس. يعمل حاليًّا على أطروحة الدّكتوراه عن «الجغرافيا السّياسيّة لدروز لبنان» في المعهد الفرنسيّ للجغرافيا السّياسيّة. نشر كتابه عن الجغرافيا السّياسيّة لجنوب سوريا عام 2019. ويكتب حاليًّا في موقع Arab News.

[email protected]

Share This