رسالة البابا فرنسيس الثّالثة: «كلّنا إخوة» بعد «نور الإيمان» (2013) و«ليكن ممجّدًا» (2015) تقليديّة في نهجها، ولكنّها تطرح أكثر من قضيّة على صعيد مضمونها وأهدافها. عندما صدرت في شهر أكتوبر الفائت رأى فيها البعض رجعَ صدى لوثيقة أبو ظبي (2019) في «الأخوّة البشريّة» التي وقّعها شيخ الأزهر أحمد الطيّب إلى جانب البابا فرنسيس. إنّها تعالج موضوعًا مفضّلًا لدى الحبر الأعظم، إذ يعتبرها البعض رسالة تتضمّن فكرًا ناضجًا، وقد أراد قداسته أن يعلنها في مدينة أسيزي الإيطاليّة التي يرمز إليها القدّيس فرنسيس الأسيزيّ، وكذلك اجتماعات الصّلاة المشتركة بين ممثّلي الأديان جميعًا، بروحيّة الأخوّة من أجل الوحدة والعدالة والسّلام.
من مضمون الرسالة، نستخرج بعض الأفكار الأساسيّة التي تشدّد على «القدرة في أن نكون إخوة»، وأنّ الشّعور الفعليّ بالأخوّة هو ضروريّ من أجل بناء مجتمع أكثر عدلًا، وأنّه من شأن «الأخوّة أن تنتصر على المنافسة والحذر من الآخر». يعود قداسة البابا إلى بعض أفكاره التي أوردها في رسالته «نور الإيمان» حيث ينتقد العقيدة النّيوليبراليّة، وهي ناجمة عن «فكر فقير يجترّ ذاته» وكذلك «المضاربات الماليّة التي تهدف إلى الرّبح السّريع»، مشيرًا إلى أنّ ضعف الأنظمة العالميّة تجاه الوباء ومضاعفاته، لا يقدر نظام السّوق الحاليّ على أن يجد له حلًّا؛ فالاقتصاد العالميّ يفرّق بين النّاس؛ أغنياء وفقراء، وعليه هو أن يمنعهم من أن يكونوا إخوة. فالوحدة المؤسّسة في كلمة الله، هي التي تجمع وتعالج وتشفي على نموذج السّامريّ الصّالح الذي فعل المستحيل لإنقاذ الغريب حتّى ولو كان من ملّةٍ أخرى.
لا يتردّد الحبر الأعظم في رسم فضح عالمٍ تسوده الأنانيّة والوحشيّة، ولذلك فهو يرفع راية المودّة واللّقاء، والصّداقة الاجتماعيّة لا بل المجتمعيّة أداة يتغلّب فيها النّاس، بفضل روح المودّة واللّقاء، على القساوة المجّانيّة. ولا شكّ في أنّ الفصل الثّامن والأخير «الأديان في خدمة البشريّة في العالم» يبدو كأنّه إعادة قراءة لوثيقة أبو ظبي، فيشدّد مذكّرًا أنّ رسالة الأديان هي في الأصل دعوة إلى السّلام وإلى لا إمكانيّة الدّعوة إلى العنف النّفسيّ والجسديّ المؤذي للإنسان والمميت للرّوح. ويدعو البابا المسيحيّين إلى أن يكونوا بوحدتهم قدوة لتآخي ووحدة المنتمين إلى الأديان. وهذه الدّعوة هي ملحّة اليوم قبل أيّ وقت، إلى هذه الأخوّة المتأصّلة في الإيمان العالميّ لحقوق الإنسان وواجباته.
الحبر الأعظم يرفع «الصّداقة الاجتماعيّة» إلى مرتبة الأصل والأساس، لأنّ هذه الصّداقة هي المنتجةُ الحقّ للأخوّة بين البشر، فهي تفتح نوافذ النّاس وأبوابها، بعضها على البعض الآخر. والصّداقة الاجتماعيّة هي التي توصل النّاس إلى المحبّة، والحبّ الذي يصنع شعبًا ويوحّده على امتداد الأرض وتاريخها.
ينتقد البعض الرّسالة لأنّها ذات «نفس رومنطيقيّ»، إذ إنّ الفوارق والعنف المتأصّل في النّفوس هما الأقوى، ويستدعيان نظامًا، ودولة تعاقب وتجازي وتفرض على النّاس المواطنيّة. ويستطرد البعض فيقول: إنّ الرسالة تتحدّث عن الغريب الذي يأتي دارك كضيف مميّز، إلّا أنّ هذا الضّيف يتحوّل إلى مستبدّ يريد أن يفرض قواعده وتقاليده على صاحب الدّار.
لربّما كان النّقد صادقًا، فهو يصبّ في هذه الرّسالة الأبويّة، للتّفكير في كلّ الأمور التي تمنع الانقسام على الذّات البشريّة، والتّفكير في المسائل التي من شأنها التّقريب بين النّاس والتّضامن بينهم، واعتماد الحوار الصّريح، طريقًا إلى الوحدة، وإلى إمكانيّة أن يقول الإنسان للآخر «أنت أخي».
الرّسالة وصلت، وكأنّها دعوة نبويّة تنقلنا من مكان إلى آخر، ومن حالة إلى أخرى، حالة الانقسام والتّشرذم إلى حالة الصّفاء والانفتاح. دعوة الغنيّ والفقير لتغيير النّظرة إلى الآخر وللمسيحيّين وأتباع الدّيانات إلى حوار الإخوة لا إلى التّنافس من أجل التَّسلُّط، وكذلك تغيير الفعل من إرادة البقاء إلى الرّغبة في صون العلاقة وحفظها.
وتبقى الأخوّة هي الأساس لكلّ حياة مواطنيّة، ولكلّ نظام يقوم على مبدأ حقوق الإنسان وواجباته، وعليه فهي تستدعي الدّولة القويّة القادرة على تحقيق التزامات الأخوّة في جوّ من العدالة والمساواة، وتداول السّلطة بوجهٍ ديموقراطيّ.