لمناسبة ذكرى مئويّة إعلان دولة لبنان الكبير
ومن وحي انفجار مدينة بيروت الهيروشيمويّ
لفظتان فصيحتان مُشتقّتان كلاهما على وزن «فِعْلة»، وهو في العربيَّة، يصلحُ لاشتقاق اسم النوع من الفعل الثلاثيّ، كما نِقْلَةٌ من نَقَل، ووِثْبَة من وَثَب. والإِمْرة تعني – والشرح للعامَّة -: سُلْطَةً، سيطرةً، حُكمًا، أمرًا وقيادة؛ والخِبْرة تعني، في ما تعنيه: معرفةً، حِكْمةً مُكْتَسبَة، ممارسةً، مِراسًا، عِلمًا، درايةً، مهارةً…
الإِمْرة تُعطى، يعطيها آمرٌ أَعلى وأرفع، في ساعةٍ في يومٍ في لحظةٍ أو هنيهة، ويعطيها لحيثيَّة سببيَّة أو قانونيَّة أو ظرفيَّة؛ الخِبْرة تُؤخذ ولا تُعطى، يأخذها مثابرٌ طامحٌ جادٌّ غير كسول، في شهورٍ في سنواتٍ وفي عقودٍ، يأخذها لإرادة مشروعة ولرغبة وتصميم، وهي بفعل السنين والعقود تترسَّخ وتتبلور.
الإِمْرة من طبيعةٍ بشريَّة، تأمرُ لتُطاع، تقولُ ليُسمعَ صوتُها، تتعالى بأقوالها والأوامر، تتباهى، تتفاخر، ترسمُ لنفسها صورةً ومقامًا؛ الخِبْرة من طبيعة نورانيَّة، تُسأَل لتُجيبَ، تُطلَبُ لتستجيب، تُنشرُ معرفتها كما النور، ترضى عن أعمالها على مضضٍ، ودائمًا تطلبُ المزيد.
الإِمْرة البشريَّةُ زائلةٌ هي، آفلةٌ، هاربةٌ، تغيبُ ولن تعود، وهي على هذه الحال في الحكّام، والرؤساء، والقادة، وفي الآمرين على أنواعهم، تزولُ بزوال سلطتهم، وتغيب بغياب وكالتهم، مدّتها قصيرةٌ ولو طالت، عقاربُ ساعتها سريعةٌ ولو بُطِّئت. أمّا الخِبْرة النورانيَّة فباقية هي، دائمةٌ وتستمرّ، وهي هكذا في الفنّانين، والعلماء، والشعراء، والفلاسفة، والمهنيّين، والمحترفين، والموهوبين في كلّ علمٍ وفنّ ومهنةٍ ونشاط، ترافقهم إلى قبورهم، وكثيرًا ما تنتقلُ بأفعلَ وأروعَ ممّا كانت عليه، إلى أولادهم وأحفادهم وطلّابهم ومريديهم والتلاميذ. فهي كما النورُ أزليَّة وأبديَّة. والله نورٌ في كلّ دين وحضارة.
إنْ نَأَت الخِبرْةُ بنفسها عن الإِمْرة، في المرافق العامَّة، والمؤسَّسات كافّة، كان التقهقُر والتراجعُ وعدمُ الأمان، وأحيانًا الخراب، سيّد الموقف؛ وإنْ اقترنت الخِبرْةُ بالإِمْرة في المرافق جميعها، كان الأمانُ والأمنُ والتطوُّر والربحُ والجدوى الاقتصاديَّة والعلميَّة، ولا شكّ في ذلك إطلاقًا.
الإِمْرة تاجٌ والخِبْرةُ الرأس؛ الإِمْرة صولجانٌ والخِبْرة اليدُ؛ الإِمْرة ثوبٌ ملوكيّ مزركشٌ والخِبْرةُ جسدٌ سليمٌ معافًى.
اللَّهمَّ لا تجعلنا من أهل الإِمْرة، فنتعالى، ونتعجرف، ونتفاخر بذواتنا، وننشرُ فشلًا وعجزًا؛ بل اجعلنا من أصحاب الخِبْرات فنستفيدُ ونُفيدُ، ونتواضعُ، ونستزيدُ خِبْرة وعلمًا، وننشرُ نورَنا في الظلمات.
ولمناسبة ذكرى المئويّة لإعلان دولة لبنان الكبير، يتصدّر هذا العدد من المشرق ملفّ في «الفكر السياسيّ»، قوامه مقالتان عن عِملاقين من عمالقة الكنيسة المارونيّة: البطريرك إلياس الحويّك، والأب بولس عبّود، وقد سطع نجمهما في أوائل القرن العشرين عِلْمًا وحضورًا والتزامًا كنسيًّا ووطنيًّا. أعدَّ المقالتَيْن أستاذان من أساتذة الجامعة اللبنانيّة، متخصّصان، على التوالي، بالفلسفة السياسيّة وبالتاريخ. أمَّا بقيَّة مقالات العدد فهي، وعلى جري العادة، تتوزَّعُ لغةً، ونقدًا أدبيًّا، وتاريخًا سياسيًّا ودينيًّا ومدنيًّا وثقافيًّا، وفلسفةً وديموغرافيا، وتحقيق مخطوطات.
أحدث التعليقات