جاء في المعجم العربيّ: «سُلِق السليقةَ وعليها: طُبعَ عليها. السليقة ج سلائق: الطبيعة. السليقيَّة: نسبة إلى السليقة. يُقال: «فلان يتكلّم بالسليقيّة» أيْ عن طبعه لا عن تعلُّم؛ و«اضطرب كلام العرب وغلبت السليقيّة» أي إنّهم استرسلوا في لغتهم وأخذوا يتكلّمون على السليقة من غير تعمُّد إعراب ولا تجنّب لَحْن». وجاء أيضًا: «فَطَرَ فَطْرًا الأمرَ: اخترعه وابتدأَه وأنشأه. الفِطْرة ج فِطَر: الابتداع والاختراع؛ الصفة التي يتّصف بها كلّ موجود في أوّل زمان خلْقَتِهِ؛ صفة الإنسان الطبيعيّة…».
أنشدت العربُ الشعر بالسليقيَّة وحفظته الأجيال العربيّة أبًا عن جدّ، ومن ثمّ في مراحل لاحقة قعَّد علماء اللغة النّظم ودرسوه، فكان علم العَروض ببحوره وأوزانه وقياساته وجوازاته على يد الخليل بن أحمد (ت نحو 786م) من أهل البصرة. استمرّ الشعراءُ العرب في النظم على عمود الشعر العربيّ التقليديّ حتّى منتصف القرن العشرين، حين بدأ النهضويّون يُطلقون ثورتهم على القصيدة التقليديّة وزنًا وقافيةً، فتمكّنوا من تفكيك عموديّة الشعر، وكان ذلك بتسميات متعدِّدة مختلفة: كالشعر المنثور، والنثر الشعريّ، والشعر الحرّ، والشعر الحديث، والشعر المُرسَل وغيرها. ولئن تغيّر شكلُ الشعر ووزنه وموسيقاه الداخليّة، إلّا أنّه ظلّ يصدر عن سليقيَّة شعريّة، فُطِرَ عليها الشعراء وما فُطِرَ عليها غيرُهم.
ما تجرَّأت هيئةٌ أو مدرسة أو معهدٌ أو جامعة في التاريخ العربيّ على تدريس الشعر بهدف خلق شعراء مبدعين؛ وما تجرَّأ دارسٌ أو هاوٍ أو مثقّف على التدرّب بالشعر وفنونه وقواعده وأنواعه بغية التمكّن منه، أو رغبةً في أن يصبح المتعلّم شاعرًا موهوبًا مُجلِّيًا وطليعيًّا. الشعر موهبةٌ تقوم على الفِطْرة التي تولد مع الإنسان، فإنْ وُلِدتْ وُلِد وإنْ لا فلا. وما ظاهرة الشعراءِ والزجّالين والقوّالين والندّابين المنتشرة في قرى لبنان ومدنه، وفي سائر أقطار العالم العربيّ حواضره والبوادي، ومنهم المثقّفون والمتعلِّمون واللغويّون وشبه المتعلّمين والأمّيّون، إلّا دليلٌ ساطع وبرهان واضح على قيام الشعر في رؤوس الشعراء ومخيّلاتهم منذ الولادة.
يحيا الشعرُ ويتطوّر ويدوم في حياة ثلاثةٍ: شاعر ينظمه ويغنّيه أو يؤدّيه، أو يكتبه فينشره؛ ومستمع ذوّاقة يُشنِّف الشعرُ أُذنَه أو قارئ لبيب مُرْهف يستسيغ القصيدة ويطرَب لها؛ وناقد دارس متخصِّص يدرس الشعريّة، يُحلِّلها، يفكِّكُها، يشرّحها، يقارنها بمثيلاتها، ويوصِّف، ويستخلصُ، ويستنتج… قد تجتمعُ الوظيفة الأولى والثانية في امرئٍ واحدٍ وكثيرًا ما تجتمعان؛ لكنَّ الوظيفة الأولى والثالثة نادرًا ما اجتمعتا في شخصٍ واحدٍ ولن تجتمعا. لقد خلق الخالقُ الأكوانَ والأرض وما عليها في برهة واحدة وما شرح عمله؛ وما زلنا نحن البشر منذ بدايات الخَلْق علماءَ ومفكِّرين وفلاسفة ولاهوتيّين وأناسًا عاديّين نفسِّرُ ونشرحُ ونحاولُ ونفترض ونأوِّل، ودائمًا عن الخَلْق وأسراره عاجزون.
ثمّة في هذا العدد من المشرق ملفّ خاصّ عن الشعريّة يتضمّن مقالتَيْن، أعدّهما أستاذان جامعيّان متخصّصان بأسلوبيّات النحو وعلم الدلالة، وبالأسلوبيّة والكتابة الشعريّة: الأولى بعنوان: «وجهات الشعريّة: محاولات في قراءتها من زوايا مختلفة»، وقد اقتضب معدّها د. غابي الفغالي في قسمها النظريّ تقديمًا وتحديدًا علميًّا أكاديميًّا، ليتوسَّع في قسمها التطبيقيّ بأوجهه التسعة المتنوِّعة عصورًا شعريَّةً، وأعلامَ شعراء، وأنواعًا شعريّة بين العموديّ التقليديّ القديم والعصريّ الحديث، وفنونًا شعريَّة وكتابيّة بين الوصف الحسّيّ، والشعر المغنّى، والنثر الفنّيّ، والزجل اللبنانيّ المعروف، والشعر الحديث العامّيّ. والثانية بعنوان: «الشعريّة المزدوجة: شعريّة الكتابة وشعريّة القراءة (ديوان طائر الفينيق أنموذجًا)»، وقد توسّعت مُعدّة المقالة د. ندى مرعشلي في القسم النظريّ فأسهبت في التعريفات والتحديدات استنادًا إلى أدباءَ وشعراءَ غربيّين وعربٍ، وميّزت بين شعريّة الكتابة وشعريّة القراءة عند كلّ هؤلاء الدارسين والنقّاد، واقتصر أنموذج دراستها على ديوانٍ واحد اقتطعت منه بعض قصائد.
تجتمعُ في المقالتَيْن الإفادةُ والمتعةُ معًا باقتران النظريّ بالتطبيقيّ، شأننا في ذلك شأن كلّ الدراسات العلميّة الأكاديميّة المنهجيّة. ويُشكِّلُ عنوانا المقالتَيْن مدخلًا لأصحاب الاختصاص، وذائقة النقّاد، ودارسي الشعر والشعريّة، وليس للشعراء الموهوبين المبدعين، إذ حَسْبُهم التحليقُ والخَلْقُ والإبداع.