مع صدور هذا العدد من المشرق، يغيب وجه نيِّر طبعَ بطابعه قرنًا من الزمن هو غبطة البطريرك وكاردينال الكنيسة الرومانيّة مار نصر الله بطرس صفير. قيل عنه الكثير وسوف يُكتب عنه الكثير، عن كهنوته، عن سنواته وتحصيله العلميّ في المعهد الإكليريكيّ الشرقيّ بجامعة القدّيس يوسف في بيروت، عن حبريّته وأسقفيّته، وعن نضاله الوطنيّ في سبيل لبنان السيّد الحرّ والمستقلّ. في كلّ هذه الحقبات، برز البطريرك صفير شخصًا مفكِّرًا، عازمًا، مطيعًا، محبًّا، حكيمًا، وعاملًا من أجل نهضة الكنيسة المارونيّة.
أخبرنا الأب عبدالله داغر ذات مرّة عن حادثة حصلت معه في بكركي وشخصيّتها الأساسيّة هي مار نصرالله بطرس صفير. كان في زيارة لدى غبطة البطريرك المعوشي في بداية الستّينيّات، في أثر العشاء والصلاة في كنيسة الصرح صعدا سويّة إلى الردهة الكبيرة في الطابق الأوّل يتناقلان الخطى ويتحادثان في مختلف المواضيع. وفي عتمة المساء، كان هنالك نورٌ خافت آتٍ من جهة مكتبة البطريركيّة وأرشيفها، وأحدهم جالس يخطّ بيده عناوين مؤلّفات في دفتر محفوظات المكتبة. وعلّق البطريرك المعوشي على ذلك الشخص متأمّلًا: هل تعرف يا أبونا عبدالله من هو هذا الجالس يعمل بصمت ساعات وساعات؟ أجابه الأب عبدالله بأنّه لا يعرفه، فأجابه: إنّه المونسنيور نصرالله صفير. إنّه أمين المكتبة وهو أمين سرّ مجمع الأساقفة الموارنة. إن لم تدعُه إلى المائدة فلن يأكل. وإن لم تقدّم إليه الشراب فلن يشرب. وإن لم تناده فلن يتكلّم. عنده قوّة إصغاء كبيرة ولن أتعجّب إذا وصل يومًا إلى مراتب كنسيّة كبيرة. ونبوءة مار بولس المعوشي تحوّلت إلى واقع ملموس، خصوصًا عندما انتُخب نصرالله صفير في العام 1986بطريركًا على الكنيسة المارونيّة، فطبعَ بطابعه الخاصّ، الممزوج بالهدوء والتواضع والحكم الصائب على الأمور الكنسيّة والمدنيّة. لن نتكلّم على إنجازات بل سنتكلّم على مواقف اتّخذها البطريرك صفير وكانت لها البُعد النبويّ الهامّ:
الموقف الأوّل اللافت أنّه كان مؤمنًا أشدّ الإيمان وعاملًا من أجل «لبنان الرسالة»، لبنان الواحد بمختلف جماعاته الروحيّة. وهذا الموقف كان فيه شيءٌ من التحدّي تجاه تيّارات تدعو إلى تفكيك لبنان إلى دويلات لأنّ الجماعات التي تكوّنه لم تعد مؤمنة أو مقتنعة بأنّ العيش المشترك هو المصير الذي ينتظر جميع اللبنانيِّين. وهذا الموقف أَسرّ به غبطة البطريرك إلى البابا يوحنّا بولس الثاني الذي ردّد ذلك وبقوّة في مختلف نداءاته وخصوصًا في الإرشاد الرسوليّ من أجل لبنان. وهذا الإرشاد جاء ختامًا للمجمع الخاصّ الذي عُقد في روما من أجل لبنان وشارك فيه ممثّلون من كلّ الطوائف اللبنانيّة، ولا شكّ في أنّ للبطريرك صفير اليد الطولى في انعقاده. هو لم يختلط كثيرًا كما قال ذات مرّة بالكثير من المسلمين، إلّا أنّ عين العقل تفرض على العاقل وعلى المؤمن بقاعدة المحبّة أن يمدّ يده إلى الآخر المختلف ليبني معه إطار العيش المشترك المقبول سياسيًّا وإداريًّا واجتماعيًّا. الموقف الثاني الذي يُسجّل له هو ما قام به ابتداءً من العام 2001 من أجل مصالحة الجبل التاريخيّة، غير عابئ بالضغوط من هنا وهنالك، وقد قابله الموحّدون الدروز في منتصف الطريق ليطووا معًا صفحة سوداء لطّخت تاريخ الجبل، وليفتحوا صفحة بيضاء جديدة كتبا معًا عليها علامات الرجاء التي تقضي بعودة المسيحيّين إلى قرى الجبل. وموقف ثالث أراده البطريرك صفير وهذه المرّة من أجل الكنيسة المارونيّة عندما دعا إلى السينودس البطريركيّ المارونيّ الذي انعقد بين العامَين 2004 و2006 حيث حضر غبطته كلّ جلساته ولم يتغيّب عن واحدة منها. وعندما ننظر اليوم إلى ماجريات السينودس وما حقّقه من جمع لشمل أبناء الكنيسة المارونيّة من لبنان والعالم، وما أنجزه من نصوص أساسيّة تعبّر عن مواقف الكنيسة في مختلف المواضيع الدينيّة والمعرفيّة، نشعر كم أنّ البطريرك كان رؤيويًّا في نظرته إلى الأمور وفي خياره بانعقاد المجمع المارونيّ بعد انعقاد المجمع من أجل لبنان الذي عُرفَ بأنّه كان مجمع إنقاذ لبنان. في كلّ القضايا وأمام كلّ التحدّيات، كان موقف البطريرك هو ذاته: على اللبنانيّ أن يكون حرًّا في خياراته وألّا يرهن نفسه للخارج. وعلى المارونيّ والمسيحيّ أن يحافظ على هويّته إلّا أنّ هذه الهويّة، لتكون هويّته، يجب أن تتفاعل مع محيطها وأن تكون مشعّة وحيويّة.
إنّه الكاردينال البطريرك مار نصرالله صفير. إنّه البطريرك الخالد في حياة لبنان وفي الحياة الأبديّة.
Share This