عندما ننظر اليوم إلى حالة العالم العربيّ وحتّى إلى حالة العالم الإسلاميّ بشكل عامّ، تبدو لنا الصورة واهية وفيها كثيرٌ من البلبلة والضياع والتباعد، إلى حدّ التنابذ والمصارعة والتقاتل. ويرافق هذا كلّه حالة لا حوار، أو إنّه في غالب الأحيان حوار من دون قواسم مشتركة، وحوار من فوق الحواجز والجدران مهمّته صرع الآخر، وإعاقة الصوت بدل الإصغاء إلى الآخر. بالاختصار، لقد حلَّت لغة المغالبة طريقًا مسدودًا أمام بناء الأوطان، مكان لغة المشاركة في الحياة السياسيّة والوطنيّة، وفي وضع القواعد الأساسيّة للحكم.
كيف تحدّد المشاركة أساسًا لأيّ حياة سياسيّة؟ تسقط المشاركة إن لم يشعر الناس بأنّهم جزء لا يتجزّأ من جماعة ما، وإن لم يكن لديهم شعور بالانتماء، وإن لم تُتَح لهم وسائل التعبير عن هواجسهم ومطالبهم وحاجاتهم، وخصوصًا تلك الدستوريّة والقانونيّة والحقوق الأساسيّة. تسقط المشاركة عندما تشعر جماعة ما أو تيّار اجتماعيّ سياسيّ أو دينيّ ما، بأنّه منبوذ ومهمّش. يتعزّز وجود أزمة المشاركة السياسيّة من الشعور بالإقصاء، ومن واقع أنّ الأقوى ومَن في يده السلطة وَضَع جانبًا وبواسطة الاستقواء الأصوات التي لا تتناسب ورأيه ونظرته إلى الأمور.
أمام هذه الحالة وأمام الشعور بأنّ المغالبة هي الخيار بدل المشاركة، تصبح الأوطان في طريق مسدود حتّى الانفجار. قد يكون الانفجار في الشارع، مظاهرات واعتصامات وإقفال طُرُق، وربّما يتحوّل الانفجار إلى صراع دمويّ قائم على التفجيرات المختلفة حتّى غلبة فريق على آخر. تنفتح الطريق عندما يتّفق الجميع ويقبلون بالمشاورة والمشاركة في وضع عقد اجتماعيّ سياسيّ جديد، يفسح المجال أمام بناء وطن ودولة على قواعد وضعيّة وعقليّة تقبل بها الأكثريّة القصوى. وإلاّ فستبقى الأوطان والمجتمعات أسيرة حالة أقرب إلى الطبيعة وما تختزنه من تشنّجات ممّا هي إلى ضرورة قيام العقد الاجتماعيّ. وينسى الكثيرون من السياسيّين في العالم العربيّ ما قاله جان جاك روسّو – ونحن في ختام احتفاليّة مرور 300 سنة على ولادته – إنّ الحقّ في السلطة على الآخرين لا يأتي من حالة طبيعيّة أو ما فوق طبيعيّة، بل من إرادة الآخرين وحرّيّتهم في أن يمسك أحدهم بزمام السلطة. حسنًا فعل أولئك الذين اختاروا طريق وضع الدستور التوافقيّ والتصويت عليه قبل انتخاب حاكم عليهم.
وبالتالي، فإنّ الطريق السليم إلى المشاركة هو عبر التوافق على العقد الاجتماعيّ والدستوريّ، وإلاّ فستدخل البلاد في دوّامة المغالبات والصراعات، وتُفرغ ثورات الربيع العربيّ من مضامينها الأساسيّة، ألا وهي المطالبة بالحرّيّة والحقّ في المشاركة السياسيّة ووضع حدّ للفساد.
ومن الواضح أنّ بعضًا من مقالات المشرق، وعلى رأسها مقالة الأب صلاح أبوجوده في آفاق الديموقراطيّة العربيّة، ومداخلة الأستاذ نائل جرجس في حقوق الأقليّات المسيحيّة في الشرق، وتحليل كاتيا ريّا في الإعلام المسيحيّ في واقعه وتحدّياته، وغيرها من المقالات تحذّر كلّها من لغة المغالبة والاستقواء للسير في طريق المشاركة والإصغاء إلى الآخر قبل أيّ شيء.
عسى أن تزول سريعًا سحابة المغالبة السوداء فيحلّ مكانها صفاء المشاركة، لبناء مجتمع الغد وتعزيز العقد الاجتماعيّ والسياسيّ.
Share This