جاء في المداخلة المسهبة لوزير الثقافة الأسبق الدكتور اللبنانيّ غسّان سلامة، بعنوان: «سبعة تحدّيات تواجه التعليم العالي»: «لن أرهقكم بما تعلمون من ضآلة الموارد العربيّة المخصّصة للبحث العلمي، إذ نجد أنفسنا في أسفل البيانات العالميّة… ويقيني أنَّ أحد المفاتيح هو في إنشاء جامعات بحثيّة يكون البحث العلميّ فيها بأهميّة التعليم نفسه، إن لم يكن أهمّ…». جاء في العدد نفسه من الجريدة، ضمن توصيات «دورة لبنان»، في ما خصّ قرارات المؤتمر العامّ للاتّحاد: «البند 7 – نشاط المجلس العربيّ للدراسات العليا والبحث العلميّ، بما ينطوي عليه من دعم الأبحاث، ودعم الصندوق المموِّل، وحثّ المنظّمات الدوليّة الداعمة، وربط الجهات الداعة بعضها ببعض…؛ البند 20 – جائزة اتّحاد الجامعات العربيّة للباحث العربيّ المتميِّز».
 وجاء في النهار، على لسان دولا كرو سركيس نائبة رئيس جامعة القدّيس يوسف لشؤون البحث العلميّ: «تعمد الدول التي تحتلّ الأسواق العالميّة إلى تشجيع الصناعيّين على الانخراط في منظومة التعليم العالي والبحث العلميّ، بهدف التطوير والابتكار، ممّا يؤدّي إلى صناعة رائدة ذات قدرة تنافسيّة… إنّ التقدّم التكنولوجيّ في مجال الذكاء الاصطناعيّ يؤدّي يوميًّا إلى ولادة عدد كبير من المنتجات والخدمات الجديدة التي ستفرض تحوّلات جذريّة في أنظمة التعليم الجامعيّ ومناهجه، بحيث يكون للبحث العلميّ دور أساسيّ في مواكبة هذا التطوّر».
 صدر تصنيف «كواكاريلي سيموندز» العالميّ لجامعات الدول العربيّة 2019 - (GS Regional Rankings) – وهو تصنيف تقوم به المؤسّسة العالميّة منذ العام 2013 على التوالي. وبمعزلٍ عن ترتيب الجامعات العربيّة وتصنيفها، فثمّة تسعة مؤشِّرات رئيسيّة استخدمت في التصنيف العالميّ، من بينها: عدد الأوراق البحثيّة لكلّ أستاذ – نسبة الاستشهادات في كلّ ورقة بحثيّة – نسبة حاملي الدكتوراه في الهيئة التعليميّة (أي أصحاب البحوث والدراسات المصنَّفة) – نسبة الأساتذة الدوليِّين إلى كلّ هيئة التدريس.
لا ينحصرُ البحثُ العلميّ في العلوم البحتة كالرياضيّات والإحصاء والجبر أو العلوم التطبيقيّة كالفيزياء والكيمياء والجغرافية والطبّ والفلك وغيرها، بل يشمل أيضًا العلوم التي تعالج بيئة الإنسان أدبًا وقانونًا وتاريخًا واجتماعًا وعلمَ نفس وفنونًا شتّى. ولئن كانت الشركات العالميّة العملاقة، في عصرنا وفي الماضي، قادرة على القيام بالبحوث العلميّة القوامها عنصران لا غير: الأدمغة البشريّة والإلكترونيّة والمال، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، في ميادين الفلك والآثار والصناعات البتروليّة والأسلحة الفتّاكة وصناعة الأدوية والصناعات الحديثة الثقيلة، والإلكترونيّات، والصناعات الغذائيّة… فالشركات تبقى أمينة على مصالحها الماديّة، وعلى توسيع أسواقها الاستهلاكيّة العالميّة، بغية الإفادة والسيطرة الاقتصاديّة من نتائج الأبحاث والدراسات. ولئن قامت وتقوم الشركات العملاقة بتمويل بعض الأبحاث في ميادين متخصّصة وفي مؤسّسات معيّنة، ألا يخشى، على سبيل التشكيك لا التعميم، أن تكون وراء توجيه بعض البحوث إلى نتائج معيّنة تخدم مصالحها الماديّة والاقتصاديّة، في صناعات الأسلحة أو التبغ أو أدوية بعض الأمراض مثلًا. وليس من حقّ المراقب أن يشكّك في هكذا نتائج بحثيّة مموّلة، في عصر تسيطر عليه الذهنيّة الاستهلاكيّة والتوسّع المادّيّ المعولم. ألا يُجسِّد المثل الفرنسيّ المشهور هذه المعادلة: «Qui donne ordonne».
تبقى الجامعات، بكلِّيّاتها ومعاهدها المتخصِّصة، ومستشفياتها ومراكزها البحثيّة العائدة إليها، مؤتمنةً على رسالة العِلْم والتقدّم والترقّي والتطوّر، وقادرةً على إجراء البحوث العلميّة في مختلف الميادين، بنزاهةٍ وتجرّد وموضوعيّة، بعيدًا عن المنفعة والإفادة، وخدمةً للعِلْم والإنسان والبشريّة.
يتصدّر عدد المشرق للعام 2019، ملفّ خاصّ من مقالَيْن عن البحث العلميّ: الأوّل عن تكوين الباحث؛ والثاني عن الصعوبات التي تواجهه وتأثيرها في مصداقيّة النتائج وموضوعيّتها. والأستاذان الأصيلان المعدّان البحثَيْن يدرّسان كلاهما في الجامعة الوطنيّة، وفي جامعة القدّيس يوسف. إذ نفتتح بهذَيْن المقالَيْن باقةً من المقالات المتخصِّصة في ميادين علميّة وأدبيّة وتاريخيَّة وروحيَّة مختلفة، نكون قد أضأنا شمعةً بحثيَّة صغيرة في ظلام الجهل والتسلّط والسيطرة والتكالب على المادّة، ظلامٍ يحاول كلّ طالب وكلّ باحثٍ عن العلم وعن الحقيقة أن يجلوَه عن عينيه.
Share This