كان الجميع يعرفون أنّ بقاء الأب فرانس فان در لوخت اليسوعيّ في حمص القديمة، خصوصًا بعد رحيل غالبيّة المدنيّين من بين الأنقاض، فيه بعض المجازفة؛ إلاّ أنّه أبى إلاَّ أن يبقى، قائلاً لمن كانوا يسألونه عن مغزى بقائه: أنا حارس الدير. أنا حارس الذاكرة. صحيح أنّ المسيحيّين في أكثريّتهم خرجوا من بستان الديوان، إلاّ أنّي لم آتِ إلى سوريا من أجل المسيحيّين فقط، بل أتيتُ من أجل أن أكونَ في خدمة السوريّين جميعًا، من أجل خدمة المصالحة بين الناس، من أجل نموّهم الإنسانيّ والروحيّ، من أجل العيش المشترك. لا لن أخرج من هنا، بل إنّي باقٍ لمجرَّد بقاء إنسان واحد. في السابع من نيسان المنصرم، عند الصباح وبعد قدّاسه اليوميّ، انطفأ الأب فرانس بفعل رصاصات مجرمة أودت بحياته، إلاّ أنّ الشعلة التي أنارها بمُثُله وبمبادراته طيلة أكثر من ثلاثين سنة من الحضور المستمرّ من أجل الشعب السوريّ لم تنطفئ ولن تنطفئ. توهّج نارها قويّ كنار المحبّة التي أدخلته الرهبانيّة اليسوعيّة ودفعته إلى أن يكون رسولاً لا سلاح عنده سوى سلاح الرحمة.
وُلِد الأب فرانس في هولندا وعاش طفولة هنيئة لعائلةٍ تعمل في حقل المصارف. إلاّ أنّه اختارَ أن يكون مصرفيًّا عند ربّه وإلهه المُنتصِر على الموت وربّ الحياة، فأخذَ الوَزَنات التي ائتُمِنَ عليها وتاجر بها ونجح في تجارته. تخصّص مثل أترابه في الرهبانيّة اليسوعيّة بأعمال الملكوت، وتعمّق في أداة علميّة هي علم النفس، فكان خير معين وسندٍ لكثير من الناس الذين امتُحِنوا في قواهم النفسيّة والعقليّة، وكانت له كلمة الشجاعة والرجاء والحكمة والثقة، ترفعهم من محنتهم وبؤسهم. إشتهر بتنظيم المسير السنويّ إذ كان يلتقي الشبّان بعضُهم بعضًا من مشارب وطبقات وأديان ومذاهب متعدّدة، فيصبح المسيرُ مسيرةَ قافلةٍ عظيمة من مئات الأشخاص، يتحرّكون نحو الأفضل والأعمق، وإلى أعماقهم يستمدّون منها القوّة والعنفوان والإيمان. تعلّم العربيّة وأصبح طليقًا في استخدامها، لأنّ الرسول لا بدّ أن يكون متآخيًا مع الشعب الذي يستضيفه، ومع الناس الذين لا يقدرون التعاطي معه إلاّ بلغتهم.
إنتقل الأب فرانس في السنوات العشرين الأخيرة إلى بناء مشروع تنمويّ اجتماعيّ، استقطب العشرات والمئات من العمّال، شمّروا عن سواعدهم لبناء «مركز الأرض» الاجتماعيّ والجماعيّ، مركزٍ كان يستقبل عشرات المجروحين في أجسادهم وقلوبهم. ما كان يهمّه هو أن يجمع الناس في جماعة واحدة، فلا ينظر إلى مشاربهم الدينيّة أو يتأثّر بالنظريّات التي تدعو إلى تقارب الناس المختلفين دينيًّا. إلاّ أنّ «مركز الأرض» سريعًا ما أصابه منذ العام 2011 التدمير والتكسير والتخريب، وبالتالي انكفأ عنه وانتقل إلى المركز التاريخيّ لليسوعيّين في حمص. هنالك، ومنذ بداية الحرب السوريّة تحوّل الأب فرانس إلى ذلك السامريّ المعتني بالفقير والجائع والمريض والجريح. والجميع يذكر تلك النداءات التي أطلقها إلى الرأي العامّ الدوليّ حيث كان الشاهد في نداء أذاعه بكانون الثاني 2014، على أنّ المسيحيّين والمسلمين يواجهون الصعوبات نفسها. ومن أهمّ المشاكل هي مشكلة الجوع في القرن الحادي والعشرين، فلا أقسى من مشهد أن ترى الأمّ ساعية في التفتيش عن كسرةِ خبز من أجل أولادها في الشوارع. لا نقبل بالنزول إلى دَرَك الموت جوعًا، بل نحبّ الحياة ونريدها. كان آخر الأوروبيّين في مدينة حمص لأنّ «الراعي لا يترك قطيعه»، مهما كانت الصعوبات والأخطار والمحن.
كان يقول مردِّدًا أمام رفاقه اليسوعيّين: «إنتبهوا، إخوتي. حافظوا على الطفل النائم في قلوبكم واعتنوا به، لأنّه قوّة الحياة ونعمة كبيرة من الله». ألم يقل يسوع لأحبّائه الرسل والتلاميذ: «إن لم ترجعوا كالأطفال، فلا تقدروا أن تدخلوا ملكوت الله». ومع قداسة البابا فرنسيس نقول: إنّه عمل الخير للجميع من دون تمييز، وبحبّ كبير. لقد أحبّ الأب فرانس الجميع وأحبّته سوريا شعلةً لن تنطفئ أبدًا. ولأنّك كنتَ تؤمنُ بالغدّ الأفضل، كنتَ تردّد دائمًا وبروح الرجاء: إلى الأمام، إلى الأمام.
Share This