توقَّفتُ على فكرةٍ خطرت في أنَّ الأساسيّ هو استمرار الإنسان والمجتمعات على قيد الحياة. الفكرة تقول ببسيط العبارة إنّ الإنسان يحتاج إلى متطلّبات فيزيولوجيّة مثل الشراب والأكل والنوم والتنفُّس، وإلى حاجات على مستوى الأمن النفسيّ مثل البيئة الحامية والعائلة الساهرة والراحة والسلام، وإلى مشاعر جلُّها عاطفيّة مثل الحبّ والرأفة والرحمة ودفء الصداقة، وكذلك حاجة الإنسان إلى أن يكون مُعتَبرًا ومُحْتَرمًا ومقدَّرًا في كلامه وأعماله. هذا كلّه جيّد وأمر مستحبّ ومُسْتَحْسن، إلاّ أنّ ذلك في نظر الإنسان الحكيم والعارف ببواطن الأمور وبمصائر الناس لا يكفي، بل ثمَّة أمران أساسيّان – لا إضافيّان – لا بدّ أن يتحقّقا لتستقيم حياة الإنسان من دون خوف أو وجل: إنّه في حاجة إلى القيادة السياسيّة الحكيمة الرشيدة الوازنة، وقد لا نتوقّف على الحاجة إلى القيادة السياسيّة بالرغم من أهمّيّتها، بل سنتوقّف على موضوعٍ ثانٍ، له بعده ومعناه في حياة البشر وهو من الأولويّات. فالإنسان في حاجة وبوجه أساسيّ إلى الثقافة الإنسانيّة الواسعة الآفاق، حاملة القِيَم الإنسانيّة الأساسيّة النابعة من صلب كلّ دين وكلّ مذهب، ومن كلّ فكر سياسيّ صحيح، وهي قِيَم احترام الآخر المختلِف أو حتّى الشبيه، إذ إنّ العيش الكريم لا يقتصر على تأمين الحاجات الأساسيّة والصحيّة والتعليميّة وحسب، بل مرتبط بتأمين الحاجات الثقافيّة والفنيّة والروحيّة لإنسان اليوم. فاللفتة اليوم إلى موضوع تأمين الثقافة القيميّة الاجتماعيّة والإنسانيّة وحتّى الفكريّة الذي يشكّل نقلةً نوعيّة في التعاطي مع قضيّة الإنسان في القرن الواحد والعشرين، وقضيّة إدارة المجتمعات التعدّديّة. فهذه الثقافة هي المضادّ الحيويّ لكلّ الشواذات الحاصلة والعنف المستشري بين الناس باسم الدين. فهذه الثقافة ليست عملاً آنيًّا أو ظرفيًّا أو هامشيًّا، بل هي عمل دؤوب، مقاوم، مستديم وقويّ. هذه الثقافة ليست عملاً تقوم به المدرسة والجامعة أو مؤسّسة من المؤسّسات، بل هي عملٌ شاملٌ تقوم به مؤسّسات المجتمع بكليّته، من العائلة إلى المدرسة إلى وسائل الإعلام وإلى الأديان والمذاهب والأحزاب السياسيّة قاطبة. فالتعدّديّة واقعٌ اجتماعيّ وسياسيّ ودينيّ وثقافيّ ينبغي إدارته بالكثير من القِيَم التي يكتسبها كلّ إنسان، لا بالقليل منها، لأنّ القليل ربما تحرّفُه الأطباع المتعصّبة والنفوس الحيوانيّة المتوحّشة، والرغبة الدفينة في قتل الآخر المختلِف حتّى من ضمن الجماعة الواحدة.
رسالة المشرق منذ العام 1898 هي أن تكون في طليعة الأدوات الداعية إلى هذه الثقافة الإنسانيّة الرائدة. إنّ التحدّي هو في إكمال الطريق نحو حضارة الثقة المتبادَلة من ضمن حوار العقول والقلوب.
رسالة المشرق منذ العام 1898 هي أن تكون في طليعة الأدوات الداعية إلى هذه الثقافة الإنسانيّة الرائدة. إنّ التحدّي هو في إكمال الطريق نحو حضارة الثقة المتبادَلة من ضمن حوار العقول والقلوب.