وهل لمجلّة مثل المشرق أن تهتمّ بالطرب والمطربين من أمثال وديع الصافي؟ لقد رحل في العاشر من شهر تشرين الأوّل، إلاّ أنّه صار إرثًا لا يُمحى من ذاكرة لبنان الثقافيّة. إنّه يختصر تاريخًا وجبلاً ووديانًا، وهو قيمة مُضافة أنعمَ الله بها على بلادنا، فلنحافظ عليها. لن أكتب فقط هنا عن وديع الصافي الذي تحوّل بفعل الأحداث الأليمة في لبنان وبفعل حروبه المجنونة، إلى مرتّل كثيرٍ من التراتيل والأدعية بصوته الشجيّ، ومنها ترتيلة «الأبانا» الشهيرة التي تدمع العين عند سماعها. الواقع أنّ وديع الصافي كان مرتّلاً من الطراز الأوّل، ومنذ شبابه عندما كان يخدم القداديس؛ ولقد اشتهر بقدّاسَيْن مسجّلَيْن: الأوّل مع الأب مارون مراد الأنطونيّ، والثاني مع الأب إلياس سعاده، وهما قمّة في الأداء الشعوريّ الدينيّ العميق، حاملاً شوق البشريّة وتوقها إلى الماورائيّة. عرفتُه في باريس بداية الثمانينيّات من القرن الماضي مُنشدًا ومُرتّلاً في كنيسة سيّدة لبنان. ربّما لم يكن قريبًا من خصائص الليتُرجيا السريانيّة وموسيقاها، إلاّ أنّه لم يكن خجولاً في المشاركة بصوتٍ يمجّد ويسبِّح، بما يكتنز من طاقاتٍ تتمازج بها الميجانا والعتابا وألوان الفولكلور اللبنانيّ. وفي أحد الآحاد، وكان وديع الصافي ينشد في الكنيسة، اقترب منه مدير الجوقة وصحّح له جملةً لم يحافظ فيها على قواعد اللغة العربيّة، فتكدّرَ وديع ولم يأت في الأحد اللاحق، إلاّ أنَّ قلبه كان قلب طفل، إذ شارك في القدّاس والتراتيل بعد أسبوعَيْن وصحّح ما يجب تصحيحه، ودعا الجميع إلى تناول الغداء إلى مائدته!
إنّه وديع الصافي وكفى! مئات ومئات من الأغاني والأناشيد كان حظّها أنّها انطلقت من تلك الحنجرة التي شبّهها بعضُهم بأنّها شُقَّت من صخور لبنان وارتوت من مياه جبله، فأصبحت الحنجرة الصافية التي غنّت للبنان ومن لبنان، على مدى ستّين عامًا على الأقلّ، منذ الخمسينيّات من القرن الماضي حتّى نهاية العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين. شاخ وديع الصافي جسديًّا، إلاّ أنّه مع مرور الزمن أصبح مثل البرج الصامد في وجه العاتيات، وباتت المئات من أغانيه قويّة شابّة بعودٍ أخضر قُدّ من شجرات الجبل، من شجرات السنديان العتيق والأرزات الخالدات. يكفي أن نتذكّر بعض العناوين حتّى نتحقّق من أنّ وديع الصافي مرادفٌ للفنّ اللبنانيّ الأصيل، شأنه في ذلك شأن فيروز في أغانيها والأناشيد. مَنْ منّا لا يتذكّر الألحان الرحبانيّة يغنّيها الصافي في عناوين مثل: … «لا إنتْ راضي…» و«دقّ باب البيت عالسكّيت» و«مرسال الهوى» و«سهرة الحبّ» الخالدة و«رح حلّفك بالغصن يا عصفور»… وإن عدنا إلى زمن أبعد من العقدَيْن الأخيرَيْن، رأينا أنَّ وديع شارك في الأفلام مغنّيًا فرحًا، وصدح صوته بتلك الأغاني الشهيرة التي ما زال صداها يتردّد حتّى اليوم مثل: «عالبال يا عصفورة النهرَيْن» للرحابنة و«لوَيْن يا مروان» و«لبنان يا قطعة سما» و«ليلتنا من ليالي العمر»، ومجمل هذه الأغاني من ألحان زكي ناصيف.
وديع الصافي لم يكن وقفًا على طائفةٍ أو جماعة معيّنة. بصوته الصدّاح اخترق الحدود المصنوعة من الإنسان أو من الطبيعة ليجمع الناس حول الجمال والخير. قيل إنّه يختصر حقبةً تاريخيّة، وذلك صحيح، إلاّ أنّه لم يغنِّ شعرًا وأبياتًا وحسب، بل جبلَ بأغنيته صورًا متعدّدة من العالم الماديّ والروحيّ والنفسيّ والاجتماعيّ لزمنٍ صار وراءنا. كما أنّ الصوت المعجزة يستعيد الزمن ليعيد إنتاجه اليوم ويزرع مقوِّماته الجماليّة في زمننا الحاضر. هؤلاء الذين يربطون الأزمنة بعضَها ببعضِها الآخر قليلون وقليلون جدًّا. عالمنا في حاجة إليهم، إلى أصواتهم، إلى حنانهم، وإلى دعائهم والصلوات. إنّهم من سلالة الأنبياء. عفوك، وديع الصافي!
إنّه وديع الصافي وكفى! مئات ومئات من الأغاني والأناشيد كان حظّها أنّها انطلقت من تلك الحنجرة التي شبّهها بعضُهم بأنّها شُقَّت من صخور لبنان وارتوت من مياه جبله، فأصبحت الحنجرة الصافية التي غنّت للبنان ومن لبنان، على مدى ستّين عامًا على الأقلّ، منذ الخمسينيّات من القرن الماضي حتّى نهاية العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين. شاخ وديع الصافي جسديًّا، إلاّ أنّه مع مرور الزمن أصبح مثل البرج الصامد في وجه العاتيات، وباتت المئات من أغانيه قويّة شابّة بعودٍ أخضر قُدّ من شجرات الجبل، من شجرات السنديان العتيق والأرزات الخالدات. يكفي أن نتذكّر بعض العناوين حتّى نتحقّق من أنّ وديع الصافي مرادفٌ للفنّ اللبنانيّ الأصيل، شأنه في ذلك شأن فيروز في أغانيها والأناشيد. مَنْ منّا لا يتذكّر الألحان الرحبانيّة يغنّيها الصافي في عناوين مثل: … «لا إنتْ راضي…» و«دقّ باب البيت عالسكّيت» و«مرسال الهوى» و«سهرة الحبّ» الخالدة و«رح حلّفك بالغصن يا عصفور»… وإن عدنا إلى زمن أبعد من العقدَيْن الأخيرَيْن، رأينا أنَّ وديع شارك في الأفلام مغنّيًا فرحًا، وصدح صوته بتلك الأغاني الشهيرة التي ما زال صداها يتردّد حتّى اليوم مثل: «عالبال يا عصفورة النهرَيْن» للرحابنة و«لوَيْن يا مروان» و«لبنان يا قطعة سما» و«ليلتنا من ليالي العمر»، ومجمل هذه الأغاني من ألحان زكي ناصيف.
وديع الصافي لم يكن وقفًا على طائفةٍ أو جماعة معيّنة. بصوته الصدّاح اخترق الحدود المصنوعة من الإنسان أو من الطبيعة ليجمع الناس حول الجمال والخير. قيل إنّه يختصر حقبةً تاريخيّة، وذلك صحيح، إلاّ أنّه لم يغنِّ شعرًا وأبياتًا وحسب، بل جبلَ بأغنيته صورًا متعدّدة من العالم الماديّ والروحيّ والنفسيّ والاجتماعيّ لزمنٍ صار وراءنا. كما أنّ الصوت المعجزة يستعيد الزمن ليعيد إنتاجه اليوم ويزرع مقوِّماته الجماليّة في زمننا الحاضر. هؤلاء الذين يربطون الأزمنة بعضَها ببعضِها الآخر قليلون وقليلون جدًّا. عالمنا في حاجة إليهم، إلى أصواتهم، إلى حنانهم، وإلى دعائهم والصلوات. إنّهم من سلالة الأنبياء. عفوك، وديع الصافي!