بما‭ ‬أنّ‭ ‬منطقتنا‭ ‬العربيّة‭ ‬والشرق‭ ‬أوسطيّة‭ ‬تعيش‭ ‬خارج‭ ‬المألوف،‭ ‬أيْ‭ ‬في‭ ‬الحروب‭ ‬والكراهية،‭ ‬والمألوف‭ ‬هوالحبّ‭ ‬والعدل‭ ‬والسلام،‭ ‬فإنّني‭ ‬أقترح‭ ‬عليكم‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬مألوف،‭ ‬لكن‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬غير‭ ‬مألوف‭. ‬إنّه‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التأمّل‭ ‬الفلسفيّ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬طريق‭ ‬الخلاص،‭ ‬في‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ،‭ ‬نعم‭ ‬في‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭.‬

لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬أعرّج‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬فلاسفة‭ ‬هذا‭ ‬الدهر‭ ‬اللواتي‭ ‬طبعن‭ ‬بطابعهن‭ ‬الفكر‭ ‬الخارج‭ ‬من‭ ‬دياميس‭ ‬الحرب‭ ‬العالميّة‭ ‬الثانية‭. ‬إنّها‭ ‬سيمون‭ ‬فايل،‭ ‬المفكّرة‭ ‬الخارجة‭ ‬عن‭ ‬المألوف،‭ ‬التي‭ ‬قالت‭ ‬مرّة‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬كتاباتها‭: ‬‮«‬إنّ‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬يدفع‭ ‬كلّ‭ ‬امرئٍ‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬هذه‭ ‬البسيطة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أيّ‭ ‬استثناء‭ ‬في‭ ‬دينه‭ ‬أو‭ ‬عِرْقه‭ ‬أو‭ ‬ثقافته،‭ ‬وفي‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭ ‬من‭ ‬أمكنة‭ ‬الأرض‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬تضامنه،‭ ‬لا‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬حبّه‭ ‬وعطفه‭ ‬على‭ ‬كلّ‭ ‬الكائنات‭ ‬السريعة‭ ‬العطب‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طيّاتها‭ ‬عبقًا‭ ‬بين‭ ‬الجمال‭ ‬والسعادة‭. ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬هذه‭ ‬الكائنات،‭ ‬أبشريّةً‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬حتّى‭ ‬من‭ ‬أجناس‭ ‬أخرى،‭ ‬أم‭ ‬أشياء‭ ‬مادّيّة‭ ‬أو‭ ‬لامادّيّة‭ ‬أدرجت‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬التاريخ‭ ‬البشريّ‮»‬‭.‬

إنَّ‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬استنكار‭ ‬المجازر‭ ‬التي‭ ‬يقترفها‭ ‬الناس‭ ‬بعضهم‭ ‬ببعضهم‭ ‬الآخر،‭ ‬لا‭ ‬الشفقة‭ ‬ولا‭ ‬الحسابات‭ ‬السياسيّة‭ ‬الضيّقة‭ ‬أو‭ ‬الواسعة،‭ ‬لأنّ‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬إلى‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الرأفة‭ ‬تجاه‭ ‬العدوّ،‭ ‬حتّى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬متغطرسًا‭. ‬في‭ ‬العادة،‭ ‬مَن‭ ‬يحبّ‭ ‬لا‭ ‬يعبّر‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالكلمات‭ ‬والإشارات‭ ‬عن‭ ‬حبّه،‭ ‬لأنّ‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬إنّما‭ ‬يحوّل‭ ‬مَن‭ ‬يحبّ‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الشمس‭ ‬المُشعّة،‭ ‬لأنّ‭ ‬الحبّ‭ ‬لا‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الكلمات،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬الأعمق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬في‭ ‬الأفكار‭ ‬وفي‭ ‬العاطفة‭ ‬وفي‭ ‬حركة‭ ‬اليدَيْن‭ ‬والجفون‭ ‬وفي‭ ‬النظرة‭. ‬فعندما‭ ‬تأتي‭ ‬الكلمات،‭ ‬تكون‭ ‬إشعاعًا‭ ‬لما‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬والقلب‭ ‬تجاه‭ ‬الكائن‭ ‬الآخر،‭ ‬رغبةً‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ينمو‭ ‬هذا‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬الحبّ‭ ‬والخير‭ ‬والسعادة‭.‬

جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬أرسطو‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬كتاباته‭ ‬يمنع‭ ‬التعبير‭ ‬بالكلمات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طيّاتها‭ ‬فكرة‭ ‬الحبّ،‭ ‬وجنون‭ ‬الحبّ‭ ‬يمنع‭ ‬الأفكار‭ ‬والخواطر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬الواحد‭ ‬أن‭ ‬يشعّ‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬حبًّا‭ ‬وعاطفة‭. ‬وربّ‭ ‬سائل‭ ‬يسأل‭: ‬هل‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬العقل‭ ‬والمنطق؟‭ ‬جواب‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الألمانيّ‭ ‬هيغل‭ ‬أنّ‭ ‬الحبّ‭ ‬هو‭ ‬العبارة‭ ‬الأسمى‭ ‬للحياة‭ ‬والعقل،‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬هذه‭ ‬العبارة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬إنّه‭ ‬يعمل‭ ‬لتوحيد‭ ‬تلك‭ ‬الحياة‭ ‬بعضها‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬وهو‭ ‬ليس‭ ‬نقيض‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ،‭ ‬بل‭ ‬إنّه‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬معانيه‭ ‬وغاياته‭. ‬ويأتي‭ ‬العقل‭ ‬الأخلاقيّ‭ ‬ليوجّه‭ ‬الحبّ‭ ‬في‭ ‬جنونه‭ ‬إلى‭ ‬احترام‭ ‬كرامة‭ ‬الآخر،‭ ‬لأنّ‭ ‬الحبّ‭ ‬في‭ ‬نظره‭ ‬ليس‭ ‬مجرّد‭ ‬عاطفة‭ ‬أو‭ ‬شعور،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬حركة‭ ‬داخليّة‭ ‬هدفها‭ ‬توحيد‭ ‬الكيان‭ ‬الداخليّ‭ ‬لكلّ‭ ‬شخص‭ ‬محبّ‭ ‬أو‭ ‬حبيب‭.‬

إنَّ‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ،‭ ‬ونحن‭ ‬ناظرين‭ ‬إلى‭ ‬حالتنا‭ ‬التي‭ ‬يرثى‭ ‬لها،‭ ‬يقول‭ ‬بصوت‭ ‬عالٍ‭: ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬أن‭ ‬يُمرَّغ‭ ‬البريء‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬التراب‭ ‬وأن‭ ‬يهان‭ ‬كلّ‭ ‬يوم،‭ ‬وألّا‭ ‬ينال‭ ‬المجرم‭ ‬باسم‭ ‬الحبّ‭ ‬عقابه‭. ‬والحبُّ‭ ‬المجنون‭ ‬هو‭ ‬صديق‭ ‬الحكمة،‭ ‬لا‭ ‬صديق‭ ‬الواقعيّات‭ ‬السياسيّة،‭ ‬أو‭ ‬نديم‭ ‬المصلحة‭ ‬العامّة،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يوقف‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الكاردينال‭ ‬لوستجيه،‭ ‬لا‭ ‬الشتائم‭ ‬ولا‭ ‬الاضطهادات‭ ‬ولا‭ ‬التهديدات‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬توقف‭ ‬صبر‭ ‬المحبّة‭ ‬وتقدّم‭ ‬الحبّ‭ ‬في‭ ‬شرايين‭ ‬البشريّة‭. ‬مجتمعاتنا‭ ‬كم‭ ‬هي‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬جنون‭ ‬الحبّ‭ ‬لكي‭ ‬تتحوّل‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬الحقد‭ ‬على‭ ‬الآخر‭ ‬المختلف‭ ‬إلى‭ ‬نظرة‭ ‬تساعد‭ ‬كلّ‭ ‬إنسان‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكتسب‭ ‬معنًى‭ ‬لحياته‭ ‬وأن‭ ‬يؤكّد‭ ‬كرامته،‭ ‬طريقًا‭ ‬إلى‭ ‬الخلاص‭.‬

Share This