لا بدّ أن أعرّج على إحدى فلاسفة هذا الدهر اللواتي طبعن بطابعهن الفكر الخارج من دياميس الحرب العالميّة الثانية. إنّها سيمون فايل، المفكّرة الخارجة عن المألوف، التي قالت مرّة في إحدى كتاباتها: «إنّ جنون الحبّ يدفع كلّ امرئٍ على وجه هذه البسيطة، من دون أيّ استثناء في دينه أو عِرْقه أو ثقافته، وفي كلّ مكان من أمكنة الأرض إلى أن يعبّر عن تضامنه، لا بل عن حبّه وعطفه على كلّ الكائنات السريعة العطب التي تحمل في طيّاتها عبقًا بين الجمال والسعادة. جنون الحبّ يدفع إلى حماية هذه الكائنات، أبشريّةً كانت أم حتّى من أجناس أخرى، أم أشياء مادّيّة أو لامادّيّة أدرجت نفسها في سياق التاريخ البشريّ».
إنَّ جنون الحبّ يدفع إلى استنكار المجازر التي يقترفها الناس بعضهم ببعضهم الآخر، لا الشفقة ولا الحسابات السياسيّة الضيّقة أو الواسعة، لأنّ جنون الحبّ هو ما يدفع إلى التعبير عن نوع من الرأفة تجاه العدوّ، حتّى ولو كان متغطرسًا. في العادة، مَن يحبّ لا يعبّر كثيرًا بالكلمات والإشارات عن حبّه، لأنّ جنون الحبّ إنّما يحوّل مَن يحبّ إلى نوع من الشمس المُشعّة، لأنّ الحبّ لا يكمن في الكلمات، بل في الأعمق من ذلك بكثير، في الأفكار وفي العاطفة وفي حركة اليدَيْن والجفون وفي النظرة. فعندما تأتي الكلمات، تكون إشعاعًا لما في الفكر والقلب تجاه الكائن الآخر، رغبةً في أن ينمو هذا الآخر في الحبّ والخير والسعادة.
جنون الحبّ كما يقول أرسطو في إحدى كتاباته يمنع التعبير بالكلمات التي لا تحمل في طيّاتها فكرة الحبّ، وجنون الحبّ يمنع الأفكار والخواطر التي لا يقدر الواحد أن يشعّ من خلالها حبًّا وعاطفة. وربّ سائل يسأل: هل جنون الحبّ هو خارج العقل والمنطق؟ جواب الفيلسوف الألمانيّ هيغل أنّ الحبّ هو العبارة الأسمى للحياة والعقل، هو في خدمة هذه العبارة من حيث إنّه يعمل لتوحيد تلك الحياة بعضها مع الآخر، وهو ليس نقيض جنون الحبّ، بل إنّه يعبّر عن معانيه وغاياته. ويأتي العقل الأخلاقيّ ليوجّه الحبّ في جنونه إلى احترام كرامة الآخر، لأنّ الحبّ في نظره ليس مجرّد عاطفة أو شعور، بل هو حركة داخليّة هدفها توحيد الكيان الداخليّ لكلّ شخص محبّ أو حبيب.
إنَّ جنون الحبّ، ونحن ناظرين إلى حالتنا التي يرثى لها، يقول بصوت عالٍ: لا مجال أن يُمرَّغ البريء دومًا في التراب وأن يهان كلّ يوم، وألّا ينال المجرم باسم الحبّ عقابه. والحبُّ المجنون هو صديق الحكمة، لا صديق الواقعيّات السياسيّة، أو نديم المصلحة العامّة، ولا شيء يستطيع أن يوقف جنون الحبّ كما يقول الكاردينال لوستجيه، لا الشتائم ولا الاضطهادات ولا التهديدات من شأنها أن توقف صبر المحبّة وتقدّم الحبّ في شرايين البشريّة. مجتمعاتنا كم هي بحاجة إلى جنون الحبّ لكي تتحوّل من نظرة الحقد على الآخر المختلف إلى نظرة تساعد كلّ إنسان على أن يكتسب معنًى لحياته وأن يؤكّد كرامته، طريقًا إلى الخلاص.