عند حدوث أيّ جريمة إرهابيّة بحقّ الأبرياء أغربيّين كانوا أم أقباطًا أم مسلمين، تتعدّد الإدانات وأصوات الشجب والاستنكار مهدّدة باقتلاع الإرهاب من جذوره. ويضاف إلى ذلك كلّه كمٌّ لا يُستهان به من التصريحات المعلّبة التي تندِّد بالفعلة الماكرين والجاهلين قواعد الدِّين وتبرِّئ ساحته من أيّ إرادة للعنف وقتل الأرواح البريئة، وبالتالي تعلن عاليًا أنَّ الدِّين رسالةٌ سمحاء ودعوة إلى الأمان والسلام لا تعرف على الإطلاق تلك النزوات الخبيثة التي هدفها إهلاك الإنسان لا بل الدِّين عينه.
لنسلّم جدلًا أنَّ هذه التصريحات والإدانات هي في مكانها، وكذلك ردّات الفعل المؤدِّبة التي تقوم بها الحكومات حيال مرتكبي تلك الأفعال الشنيعة باسم الدِّين، لا بل باسم الله عزّ وجلّ من دون رادع أو وازع. إلاّ أنّ هذه المواقف تبقى سلبيّة ومحدودة المفاعيل حيال ما يقترفه المجرمون، حتّى لا نقول إنّها تعزِّز مكانته أمام الشعوب، لأنّها لا تنتقل إلى مرحلة أخرى، وهي السعي إلى البحث عن المصادر الأساسيّة ومسببّات هذا العنف الذي لا ينجم عن أسباب تتعلّق بالفقر والحرمان وحسب، بل إنّ له علاقة بثقافة معيّنة تسمح بالتطاول عنفًا وقهرًا على الآخر المختلف دينًا أو ثقافة أو عقيدة. ولنقل إنّ هذه الثقافة مصدرها التربية في المدرسة على وجه الخصوص، إلى جانب التأثير المجتمعيّ سواء أعلى مستوى منابر الدعاة والواعظين كان ذلك أم على مستوى القنوات التلفزيونيّة. ألم تُشر إحدى الدراسات إلى أنّ التلفزيونات في العالم العربيّ والإسلاميّ تبثُّ إمّا البرامج المقزِّمة الآخر (25 بالمئة)، وإمّا البرامج الدينيّة التي لا تتردّد في تهميش الآخر المختلف إن لم نقل أكثر (25 بالمئة)، وإمّا المسلسلات من مختلف الألوان والأجناس التي تغرق المشاهد في نوعٍ من التنويم النفسيّ والمغناطيسيّ (50 بالمئة)، فلا وقت له للتفكير أو لمراجعة أقواله وسلوكه نقدًا.
والمراقب التربية في المدرسة ببعض البلاد حتّى تلك التي أعلنت الحرب على التكفير والتكفيريّين وعلى الإرهاب والإرهابيّين، يجد أنّ الكتب المدرسيّة تحتوي على الكثير من الإشالكاليّات الموظِّفة التكفير، وذلك على مستويَيْن: ففي كتب اللغة العربيّة وآدابها سقط الأدب العربيّ الوضعيّ من القاموس، وحلّ مكان النصوص الأدبيّة الشهيرة النصوصُ الدينيّة المختلفة والمتعدِّدة المشارب، كما أنّ الحصص المكرّسة لتعليم اللغة والعقيدة والشريعة تفوق في بعض الأحيان الحصص المكرّسة لتعليم العلوم والرياضيّات واللغات العالمية. ويُجمع دارسو الكتب الدينيّة على أنّها تحتوي نظرة ضيّقة لا متسامحة تعادي الآخرين وتضعهم في مكانة الخارج على العقيدة، وبالتالي تؤسّس عند المتعلّم تلك الثقافة المعادية لوجود الآخر الذي يُنظر إليه وكأنّه خطرٌ على إجماع الأمّة وصلابتها.
ويرتبط هذا المنحى في إعداد كتب التعليم الدينيّ وحتّى المدرسيّة منها بوجهٍ عامّ برفضٍ للتغيير تتزعمّه القيادات المحافظة، بحجّة عدم التخلّي عن أساسيّات العقيدة، والنظر إلى ذلك كأنّه جزءٌ لا يتجزأ من الصحوة الدينيّة العامّة. فكيف تتخلّى دولة ما أو حركة معيّنة عن تلك «الأساسيّات»، في حين أنّ دولًا أخرى تتشبّث بها في كتبها وأدبيّاتها؟ إذ بعد أيلول 2001، صُرفت مليارات الدولارات على تجديد الكتب الدينيّة وإصلاحها وتحديثها، إلاّ أنّ النتيجة كانت عودة إلى الوراء، لأنّ مقابل كلّ كتاب مُحدَّث كان يصدر عشرون من التقليد، وبالتالي سقط الإصلاح وارتدَّ المصلحون يحملون آثار الخيبة وتبعاتها.
إنّها الحلقة المفرغة، وإنّها المصيبة المستمرّة في عقولٍ تتآكلها الرغبة في القضاء على الآخرين، وبالتالي على الذات أيضًا. وبالرغم من ذلك، فإنّ إرادة التغيير لا زالت واعية في بعض الأصقاع وعند الكثير من المستنيرين، وهي خميرة لن تذوب إلاّ بتخمير ثقافة جديدة.
وإنّ مجلّة المشرق في مختلف إسهاماتها في هذا العدد الجديد إنّما تشارك ولو بوجهٍ محدود، في الدعوة إلى تغليب العقل الناقد، حتّى تستقيم الثقافة الداعية إلى الاحترام، أي إلى الوقوف بخَفَر عند حريّة حياة الإنسان الآخر المختلفِ، وهذا من الثوابت التي تنادي بها أيّ نهضة تحترم ذاتها والآخرين.
Share This